شوف تشوف

الرأي

مذاهب الجولان

لا جديد في تصريحات بنيامين نتنياهو الأخيرة حول الجولان، وأنه سوف يبقى «تحت السيادة الإسرائيلية إلى الأبد»؛ ما خلا أنّ هذه «الأبدية» تسعى إلى طراز من الاحتفاء بدنوّ الذكرى الخمسين لوقوع الهضبة السورية تحت الاحتلال الإسرائيلي. تصريحات مماثلة، مع اختلافات طفيفة في اللغة والمقاصد، صدرت عن نتنياهو نفسه في أطوار سابقة من ولايته كرئيس لوزراء إسرائيل، كما صدرت عن إسحق رابين ومناحيم بيغن وإسحق شامير وشمعون بيريس وبنيامين نتنياهو وإيهود باراك وأرييل شارون وإيهود أولمرت.
أمّا بعيداً عن الجعجعة اللفظية، فالحقائق على الأرض تقول إنّ إسرائيل تستولي على مياه نهرَي اليرموك وبانياس، وتعتمد على الجولان في تأمين 50 في المائة من احتياجات المياه المعدنية، و41 في المائة من احتياجات اللحوم، و21 في المائة من كروم العنب المخصصة لصناعة الخمور (38 في المائة منها تصدّر للخارج)، وقرابة 50 في المائة من احتياجات الفاكهة. وهنالك قرابة 20 ألف مستوطن إسرائيلي، يقيمون في 34 مستوطنة، ويحتكرون استغلال الغالبية الساحقة من الأراضي الصالحة للزراعة. كذلك يظلّ بين أبرز الحقائق على الأرض ذلك التشريع الذي صدر عن الكنيست سنة 1981، وقضى بضمّ الجولان إلى الدولة العبرية عن طريق تطبيق القوانين الإسرائيلية على كامل المرتفعات المحتلة.
على الجانب الذي يخصّ النظام السوري، أغلق حافظ الأسد مصير الهضبة المحتلة بمفاوضات مايو 1974 تحت خيمة سعسع، التي أسفرت عن تطبيق نظام لفصل القوّات أسكت المدافع الثقيلة مثل الرشاشات الفردية الخفيفة؛ فلم تُطلق رصاصة بعدها إلا لإخافة الرعاة وقطعان الماشية! ولقد تواصلت تلك المفاوضات على نحو أو آخر، سرّاً أو علانية، في عهد الأسد الأب كما في عهد وريثه الأسد الابن، حول تفاصيل تخصّ «الحدود»، التي بقي مفهومها غائماً وعائماً، ومحلّ مساومات بلا طائل.
على الصعيد الشعبي انخرط المواطنون السوريون في بلدات وقرى هضبة الجولان المحتلة في حال من المقاومة الدائمة لسياسات الاحتلال، خاصة بعد القرار الإسرائيلي بضمّ الهضبة. المثال الأبكر، والأبرز، كان الإضراب الذي بدأ يوم 14/2/1982 وامتدّ حتى 19/7 ذلك العام، وعُدّ الأطول في تاريخ سوريا الحديث. وثمة عشرات التفاصيل المشرّفة التي اقترنت بتنفيذ ذلك الإضراب، والتي يتناقلها الجولانيون بفخار مشروع، واعتزاز بالغ لا يخلو من غصّة كبرى: موقف التخاذل الذي اتخذه النظام السوري، في حين أنّ أجهزته الأمنية ومعظم وحداته العسكرية الخاصة الموالية كانت منهمكة بتنفيذ المجازر في الداخل، ضدّ مدن وبلدات وقرى سورية!
وحين بدأ إضراب الجولان المحتل، كانت 12 يوماً قد انقضت على شروع النظام السوري في تنفيذ مجزرة حماة (30 إلى 40 ألف قتيل)؛ وقبل، وبعد، القرار الإسرائيلي بضمّ الجولان، كان النظام قد ارتكب مجازر أخرى، في جبل الزاوية، وسرمدا، وجسر الشغور، وسوق الأحد وحي المشارقة في حلب، وساحة العباسيين في دمشق… كما شهدت السجون السورية تصفيات جماعية مباشرة ومئات الحالات من الموت جرّاء التعذيب.
ولم تكن مصادفة خالية من قرائن المنطق أنّ النظام ذاته الذي دكّ مدينة حماة سنة 1982، عام الإضراب الجولاني المجيد، هو ذاته النظام الذي دكّ حمص في الذكرى الثلاثين للإضراب، سنة 2012؛ ما خلا أنّ الوحشية كانت أوسع نطاقاً: الأسد الأب مارسها لاجتثاث مجموعات مسلحة محدودة العدد والعدّة، وتأديب المجتمع بأسره؛ والأسد الابن يمارسها لقتال الغالبية الساحقة من الشعب السوري الأعزل، بما ملك نظامه من آلة بطش أمنية وعسكرية ومالية، وبما ارتهن لروسيا وإيران وميليشيات المذاهب.
لكنّ للجولان مذاهبه أيضاً، كما برهنت خمسة عقود: في مقاومة الاحتلال والتشبث بالهوية، من جهة؛ وفي رفض نظام الاستبداد والفساد وجرائم الحرب في الداخل، من جهة ثانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى