مسيلمة وخلفاؤه في التاريخ
مع نزول القرآن كانت صدمة مجتمع قريش مزدوجة، كما جاء في القصة المشهورة، أن ثلاث شخصيات هامة من قريش اجتمعت خلسة في ليلة مظلمة، وذهبت تسمع ما يقرؤه محمد (ص) على أتباعه.
فلما انتهى الكلام سأل كل صاحبه يا أبا ثعلبة ويا أبا حنظلة ماذا سمعت؟ وما رأيك في ما سمعت؟ قال إنه كلام حلو ويعلو ولا يعلى عليه، إن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق. ثم علق أحدهم على طبيعة الأزمة أنهم أنفقوا مثل بني هاشم وسعوا مثلما سعوا وتنافسوا حتى كانوا كفرسي رهان، وفجأة يخرج القوم عليهم: عندنا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمن أين لنا أن ننزل علينا وحيا من السماء؟ ومنه قالوا إن القرآن إن كان ولابد نازل فيجب أن يتنزل على (رجل من القريتين عظيم).
أيضا ليست المشكلة هنا، بل محتوى التنزيل (التحريري) فلو أنه قال الشعر الجميل، وتغنى بالسماء والريح، وتحدث عن الربيع والورد؛ فليست مشكلة على الإطلاق، ولكنه يزلزل مرتكزات المجتمع من الأساسات، كما جاء في سورة النحل (أتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم).
هذا الرجل بدعوته للتوحيد لا يتكلم عن عدد الآلهة في السماء؛ فهي ليست مشكلة إن كان واحدا أو ثلاثمائة كما كان الحال عند آلهة الأولمب؛ أفروديت ملكة الجمال، بوسايدون إله البحر، وهرقل الذي تصارع مع إله الأرض فكان كلما صرعه هرقل ووقع على الأرض استعاد قوته بالتماس، حتى أن قصة الإلياذة وتدمير طروادة أخرجتها سينما هوليوود مشوهة، فالشاعر (هوميروس) حين كان يغني لليونانيين أخبار تلك الحرب، كان يذكر تدخل الإلهة في الحرب التي مكنتهم من تحقيق الانتصار على تلك المدينة المحصنة المنيعة.
المشكلة التي خلقها هذا الرجل محمد (ص) ومازال لكل طواغيت العالم ليس لها حل، أن الرسالة التي جاء بها أنزلت من السماء إلى الأرض؛ فدعا للدفاع عن الطفل اليتيم، والمرأة المؤودة، والمسكين الذي تؤكل حقوقه، والناس الذين يظلمون ويجلدون من الطواغيت، ويستغلون من رجال الدين باسم الله.
في هذه النقطة ليس من مزاح؛ فهو قول فصل وليس بالهزل، وهو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون، وهو أمر تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال.
يجب أن نعلم أن مسيلمة لم يكن (مهرجا) بسيطا كما هو الحال في المهرج الليبي الدموي (القذافي) الذي كان في طريقه لإبادة أهل طرابلس وطبرق وبنغازي، قبل أن تفاجئه طائرات الناتو، وينتهي على الخازوق، ولينتهي البلد إلى كارثة، بسبب بسيط هي أن الديكتاتورية تنتهي إلى التفسخ الكامل والفوضى العارمة، كما هو الحال مع الديكتاتورية الصدامية والأسدية وآخرون من شكلهم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار، ريثما تبعث الأمة من جديد.
وحين أقرأ من يبكي (من المثقفين وكتاب الصحف البارزين) على طارق عزيز البعثي المثقف، الذي كان يزين وجه الطاغية ويصفه أنه بطل يقف عقلي عن العمل وأقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلا، وهذه الآفة موجودة عند كل أهل مذهب ونحلة وطائفة وفرقة وحزب، وكل حزب بما لديهم فرحون. (يقال إن صدام قتل في حملة الأنفال أكثر من مائة ألف من الأكراد).
مسيلمة كان يؤسس لحركة عصيان مسلح، وهو ما عرف بـ (حروب الردة) التي يظن الكثير أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه شنها لأنهم كفروا بالإسلام.
حروب الردة كانت من أجل (العصيان المسلح) وتمزيق المجتمع والدولة المركزية، التي شكلها بإبداع نبي الرحمة (ص)، فيجب الانتباه لذلك؛ هو أن (مفهوم الجهاد) أيضا بشكله (المسلح) هو ليس لنشر الإسلام، وإجبار الناس على الدخول في هذا الدين، واعتناقه بالقوة المسلحة، وهو مالا يحدث عادة؛ فلا الكفر ولا الإيمان مع الإكراه ينجح في أي اتجاه، ولذا كان القرآن منطقيا مع نفسه حين دشن مبدأ لا أكراه في الدين.
كما يجب الانتباه إلى أمر آخر لا ينتبه له المؤرخون، وهي الكلفة الباهظة في حروب الردة التي أكلت خيرة مثقفي الإسلام ـ حفظة القرآن ـ ليسوا مثل معاهد (تحفيظ القرآن) الميتة؛ بل كانوا هم دماغ الإسلام الحركي؛ فهلك معظمهم في هذه الحرب الطاحنة (مما هيأ الجو للملك العضود ونجاح الانقلاب الأموي المسلح على الخلافة الراشدة ودفنها لاحقا ليخرج من (ذراريها) ثلاث فرق كل فرقة أشنع من الأخرى: الانتهازي والعرقي والدموي).
كما حصل مع الشيوعيين في الثورة البلشفية، حيث هلك خيار الناس وبقي شرارهم من أمثال ستالين، أو كما نقل لي عن أستاذ حلبي كان معلما يدرس في الجزائر فسأله الناس في لحظة وداعه للبلد ماذا تقول؟ قال قتل خياركم وبقي شراركم والسلام عليكم.
كنت أشاهد برنامجا في قناة (TV5) عن ديجول فقلت في نفسي لو بقي الجزائريون تحت حكم ديجول وبومبيدو وميتران ألم يكن أفضل لهم من جنرالات فاسدين مجرمين؟ التاريخ مهزلة كما يقول الوردي.
صديقي من مدينة الجديدة يتحفني بين الحين والآخر بآراء الملاحدة ومنكري النبوات والكافرين بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأنا أستمع إليه بهدوء، وأعرف أن الأزمة الثقافية هذه الأيام طاحنة في ما يتعلق بالقرآن والوحي والتنزيل والنبوات والأحاديث والتشريع وأشياء كثيرة تتعلق ببعضها البعض، ولكن أهم نقطة في الصراع هي حول القرآن الكريم، لذا ومنذ القديم برز وفي زمن النبي (ص) أكثر من عشرة أشخاص بين نساء ورجال ادعوا النبوة، وقرأت في جريدة «الأخبار» المغربية قبل فترة أن رجلا ادعى النبوة في مدينة فاس حتى أمسكوا به وتوبوه.
وقالت الجريدة إنه منذ عام 2010 م برز أكثر من أربعة أدعياء من هذا الطراز، بل ويذهب الفيلسوف (برتراند راسل) أنها أمنية الكثيرين أن يكونوا أنبياء وآلهة فهو شيء جميل أليس كذلك؟ أن تدير القمر وتمنع شروق الشمس وتتظلل بالغمام وتخرج لك الأرض ذهبا وتكلم الأموات وتأكل وتهضم بشهية ما تشاء؟
ولعل الشيعة في صراعهم التاريخي وفشلهم المتكرر رأوا أن التاريخ مظلم لا فائدة منه، ولذا أبطلوا صلاة الجمعة حتى أعادها (الإمام الطالقاني) بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979م ويصلون يوم الجمعة في مكان واحد (جامعة طهران) والإمام يحمل البارودة على كتفه، ومازالوا يقولون إنهم ينتظرون الإمام الذي اختفى في السرداب قبل ألف عام وما زال حيا يرزق، ولسوف يخرج يوما فيملأ الأرض عدلا ونورا بعد أن غصت بالكذب والقتل والظلم.
ويمكن أن نفهم في هذا الضوء أيضا لماذا يعبد اليزيديون في العراق الشيطان ويسمونه طاووسا.
وهذه الرؤية التاريخية يحملها أيضا اليهود بانتظارهم المسيح المخلص وليس الكذاب المدعي ابن الناصرية الذي قتلوه صلبا وتخلصوا منه، وكذلك بقيت نقطة اختفاء المسيح من مسرح الأحداث وفشله الظاهري وهو مصلوب ينادي إلهي إلهي لم تركتني؟ ما جعلها أحجية للكرادلة العشرين والبابا حتى يوم الدين.
أما دعاة نهاية العالم فأشهرهم جماعة شهود يهوه (يهوه يعني الله حسب العهد القديم والجماعة يعتمدون على العهد القديم والجديد ولذا فهم خلائط من الصليبين والصهيونيين ويحرضون أتباعهم على كراهية الإسلام وبطلان القرآن).
وهناك رجل مسيحي سويسري من أصول فلسطينية، حاول أن يترجم القرآن إلى ثلاث لغات واجتهد أن يضع السور على شكل (كرونولوجي) لا أعرف مدى ما وصل إليه، ولم أطلع على الترجمات، ولكن حدثني صديق لي من مدينة الجديدة عنه، ولكنه أضاف فقرة عجيبة عن الرجل، وهناك من يوافقه في المغرب على زعمه، ولعله ليس الوحيد وربما كان (أركون) الجزائري من نحا هذا النحو في (تاريخية القرآن) وقال أي (محمد أركون) الفرنساوي من أصل جزائري؛ أن هناك نسخا أخرى مختفية من القرآن، منها ما عثر عليه في اليمن، وكأنه يريد أن يقول إن هناك نسخا متباينة ومتضاربة من التنزيل.
وكان الرجل رحمه الله يقول بـ (نقض) القرآن أكثر من نقده، واجتهد وذهب إلى الله فيجب أن يحترم ما قاله ويرد عليه. وهذا له حديث مستقل لأنني في قراءتي للرجل وخاصة في كتابه (تاريخية الفكر العربي) كانت الترجمة جدا سيئة، وفهمنا ربما جملتين: اللامفكر به والمستحيل التفكير به.
وفي محاضرتي التي ألقيتها في الرياض حول (نقد الفكر الديني) اعترضت سيدة على القرآن والفكر الدوغمائي في عمومه، وكان جوابي عليها أنه يمكن أن ترتاح إذا استطاعت أن تبني منهجا يظهر فساد الكتاب وما جاء فيه.
أما الفلسطيني السويسري فزعم أن القرآن هو إبداع بشري، ومن أبدعه نسبه إلى الله كي يعطي لنفسه الأهمية القصوى، وهذه المسألة تكرر ورودها في القرآن أنها من أعظم الخطايا. أعني ادعاء أن هذا الكلام مصدره ما فوق بشري وإلهي، ومن هذا ما جاء في سورة الأنعام (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله). لتنتهي الآية بعرض مخيف من ملائكة العذاب وهي تقول لأولئك الأفاقين الغارقين في غمرات الموت (أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون).
وذهب أيضا الفلسطيني السويسري إلى أن هناك آلاف الأخطاء النحوية في القرآن؟ هكذا نقل لي صديقي المغربي فلما سألته عن واحدة، توقف وقال سأرسلها لك في النت فأنا بانتظارها، لنقلها للقارئ حتى يعرف أن مسيلمة الكذاب ليس الوحيد في التاريخ؟
وهناك كاتب مصري كان على ما يبدو رجل دين معمما (كنيته الدمنهوري) قال أكثر من ذلك وكتابه عندي في مكتبتي وقرأته بتمعن وتأن، فقال إن القرآن ليس فيه من البلاغة شيء، ولكنه اعترف أن صيغة الماضي في سورة الأعراف أثرت فيه (ونادى رجال الأعراف) والكلام للمستقبل الذي لم يتشكل بعد عندنا، ونسي الرجل في غمرة اندفاعه لتأييد وجهة نظره أنه ليس ثمة زمان عند من أوجد الزمان.
قلت لصديقي من مدينة الجديدة المغربية وهو ينقل لي نقاشاته مع الملحدين خاصة أولئك الذين يحتشدون في الخليج، إن التشدد الديني ستعقبه إباحة دينية، فهي قوانين وجودية من الفعل ورد الفعل سوى أنه في علم الاجتماع أدهى وأمر.
إن الذين كتبوا عن القرآن وكذبوه وطعنوا في صحته هم أكثر من رمال صحراء النفود والربع الخالي، ولكن كما قالت مجلة در شبيجل الألمانية في افتتاحية أحد الأعداد وعلى الغلاف الخارجي عن الإسلام أنه أكثر دين ديناميكية وكسبا للأتباع، وتعلن أمريكا أن عدد من يعتنق الإسلام من الأمريكيين سنويا يزيد عن 22000 (اثنان وعشرون ألفا).
يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون الحاقدون.