محظورات فنية
تصوروا معي جريدة يومية لا تنشر سوى الأخبار الطيبة الجميلة الفاضلة وتمنع عن أعمدتها الأخبار «الشريرة» وأصداء الحروب والنزاعات والجرائم والانحرافات والمساوئ التي تحفل بها المجتمعات.
أكاد أجزم أن هذه الجريدة «الفاضلة» لن تجد قارئا واحدا يقتنيها لكونها تنكرت لثنائية الخير والشر التي تتحكم في الإنسان منذ الأزل، فيما الصراع بينهما هو الذي ينتج القيم الفاضلة منها أو المنحرفة حين ينتصر أحدهما على الآخر.
ما يصح على الصحافة يصح أيضا على الفنون. ففي الأيام الأخيرة نظم جناح دعوي لأحد الأحزاب ندوة خصصها للتبشير لما سماه «الفن النظيف»، وهي دعوة حديثة العهد في المشهد المغربي يقف وراءها سياسيون محترفون يعتبرون الفن حائطا قصيرا ومجالا يمكن ترويضه وإخضاعه لأحكام من خارج منطقه السائد منذ الأزمان الغابرة.
عن أي «فن نظيف» يتحدثون؟ هل ينبغي للأعمال الدرامية وباقي الفنون أن تكتفي بنشر الفضيلة عبر الامتناع عن الخوض في جدلية الخير والشر، دون أن نحاول التوغل في أعماق النفس البشرية لاستكشاف مغاراتها المظلمة وطرح أسئلة جوهرية حول معاناة الإنسان وما يتعرض له من أهوال تصادر حريته وأحيانا إنسانيته وتحيله إلى مجرد شيء تتلاعب به الرياح وأهواء المتحكمين في مصيره، سواء صدر هذا التحكم عن عقد نفسية دفينة أو محيط اجتماعي جائر لم يترك للخير مجالا، أو تهميش للفرد يجعله يقبل بأوضاعه الاقصائية لدرجة قال أحد الفلاسفة القدامى: «إن الثمن الذي يدفعه الطيبون مقابل لا مبالاتهم بالشؤون العامة هو أن يحكمهم الاشرار».
لا مجال إذن في المجتمعات السليمة لأن ينضبط الفن بلائحة محظورات وقائمة سوداء بالمواضيع التي يمنع الاقتراب منها، وإلا نزل سيف المنع لقطع رؤوس من يرى أن المجتمعات ليست بيضاء بالكامل وليست سوداء بالكامل، ولكنها مجتمعات رمادية اللون تتعايش فيها الفضيلة مع الفساد، وتقض فيها كوابيس المعاناة والحاجة والعوز مضاجع الملايين، وتمتحن الإغراءات ضمير الآخرين وتسقطهم في الحلول السهلة عوض رفع راية الفضيلة عاليا، مادام التراث الذي راكمته البشرية منذ قرون يفيد بأن الإنسان خطاء وغير معصوم من الخطأ والرذيلة والانسياق وراء المزالق. فهل دور الفن يقتصر على تصوير مجتمع ملائكي ينتج الفضيلة كل صباح ويستهلكها ويمارسها، وهذا يتنافى مع الحقيقة ويضرب في الصميم منطق الحكمة التي تدعو إلى التأمل العميق في السالب والموجب في حياة الانسان ومساره المزروع بالأشواك، وامتحان قدرته على الصمود، وغالبا ما يكون الفنان سابقا لعصره، مبشرا بالجماليات الخفية، داعيا إلى إعادة إبداع المجتمعات بناء على أسس الحرية والكرامة. فكل فن انتصر للإنسان هو «الفن النظيف» الحقيقي، أما غير ذلك فحملات انتخابية تتطفل على الفن وتسعى إلى تدجين الفنانين وترويض جموحهم، وهو ما لا يمكن أن يقبله كل رافض لمقولة «شوف وسكت».