مسعود أكوزال.. من “عطّار” إلى نادي الأغنياء
يونس جنوحي
الفريق الأكثر إثارة بين فئات رجال الأعمال المغاربة خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، هو فريق العصاميين الذين كونوا ثروتهم بفضل التغيرات التي وقعت في المغرب فترة قصيرة قبل الاستقلال، خصوصا في فاس ومكناس. لقد كان هذا الفريق، بالرغم من تضامنهم الواضح مع المقاومة والخلايا السرية التي كانت تنفذ عمليات مسلحة ضد الفرنسيين، أكثر المستفيدين اقتصاديا من التحول في حياة المغاربة.
مسعود أكوزال المقاوم الذي كان على اتصال ببعض رموز المقاومة عندما كانت ثروته في طور النمو. الاتصالات التي كان يجريها معه قدماء المقاومة كانت بهدف الحصول على التمويل، وقد كانت التعليمات التي تروج في أوساط المقاومين، هي إبعاد أكوزال تماما عن الشبهات حتى لا يطاله التحقيق من البوليس الفرنسي.
من يكون مسعود أكوزال؟
هذا الرجل الذي ينتمي إلى الجيل القديم، نذر حياته لأشياء كثيرة من بينها حفر اسمه بشكل استثنائي في عالم المال وحتى في دُنيا السياسة. ربما يُحسب له الآن، بعد أن انتقل إلى دار البقاء قبل أيام، أنه انتمى إلى نادي «الأقلية الصامتة» الذين اختاروا مبكرا أن يبتعدوا عن النقاشات وحروب «المذكرات». وحتى عندما اختار أن يتحدث ويسجل شهادته على العصر، بطريقته، كان بعيدا جدا عن الخوض في بعض الحقائق التاريخية التي أسالت الكثير من المداد، رغم أن موقعه خلال سنة 1956 كان يؤهله لمعرفة بعض الكواليس المتعقلة بالمقاومة، أو التي تفجرت خلال بداية الستينيات.
أوصى مسعود أكوزال في أيامه الأخيرة أن يعمل مقربوه على جعل الكتاب الذي تحدث عن مساره في الحياة أو جزء منه، موضوع مقرر دراسي حتى يعمم على الجيل المقبل، ونذر أيضا عائدات الكتاب لكي توجه إلى الأعمال الخيرية وليس إلى جيوب مقربيه.
عاش أكوزال سنوات بعد طبع كتابه الذي اختار لغلافه صورة تجمعه بالملك محمد السادس، وهو الذي كان يكن له تقديرا خاصا منذ أيام والده الراحل الحسن الثاني.
أصول رجل الأعمال أكوزال تعود إلى نواحي «إيداوكنيضيف» نواحي زاكورة. لكنه هاجر الهجرة القديمة التي كتبها التاريخ على الأهالي هناك، ليبحث لنفسه عن مكان آمن تحت شمس فاس اللافحة التي لم تكن ترحم أحدا، خصوصا من المكان الذي ينتمي إليه أجداده. لم يكن سهلا أن يحفر الرجل اسمه في مدينة الأعيان وكبار أثرياء التجارة الذين توارثوا الألقاب عن آبائهم.
بدأ حياته بائعا متجولا يجوب الأحياء والدواوير نواحي مدينة فاس، لبيع أدوات العطارة، رغم أنه اشتهر أولا بتجارة الزيت ذات الجودة العالية، وهي التي شقت له طريقه نحو النجاح.
بفضل بدايات «العطارة» أصبح أكوزال خلال منتصف الخمسينيات، حسب بعض الإفادات، يمتلك أزيد من 300 دكان بين فاس ومكناس ونواحيهما. وهو ما جعله محط تقدير كبير في أوساط المكناسيين.
عندما أطلق ماركة «مولاي»، كان يعانق المراتب الأولى في صفوف الاقتصاد الوطني، ليصل اسمه لأول مرة إلى ديوان الملك الراحل محمد الخامس بصفته واحدا من الذين حفروا أسماءهم داخل مجتمع المدينة التي أحبها الملك الراحل أكثر من غيرها.
كان أكوزال معروفا في أوساط قدماء المقاومة كداعم في الخفاء، ثم في العلن، للأنشطة السرية والعمل المسلح. وجرب حظه هو الآخر من المتاعب والحوادث خصوصا في فترة الاحتقان، عندما كان التظاهر ضد قرار نفي الملك الراحل محمد الخامس سنة 1953، كافيا للتعفن في سجون فرنسا بالمغرب.
نجا أكوزال من تلك الأحداث، لكنه بقي يتابع الأوضاع عن كثب، وبكثير من الحذر. عندما عاد الملك الراحل من المنفى كان أكوزال من بين رجال الأعمال العصاميين الأوائل الذين يملكون حيزا كبيرا من أسهم السوق المغربية الجديدة. وعندما جاءت أزمة زيوت مكناس المسمومة، كان الرجل في قلب العاصفة، ونال النصيب الأوفر من اللوم و»الشبهة». حتى أن الذين دافعوا عن براءته حينها كانوا يلقبونه بـ «مظلوم فضيحة الزيت». كادت تجارة أكوزال أن تنهار لولا أن التحقيقات التي باشرها أطباء ينتمون لمنظمة الصليب الأحمر الدولية، كشفوا سبب تسمم الزيت الذي لم يكن مرتبطا بالتخزين وإنما بعملية غش اقتيد كل المتورطين فيها إلى المحكمة.
انتهت محنة أكوزال في تلك السنة بعد أشهر من المعاناة، ووجد صعوبة كبيرة في العودة إلى سابق عهده خلال الأسابيع الأولى. لكن عندما صدرت أحكام الإعدام ضد المتورطين السبعة، كان أكوزال قد عاد بقوة ليبتسم له الحظ هذه المرة بشكل غير مسبوق، ليصبح إمبراطورا حقيقيا في اقتصاد الزيت.
في أواسط الستينيات وصولا إلى سبعينيات القرن الماضي كان أكوزال قد ولج عالم العقار في مدن الدار البيضاء ومكناس وفاس، واشترى نصيبا مهما من أسهم شركات تركها المعمر الفرنسي.
لكن أشهر ما ارتبط بثروة أكوزال وإمبراطوريته المالية، ما تداوله المغاربة بكثير من الدهشة عن حكايات تبرعه بالملايين في عدد من الأحداث. لكن أشهرها التبرعات التي وضعها رهن إشارة الداخلية، خلال الإعداد للمسيرة الخضراء في نونبر 1975. إذ أن مخازن السلع التابعة له وأسطول شاحناته أصبحت رهن إشارة الداخلية أيام بنهيمة. والحقيقة أن رجال أعمال مغاربة كثر قاموا بنفس الأمر في إطار استجابة لدعوة الملك الحسن الثاني الجميع إلى الانخراط فيها كل بطريقته. لكن اسم مسعود أكوزال أحاطت به الكثير من الحكايات، والمبالغات أحيانا. والاستيهامات أيضا غلب فيها الخيال على الحقيقة.
بعيدا عن مكائد السياسة..
لماذا لم ينخرط مسعود أكوزال في السياسة؟ هل كان الرجل زاهدا في عالم السياسيين الذي ابتلع أسماء أخرى من جيل الرجل؟ أم أن جريه وراء الأسهم والشركات والعقار جعله يطلق السياسة رغم أن بداياته في الحياة كانت مقرونة بما كان يقع في الساحة السياسية وقتها؟
مسعود أكوزال اسم شغل الناس في ستينيات القرن الماضي، خصوصا نواحي مدينة مكناس التي يتذكر سكانها القدامى شكل الرجل وهو يتجول بملابس العطارين ودوابهم ليبيع الزيت وبعض السلع الأساسية لسكان القرى، ثم أصبح واحدا من أشهر رجال الأعمال العصاميين المغاربة. قصته، كيف بدأ وكيف وصل إلى القمة.
لماذا هُمش جيل أثرياء الاستقلال؟
بوفاة المقاوم ورجل الأعمال العصامي، مسعود أكوزال، يكون المغرب قد فقد ذاكرة تاريخية لمرحلة حرجة من المقاومة ومن الاقتصاد المغربي أيضا.
نشأ في الظل وتربى فيه، لكن ثروته جرته إلى الضوء مرات كثيرة رغما عنه. ووجد نفسه في قلب العاصفة، خصوصا وأنه لم يكن «مُسيسا» في مرحلة كان رجال أعمال كثر يحتاجون إلى سند حقيقي لكي يبقوا على أقدامهم.
أثرياء الاستقلال، جيل كامل من الذين وجدوا أنفسهم في فوهة إطلاق الاقتصاد المغربي أثناء العملية الانتقالية من رجال الأعمال الفرنسيين إلى المغاربة الذين أمسكوا زمام الاقتصاد المغربي مباشرة بعد الاستقلال. لكن الطريق لم تكن مفروشة أمامهم بالورود.
لعل أشهر مثال على أثرياء الاستقلال هو المدير العام الأول للأمن الوطني في تاريخ مغرب الاستقلال. يتعلق الأمر بمحمد الأغزاوي الذي كان رجل أعمال ثري انطلق من الصفر تقريبا، وكانت فاس كلها تعرف قصته وكيف تحول من رجل بسيط إلى واحد من أثرياء النقل العمومي خلال فترة الحماية لتتعزز ثروته بُعيد الاستقلال. هذا الرجل راج عنه أنه وظف ثروته لبناء النواة الأولى للأمن خلال سنة 1955، وأسس البوليس السياسي أيضا، رغم أن تجربته على رأس الأمن لم تستمر طويلا كما كان متوقعا.
وجد نفسه، كعراب للأثرياء المغاربة الجدد خلال منتصف الخمسينيات بالضبط، في مواجهة مغاربة أثرياء آخرين كونوا بدورهم ثروتهم في ظروف مشابهة، أو مباشرة بعد الاستقلال.
بعض الأثرياء المغاربة الجدد كانوا يشتغلون في صفوف المقاومة ووجدوا أنفسهم أمام اتهامات بالتصرف في التبرعات التي وُضعت رهن إشارة الخلايا السرية، خصوصا خارج منطقة الدار البيضاء، بينما بعضهم الآخرون راكموا ثروتهم بفضل الامتيازات التي حصلوا عليها بعد الاستقلال ليصبحوا من كبار أثرياء العقار والتجارة في فترة قصيرة لم تتعد السنوات الخمس الأولى من الاستقلال.
ينضاف إليهم فريق آخر من الذين استفادوا من مغادرة المُنعشين الفرنسيين، وما رافق عملية رحيلهم من ارتجال وفوضى نتج عنها تحول ملكية عدد من العقارات والشركات إلى خواص بعضهم كانوا من قدماء المقاومة.
أما الفريق الأكثر إثارة، فهو فريق العصاميين الذين كونوا ثروتهم بفضل التغيرات التي وقعت في المغرب فترة قصيرة قبل الاستقلال، خصوصا في مدن فاس ومكناس. لقد كان هذا الفريق، بالرغم من تضامنهم الواضح مع المقاومة والخلايا السرية التي كانت تنفذ عمليات مسلحة ضد الفرنسيين، أكثر المستفيدين اقتصاديا من التحول في حياة المغاربة.
المقاوم مسعود أكوزال، كان على اتصال ببعض رموز المقاومة عندما كانت ثروته في طور النمو. الاتصالات التي كان يجريها معه قدماء المقاومة كانت بهدف الحصول على التمويل، وقد كانت التعليمات التي تروج في أوساط المقاومين، هي إبعاد أكوزال تماما عن الشبهات حتى لا يطاله التحقيق من البوليس الفرنسي.
لقد كانت قصة المقاوم إبراهيم الروداني أيضا تحوم في نفس الفلك مع الاختلاف في بعض التفاصيل والجزئيات. إذ كان بدوره صاحب ثروة مهمة في فترة الخمسينيات وكان على علاقة بفرنسيين في مجال تجارة الخشب، ومخازن السلع، بالإضافة إلى علاقات وطيدة مع رجال البوليس الفرنسي الذين كانوا يعتبرونه من مؤسسي الطبقة الثرية المغربية الجديدة. وكان يستغل قربه من المصالح الأمنية لكي يحذر قدماء المقاومة من المداهمات وعمليات البحث، وهذا ما أكده رفاق خلية المقاوم الزرقطوني قبل استشهاده. إذ كان هناك إجماع على الدور الذي قام به المقاوم إبراهيم الروداني، الذي كان بدوره من أثرياء المقاومة.
بالعودة إلى دور المقاوم مسعود أكوزال، فإن الرجل كان محظوظا ربما لأن ثروته تكونت في غالبها بعد تلك الأحداث، وهو ما جعله يكون بمنأى عن الخطر الذي عصف بجل التجار المغاربة الأثرياء الذين تواصل معهم قدماء المقاومة ما بين سنوات 1953 و1955. لقد كان «العطار» الذي يتجول لبيع الزيت في الدواوير على موعد مع التاريخ، خصوصا مع نهاية الخمسينيات حيث سوف تتطور سلسلة من الدكاكين التي أسسها بنفسه، وسرعان ما سيصبح أحد أوائل المتحكمين في توزيع الزيت في مكناس وفاس، ليؤسس شركة عصرية خصيصا لهذا الغرض، ويواجه مأساة زيوت مكناس المسمومة التي كادت أن تعصف به، ويخرج منها قويا، لتشهد سنوات الستينيات والسبعينيات أوج فترة ازدهار أعماله التي جعلت اسمه على كل لسان.
من «عطّار» إلى نادي الأغنياء
كان المقاوم مسعود أكوزال يفتخر كثيرا بماضيه كبائع متجول للزيت قبل أن يطور تجارته إلى شركة مستقلة متخصصة في بيع زيت الطعام للمغاربة، وتبدأ شعبيته من مدينة مكناس ونواحيها.
يقال، حسب العارفين ممن احتكوا مع مسعود أكوزال، أو تعرفوا عليه عن قرب أن أصوله تعود إلى «إيداوغنيضيف»، وهي المنطقة الهامشية التي يعرفها أهل المغرب الشرقي جيدا. كان العرف وقتها أن ينتقل الأهالي، فرادى وجماعات إلى فاس ومكناس هربا من الجفاف والجوع وأحيانا بحثا عن ظروف معيشية أفضل.
خلال ثلاثينيات القرن الماضي، لم يكن أحد يعتقد أن اليافع الضامر الجسد، سيكون له شأن كبير في فاس. كان الفاسيون الأصليون ينظرون إلى أمثال مسعود، كتعساء قادهم قدرهم لكي يشتغلوا عند الفاسيين.
ابتعد مسعود إذن منذ بداياته الأولى في السوق عن المركز، وفضل الهروب بعيدا عن الميز العنصري المسكوت عنه، ليلجأ إلى الفلاحين والبسطاء من أمثاله، واشتغل بائعا متجولا، أو «عطّار» لنكون أكثر دقة. يتجول بين القرى على طول الخط بين مكناس وفاس، حتى أنه أصبح يحفظها كظاهر يده. كان عدد الدواوير بعدد الخطوط المرسومة على راحة يده المحفورة من شدة إمساك حبل توجيه الحمار المحمل بالسلع البسيطة التي يحتاجها القرويون البعيدون عن المدينة.
لاحظ أكوزال خلال فترة الأربعينيات تقريبا، أن مادة الزيت تستأثر باهتمام الأسر المغربية باختلاف انتماءاتها الطبقية، بعكس السلع الأخرى التي توجه لفئات دون غيرها. «الفقراء يحتاجون الزيت تماما كما يحتاجها الأثرياء». كانت هذه المقولة ترن في أذن المقاوم مسعود أكوزال. وكان فعلا قد بدأ يستحق لقب المقاوم مع نهاية الأربعينيات.
إذ وجد هذا التاجر البسيط الذي بدأت تجارته تزدهر للتو، ولم يعد يحتاج إلى قيادة حماره بين الدواوير، نفسه في قلب العاصفة بفاس، أثناء تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال ثم مع ثورة الملك والشعب سنة 1950، بالإضافة إلى محنة المنفى التي جرته لكي يكون في دائرة المغضوب عليهم.
كانت ثروة أكوزال تتشكل ببطء، بالتوازي مع تعاطفه الواضح مع المقاومة. وصل اسم أكوزال إلى مكتب الملك الراحل محمد الخامس في الوقت الذي كان ديوانه مفتوحا على أعضاء الحركة الوطنية. ورغم أن أكوزال لم يكن قياديا كبيرا ولا اسما معروفا في حزب الاستقلال، إلا أن اسمه كان حاضرا على اعتبار أنه من التجار الجدد الذين كونوا ثروة بشكل عصامي، وأصبحوا يدعمون بمالهم مواقف رجال الحركة الوطنية.
مضت السنوات سريعة، لتصل سنة 1955، وكان وقتها مسعود أكوزال قد حقق أرباحا كبيرة جدا في عالم التجارة. تقول بعض المصادر إن مسعود أكوزال كان بدون مبالغة يمتلك أزيد من 300 دكان لبيع المواد الغذائية خصوصا مادة الزيت. أرباح بالملايين في وقت كانت فيه خزينة الدولة تعاني جفافا مدقعا، بل وبدون ميزانية في بعض القطاعات.
انخرط مسعود أكوزال في موجة تبرعات رجال الأعمال الكبار مباشرة بعد الاستقلال، لكنه لم يمارس أي نشاط سياسي، بل تفرغ لتوسيع ثروته وانتشار دكاكينه التي فكربعد سنة 1956 في جعلها شركة موحدة تحت اسم واحد.
رُوي عن مسعود أكوزال ه فكر مباشرة في تأسيس ماركة «مولاي» للزيت، والتي اشتهرت بشكل ملفت في مكناس. حتى أن الملك الراحل محمد الخامس، الذي كان يحب مكناس ويزورها بانتظام، عبّر عن رضاه عن مسعود أكوزال باعتباره من العصاميين الذين ساعدوا قدماء المقاومة وأعضاء الحركة الوطنية.
مع نهاية الخمسينيات، كان اسم مسعود أكوزال وحده كافيا لتلخيص سوف الزيت ذات الجودة العالية في فاس ومكناس، ولاحقا في الدار البيضاء.
ثم جاءت مأساة الزيوت المسمومة لسنة 1959، وكان بطبيعة الحال اسم مسعود أكوزال على رأس لائحة المطلوبين شعبيا بعد الاشتباه في تورطه في عملية مزج زيت الطعام بزيت الطائرات التي بقيت من مخلفات القاعدة الجوية الأمريكية وبيعت للمواطنين لينتج عنها إعاقة أزيد من 10 آلاف مغربي. لقد عاش «أكوزال» محنته الخاصة، والتي انتهت بطريقة تستحق فعلا أن تُروى.
قصة أسوأ ذكرى في حياة مسعود أكوزال.. مأساة زيوت مكناس 1959
كانت سنة 1959 أسوأ سنة ربما في حياة مسعود أكوزال. ولم تكن سنوات الحماية الفرنسية والتضييق على المقاومين وأعضاء جيش التحرير وأفراد الحركة الوطنية وأنصارها بتلك القسوة التي جعلت اسم مسعود أكوزال في قلب العاصفة.
بدأ كل شيء عندما انتبه المكناسيون على وجه الخصوص إلى انتشار مرض غريب يشل أطراف المواطنين. استيقظ الآلاف في اليوم الأول لـ«الوباء» على إيقاع من الذعر خصوصا أن وزارة الصحة المغربية كانت قد تأسست مصالحها للتو. ورغم تحركات أعوان السلطة في كل اتجاه، إلا أن الدولة لم تستطع تحديد سبب إصابة الآلاف دفعة واحدة بالشلل، أو «بوركاب» كما كان يطلق على المرض الغريب في تلك السنة.
كان الملك الراحل محمد الخامس في زيارة إلى مكناس، لكنه غادرها سريعا في تلك الأجواء المقلقة وأعطى الأمر بالتحقيق في الواقعة وتحديد الأسباب. ظن أطر وزارة الصحة، وبينهم فرنسيون وقتها، أن السبب راجع إلى مياه الشرب. وسرعان ما تم دحض الفرضية بعد تحليل مياه الشرب حيث بدا أن النتائج سلبية. بفضل أطباء أجانب من ألمانيا وسويسرا تم تحديد سبب الوباء، وربط بتسمم غذائي بسبب زيت الطبخ. سرعان ما انتشر الخبر وكتبت عنه الصحف الوطنية الصادرة وقتها، خصوصا مجلة «الزمن» التي واكبت «اللغز»، حتى تم الإشارة إلى اسم مسعود أكوزال. بل كان الرجل أول المطلوبين شعبيا. تضررت تجارته خلال الأسابيع الأولى وأصبحت محلاته المنتشرة في كل مكان مهجورة تماما، وصدرت أوامر من جهات عليا في الدولة لكي تصادر الزيوت في مكناس.
أسفرت التحقيقات التي استندت على تحاليل الأطباء التابعين للصليب الأحمر الدولي، والذين حلوا بمكناس لأسابيع طويلة لاحتواء الكارثة لإنسانية الأبرز في تاريخ المغرب الحديث، عن أن الزيوت المسمومة هي في الأصل مزيج من زيت الطعام وزيت غسل محركات الطائرات العسكرية في القاعدة الجوية الأمريكية التي تم إخلاؤها في نفس السنة، أي 1959.
الأيام القليلة التي تلت الكارثة كانت كفيلة بتصحيح كل شيء، إذ أن محنة مسعود أكوزال انتهت بشكل نهائي بعد تحديد المسؤولين الكبار عن عملية الغش وتابع المغاربة قاطبة محاكمتهم، خصوصا أن الملك الراحل محمد الخامس كان يتابع المحاكمة عن نفسه، وتعاطف مع الضحايا بشكل واضح.
كان مسعود أكوزال يحتاج إلى فترة لكي يغسل اسمه من تلك الفضيحة التي أحاطت به من كل جانب، وكتب عنه بعض قدماء المقاومة وقتها ودافعوا عنه باستماتة في وقت تكالب عليه منافسوه من التجار الذين لم تطلهم يد المحاسبة بعد تلك الفضيحة. لقد كان البعض يرون في واقعة زيوت 1959 الفصل الأخير من قصة ثراء مسعود أكوزال الذي كانت تلك المحطة «الحزينة» من حياته، تجربة جعلته يحترس في المستقبل كثيرا وهو يضاعف ثروته.
كانت ماركة «مولاي» للزيوت، والتي كانت جودتها عالية جدا بالمناسبة، أكبر مستفيد مما وقع خلال مأساة الزيوت المسمومة، وبدل أن ينكسر اسم مسعود أكوزال، أصبح على موعد مع التاريخ، والثراء، في آن معا.
هكذا كانت داخلية البصري تنظر إلى العصاميين المغاربة الأثرياء في سنوات الجفاف
في سنة 1979، كان إدريس البصري المعين حديثا وزيرا للداخلية، ينظر بكثير من التحامل إلى نخبة الأثرياء المغاربة الذين بنوا إمبراطورياتهم المالية من الصفر تماما، وأصبحوا بالنسبة له منطقة «يجب حصرها» كما صرح بنفسه إلى المحيطين به. بعكس أصحاب الثروات الكبيرة الذين توارثوها عن عائلات معروفة، كان هؤلاء العصاميون الجدد سباقين إلى الاستثمار في مجالات العقار والتجارة وحتى استيراد بعض أنواع السلع واحتكارها بشكل واسع في السوق.
في بداية جفاف الثمانينيات كان إدريس البصري يلمح إلى أن الدولة سوف تدقق في ما يدخل إلى جيوب الأثرياء المغاربة واستهدف، عن طريق أعوانه في الداخلية، ثروات عدد من الأثرياء المغاربة، وكان اسم مسعود أكوزال في اللائحة، رغم أنه لم يتضرر بشكل مباشر.
فقد كان الملك الراحل الحسن الثاني يعرف جيدا من يكون مسعود أكوزال، ويحتفظ له بمواقف نبيلة، خصوصا مشاركته في المسيرة الخضراء بوضع أطنان من المواد الغذائية رهن إشارة الوزارة. حدث هذا وإدريس البصري لا يزال موظفا في الداخلية ومشرفا على مكتب الشؤون السياسية حيث راقب بنفسه لوائح تلك التبرعات، ولا شك أنه ذهل من حجم ثروة بعض الأثرياء المغاربة من الأعيان وغيرهم، ووضعهم نصب عينيه.
اختمر الأمر أكثر في حملة 1996 التطهيرية، عندما راهن الملك الراحل الحسن الثاني على سد عجز ميزانية الدولة من خلال ضخ الأموال المتراكمة عن ضرائب رجال الأعمال ومراقبة الجمارك التي كانت في تلك الفترة تعيش على إيقاع من التناقضات.
من جديد نجا مسعود أكوزال من «المقصلة» التي نصبها إدريس البصري، وأدرك أنه وصل إلى المحطات الأخيرة من حياته ليتقاعد وأمامه إمبراطورية مالية حقيقية مترامية الأطراف، لم ينل منها الزمن إلا مرات قليلة. واحتفظ لنفسه برصيد محترم من محن زمن الاستعمار عندما كانت مساندة الحركة الوطنية أو الجهر بالمواقف المعادية لابن عرفة، تكلف الكثير. مات إذن مسعود أكوزال، وأسدل الستار على واحدة من قصص النجاح التي تستحق فعلا أن تُروى.