شوف تشوف

الرأي

مفكر في رحاب القصر الملكي

دعك من أسطورة الأقمار الصناعية التي تدقق في أرقام السيارات، وتخترق ما تحت السقوف ومن في باطن الأرض. فهي مثل الردارات اللاقطة تخلد أحيانا للاستراحة أو العطب. والراجح أن الكميات الوافرة من المعطيات التي تختزنها على مدار الثواني والساعات، لا تسعف في قراءتها، إلا في المناطق الأكثر توترا التي تستغرقها الحروب والمصالح.
أما في غيرها من أرض الله الشاسعة، فثمة من يرصد حركة التنفس وصدى المكالمات الهاتفية وتقلبات الأمزجة التي تؤثر في الأحداث. لكن التكنولوجيا التي اخترعت لخدمة الإنسان تتوقف أيضا على لمساته واهتماماته، إذ يدير طواحينها في اتجاه ما يرغب في متابعته، أو يتأفف عن رصد ما دونها من تموجات.
لا نعرف تدقيقا إن كانت هذه الأقمار اهتمت بالحركة التي عرفها الشريط الحدودي بين المغرب والجزائر ذات أيام من ثمانينيات القرن الماضي، اختلفت عما سبقها وما لحقها، حين نصبت الخيام ورصفت الطرقات وسويت الأرض، كي لا ينبعث منها الغبار على وقع زمجرة السيارات والعربات.
لم لا يكون الأمر مجرد استعداد لإقامة حفلات الفروسية « التبوريدة» فيه أيضا، تبدأ بنصب الخيام وتعليق الأعلام وتهذيب الساحات؟ ثم لماذا كان يجب التركيز على منطقة هادئة، لا شيء فيها يومي بأن أزمة في الطريق؟ فالمغاربة والجزائريون يتقاتلون بوكالة بصمت عليها قيادة الجيش الجزائري، تحت يافطة بوليساريو الانفصالية، والمعارك تلتهب على بعد مسافة أطول في اتجاه الجنوب.
حتى المواجهات العسكرية التي اندلعت بين قوات البلدين الجارين في خريف العام 1963، توغلت جنوبا عند المثلث الرابط بين تيندوف ومحاميد الغزلان وفجيج، قبل أن تهب رياح حرب من نوع آخر استخدمت فيها بوابات الحدود التي صارت مغلقة إلى أجل غير معهود ولا معلوم.
معظم التقارير الواردة على عواصم الدول الوازنة، انطلاقا من المغرب والجزائر، تركز على مآل تطورات ملف الصحراء. بينما الدبلوماسية المغربية شقت طريقا محفوفا بالصعوبات، نحو الشرق الأوسط، بحثا عن فرصة سلام عادل، لم يكتب لها أن تأتي على قدر نوايا والتزامات قادة الدول العربية في قمة فاس الفريدة. وما من طرف كان يحمل تحركات العقيد معمر القذافي على محمل الجد. فهو متقلب ومنفعل يقول بالشيء ويفعل نقيضه. عدا أن الحدود الفاصلة بين ليبيا والمغرب لا تسمح باحتكاك أو اشتباك مباشر.
على السطح الظاهر من جبل الجليد أن العقيد القذافي أوفد مبعوثين إلى غالبية العواصم العربية، يحملون رسائل باقتراحات، تمني النفس بأي شكل من أشكال الوحدة. وما ثبت على امتداد التجارب أن أي وحدة التأمت بين ملكية عريقة وجمهورية ناشئة. فقد انقاد نحوها المصريون والسوريون خلال مدة وجيزة. وحاولت القاهرة والخرطوم أن تفتح الأفق ذاته بلا جدوى. لكن المغاربيين بقوا أقل اندفاعا في تكرار هذا النمط الذي تزخر به الخطب والنظريات، من دون أن تقوى التجارب الوحدوية على الصمود.
عندما يغيب الترقب ينشغل الدبلوماسيون باكتشاف ما لا يعرفونه. يجولون على مناطق مترامية ويمارسون هواياتهم المفضلة في نهاية الأسبوع. غير أن السفير الأمريكي في الرباط التفت إلى أجندته، ووجد أن رحلة إلى إقليم الحوز في انتظاره لتفقد أعمال اجتماعية في قرية نموذجية، أقرب إلى مركب يمارس فيه النساء والأطفال حقوقا في التمدرس والإنتاج وبعض الخدمات المدرة للدخل.
بضع ساعات هناك خارج ضغوط العاصمة كافية لإراحة النظر والتخلص من ضيق المدينة. وما النفور من حياة المدن إلا التعبير عن حاجة الإنسان للخلاص من العادات التي اكتسبها في العيش داخل دوائر محددة. ولم يفكر السفير الأمريكي لحظة واحدة في أنه سيخلف موعدا مع حدث هز أركان إدارة البيت الأبيض، لأنه لم يكن واردا في أكثر السيناريوهات مفاجأة.
التأمت الاتصالات على نطاق ضيق، ثم توسعت تبحث عن أسئلة شافية لما حدث. ووجد الدبلوماسي الأمريكي نفسه، إلى جانب رفاق آخرين في ممثليات أجنبية، صاغرا يذعن إلى حقيقة أن الرباط وطرابلس أبرمتا اتفاق وحدة لم تكن في الحسبان بكل المعايير والاستقراءات، حتى تلك التي لا تستثني طبائع البشر والدول في صنع المفاجآت، وإن بدت خارج المألوف والمتوقع. وكان خطئا لا يغتفر أنه ترك العاصمة الرباط في وقت غير ملائم. ولم ينتبه إلى أن الخيام التي نصبت على الشريط الحدودي، كانت لاحتضان حفل فروسية مختلف في شكله وعنوانه وأبعاده. إذ وضع كل من الملك الحسن الثاني والعقيد القذافي سلاحهما الذي رفعاه في وجه بعضهما سنوات، وراحا يجربان وصفة التفاهم والتفهم.
لا عاطفة ولا مشاعر، فالبلدان تفصلهما عن بعضهما، الجزائر وتونس، وإبرام وحدة خارج الرقعة الجغرافية المشتركة أقل مدعاة للتحفظ منها حين تحدث بين جارين. لكن العقل الغربي الذي كان في المغرب نموذجا للاعتدال والواقعية السياسية، في مقابل التطرف والتهور الذي انطبع به نظام القذافي لم يتقبل هذا المنحى غير الاعتيادي في العلاقات المغربية- الليبية.
رد المغرب بكل الأصوات والأدلة أن حرب الصحراء حتمت اتباع استراتيجية كسب الخصوم أو تحييدهم على الأقل. فليس الجنود الأمريكيون أو البريطانيون أو الفرنسيون من كانوا يخوضون معارك الشرف دفاعا عن الوحدة والسيادة المغربية في الصحراء. لكن الإقناع بوجهة نظر استثنائية لا يمر فقط عبر الوسائل الدبلوماسية التقليدية.
تساءل الحسن الثاني عن أي الشخصيات المغربية يحظى بتقدير الدول الغربية، وتحديدا مثقفيها وسياسييها وشيوخها في المؤسسات النيابية ومفكرين في رحاب جدل العقل والثقافة والحضارة. فكان الجواب: أنه المفكر المقتدر عبد الله العروي، كونه يجمع بين عمق المؤرخ وعقلانية المفكر، وبين سعة الاطلاع ومنهجية التحليل. روى لي مسؤول كبير أن الحسن الثاني عاود استخراج كتاب أبيض عن تطورات ملف الصحراء، من تأليف المفكر عبد الله العروي ، ثم أرسل في طلبه.
لم يكن الاستقبال عاديا، كانت تظلله أجواء فكرية تسمو بالسلوك والسياسة إلى درجة الإقناع الذي لا تعوزه الأدلة والبراهين. أصغى الرجلان إلى بعضهما، ملك ومفكر ينجذبان إلى الحقيقة التي لا ترى بالعين المجردة. ففي خلاصة الأمر امتزجت السلطة والثقافة في لحظة مكاشفة قل نظيرها. ولم يغادر المفكر عبد الله العروي رحاب القصر الملكي، إلا وقد ترسخت لديه القناعة بوجاهة الاختيار، ذاك الذي جمع وقته، وبحكم الضرورة بين ملكية وجمهورية «ستصبح جماهيرية» في مرحلة عصية على الإدراك.
عندما غادر عبد الله العروي إلى بعض العواصم الوازنة في مجلس الأمن، مدافعا عن موقف المغرب، سجلت الدبلوماسية المغربية صفحة جديدة في مسارها الذي كان أدرج الوعي التاريخي في صلب المهمات الدبلوماسية الراقية. لكن قلائل يعرفون أن العروي عمل في فترة من حياته دبلوماسيا في القاهرة، قبل أن يقطع المسالك الوعرة إلى المعرفة التي تصنع التاريخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى