محمد عايش
المشاهد التي وردت إلينا من سيريلانكا خلال الأسابيع القليلة الماضية ليس مستبعداً أن تتكرر في العالم العربي، لأنَّ الظروف التي تعيشها بعض الأقطار العربية تبدو مشابهة، وربما أسوأ، وهذا يؤكد أنَّ التحولات التي يشهدها العالم قد تؤثر بشكل استراتيجي ومهم في المنطقة العربية.
ما حدث في سيريلانكا أن الدولة أنهكتها الديون وأبلغت الدائنين بأنها لم تعد قادرة على سداد مستحقاتهم، وفي الوقت ذاته طلبت من صندوق النقد الدولي خطة إنقاذ لإخراج البلاد من أسوأ أزمة اقتصادية تواجهها منذ الاستقلال في عام 1948.
لم تصمد سيريلانكا بعد ذلك سوى أسابيع قليلة حتى شوهد مئات الآلاف يزحفون نحو القصر الرئاسي ومكاتب رئيس الحكومة، فيما كان الرئيس قد فرَّ هارباً خارج البلاد عندما كان مواطنوه يتداولون صورهم التذكارية داخل المسبح الرئاسي الخاص به.
المرعب في كل هذه القصة أن سيريلانكا ما زالت أفضل اقتصاداً من بعض الدول العربية التي أصبحت تغرق في أزمات أكبر لكنها مؤجلة لبعض الوقت. وبلغة الأرقام فإنَّ إجمالي الديون الخارجية لسيريلانكا يبلغ 51 مليار دولار، وأدى بها إلى التعثر عن السداد، وإعلان الإفلاس، ومن ثم سرعان ما تهاوى الاقتصاد، بينما الديون الخارجية لمصر مثلاً بلغت نهاية العام الماضي 145 مليار دولار، أي أنها نحو ثلاثة أضعاف الديون السيريلانكية.
وبالمقارنة مع مصر مثلاً فالمشكلة ليست فقط في حجم الديون الضخم، وإنما في التوقعات المستقبلية لها، حيث تحدث تقرير سابق لوكالة «ستاندرد آند بورز» بأن مصر تتجه الى اقتراض 73 مليار دولار خلال العام الحالي 2022، وأن إجمالي الديون السيادية سوف يبلغ 391.8 مليار دولار مع نهاية العام الحالي (هذا الرقم طبعاً يشمل الدين الحكومي الداخلي أيضاً).
تونس أيضاً تواجه أزمة ديون، حيث بلغت ديونها السيادية مع نهاية عام 2021 نحو 35 مليار دولار، نحو نصفها دين خارجي بالعملة الصعبة، مع ضرورة الإشارة الى أن الناتج المحلي الإجمالي لتونس يبلغ 40 مليار دولار فقط، بينما في سيريلانكا يزيد عن الثمانين ملياراً، ما يعني أن الدين التونسي، إذا ما قورن بحجم الاقتصاد الكلي للبلاد يُصبح أكبر من الدين في سيريلانكا! ثمة أمثلة أخرى في عالمنا العربية للأزمات الاقتصادية التي نواجهها، وما يُفاقم طبعاً من أزمات الديون العربية ويجعلها أكثر خطورة هو ارتفاع العبء الإنفاقي، وازدياد الحاجة للعملة الصعبة نتيجة ارتفاع أسعار النفط وأسعار القمح، وهي سلع أساسية مقومة بالدولار الأمريكي، وشراؤها من الأسواق العالمية يحتاج الى مزيد من العملة الصعبة، التي تُستخدم أيضاً في سداد الديون والالتزامات المالية الخارجية.
الأزمات في عالمنا العربي تتفاقم والسبب هو عدم وجود استراتيجيات تتحوط من التطورات والطوارئ المستقبلية، كما أن العرب ما زالوا يستثمرون أموالهم في المكان الخطأ ويضعون قدراتهم في غير مكانها الصحيح، إذ أن بلداً مثل مصر يستهلك أكثر من 5% من إجمالي القمح المتداول في العالم، بينما تنصب الديون والمساعدات على مشاريع بنية تحتية، أو بناء أو ترفيه، وهي مشروعات وإن كانت مهمة لكن الأولوية لإنتاج القمح، أي لتأمين رغيف الخبز. والحال ذاته ينسحب على دول الخليج، التي تمتلك أكبر صناديق الاستثمارات في العالم، لكن ملياراتها، أو جزءا من هذه المليارات، يتم استثمارها في الخدمات المالية ومضاربات البورصات العالمية، وهذه في حقيقتها استثمارات غير منتجة، ولا استراتيجية ولا تحقق الأمن الغذائي لشعوبنا العربية.