محاكمة فبراير 1954.. عندما حاكمت فرنسا شباب فاس بتهمة «الوطنية»
أرشيفها مجهول المصير وأبطالها سقطوا من الذاكرة
الثامن والعشرون من فبراير سنة 1954. الرقم 28، كُتب أكثر من مرة للتأريخ للجلسة الأولى التي أعلن فيها خبر انطلاق محاكمة لائحة من الوطنيين المغاربة، المتهمين بتنفيذ عمليات مقاومة راح ضحيتها فرنسيون في مدينة فاس.
هل استحق هؤلاء المدانون المغاربة فعلا أن يُحاكموا عسكريا؟ خصوصا وأن بعض المعطيات التاريخية تقول إن المنفذين الفعليين لأكثر العمليات التي أودت بحياة الفرنسيين في فاس لم يتم اعتقالهم، وإن بعض شبان المدينة الأبرياء حُوكموا عمدا بتهم قتل المعمرين الفرنسيين وإحراق جثامينهم، رغم أن تهمتهم الحقيقية الوحيدة كانت النزول في مظاهرات تطالب بعودة محمد بن يوسف من المنفى..
المحاكمة العسكرية المنسية في فاس، تبقى واحدة من النقاط «العمياء» في ذاكرة المقاومة. وبين من يقلل من شأنها كونها «لا ترقى» إلى مستوى محاكمات مقاومي الدار البيضاء التي وزعت فيها أحكام الإعدام ونُفذت، ومن يعتبرها محاكمة القرن، ضاعت ذكريات كثيرة من أوراق ذاكرتنا الجماعية..
يونس جنوحي :
أيام فبراير 1954 القاتمة
فاس فوق صفيح ساخن، وصلت إلى المدينة عدوى ما كانت الصحافة الفرنسية تسميها وقتها «العمليات الإرهابية». إذ إن تفجير المارشي سنطرال في الدار البيضاء في دجنبر 1953، وما تلاه من اغتيالات لموظفين مغاربة وفرنسيين على يد أعضاء خلايا المقاومة، كلها أذكت الشعور الوطني لدى الفاسيين. وبدأت أول التحضيرات لعمليات المقاومة في فاس. استُهدف المعادون للسلطان محمد بن يوسف والداعمون لابن عرفة، واستهدفت فنادق الفرنسيين وأماكن تجمعهم، وحانات فاس هي أخرى استهدفت. بل حتى باعة السجائر استُهدفوا من طرف الوطنيين، ووجهت إليهم تهمة تخريب الشباب في مدينة فاس والتطبيع مع ممارسات الاستعماريين الفرنسيين في المدينة.
سرعان ما ازدادت أعداد المنضمين إلى خلايا المقاومة، سيما الجناح التابع لحزب الاستقلال، إذ تحولت اجتماعات الحزب في بداية 1954 إلى محطات لقول كل ما لم يكن ممكنا كتابته في صحيفة «العلم»، بسبب الرقابة. هذه الأجواء كلها وفرت نوعا من التأطير والوعي السياسي في المدينة، نظرا إلى وجود أسماء كبيرة من الحركة الوطنية المغربية، تنشط في فاس على وجه الخصوص.
في يناير من سنة 1954، وصل خبر نقل السلطان محمد بن يوسف وأفراد أسرته من جزيرة كورسيكا إلى مدغشقر. وبمجرد ما وصل الخبر إلى فاس، على متن الصحف وأمواج الراديو، حتى هاج الرأي العام من جديد، وكأن السلطان قد نُفي للتو.
تسبب هذا الخبر في انطلاق عمليات استهدفت الفرنسيين، حيث سُجلت حالات اعتداء على معمرين فرنسيين، خصوصا في ضواحي فاس، حيث كانوا يملكون ضيعات وأراض ومقرات لشركات ومعامل. وأتلفت واجهات محلات فرنسية عصرية في قلب فاس، احتجاجا على استمرار جلوس بن عرفة على العرش.
لكن ما زاد من تأزم الأوضاع في فاس، الأحداث المتلاحقة لمقتل موظفين فرنسيين في الإدارة ومصالح الأمن، واغتيال بعضهم فقط بالرصاص، بينما أغلب حالات الاعتداء وقعت باستعمال السكاكين، وهو ما كان ينذر بانفلات أمني خطير لم تفلح معه تدخلات الباشا البغدادي، الذي سوف نأتي إلى تفاصيل علاقته بمحاكمة فاس المنسية. أمام هذا الوضع، لم يجد الفرنسيون بدا من بدء حملة اعتقالات في صفوف شباب مدينة فاس، خصوصا سكان المدينة العتيقة والمداشر المحيطة بفاس، حيث وجهت إلى القرويين تهمة التستر على المبحوث عنهم، وتوفير المأوى للشبان الذين نفذوا عمليات اغتيال أودت بحياة معمرين فرنسيين ووصلت حد إحراق ممتلكاتهم وعدم الاكتفاء باغتيالهم فقط.
عندما وصلت حملة الاعتقالات إلى مستوى غير معتاد في مدينة فاس، جاءت الأوامر من الإقامة العامة في الرباط، لكي يتم تنظيم محاكمة عسكرية للموقوفين، سيما منهم الذين وُجهت إليهم تهم قتل مباشرة. وهكذا سرعان ما اهتمت الصحف الصادرة في المغرب، خصوصا المدافعة عن السياسة الفرنسية، بخبر المحاكمة، وخصصت لها حيزا كبيرا، رغم أن بعض تقارير البوليس الفرنسي تؤكد أن إدارة الأمن كانت تريد للمحاكمة أن تمر بسرعة وأن تُصدر أكبر قدر ممكن من أحكام الإعدام. لم يكن مهما تنفيذ الأحكام بقدر ما كان مهما أن تصدر بالدرجة الأولى وتعمم في الصحف، لبث نوع من الخوف في نفوس الذين لم تصل إليهم أيادي البوليس الفرنسي.
هذه المحاكمة التي شهدتها مدينة فاس، كان يتابعها المغاربة من باقي مناطق المغرب، وكانت أخبارها تصل عن طريق أعوان السلطة. والحديث الأكثر رواجا في الأسواق الشعبية، أن فرنسا سوف تُلحق بالمعتقلين الماثلين في قفص الاتهام كل أساليب الانتقام، خصوصا وأن تجارب المغاربة مع هذا النوع من المحاكمات لم تكن «طيبة»، إذ إن مقاومي الدار البيضاء حوكموا قبل الفاسيين، في محكمة عسكرية وزج بهم في السجن المركزي، وحزن المغاربة كثيرا عندما نُشر خبر إعدامهم. وهو ما حاولت الإدارة الفرنسية أن تعيده مع الفاسيين، لكبح وتيرة العمليات الفدائية التي استهدفت الفرنسيين في المدينة.
أجواء جلسات تحبس الأنفاس رافع فيها فرنسيون لصالح المغاربة
سيكون صادما معرفة أن الأرشيف الرسمي لا يتوفر على أي معطيات تضع محاكمة يوم 28 فبراير 1954، في المكانة التي تستحقها. رغم أنها كانت حدثا كبيرا حاولت من خلاله الإدارة الفرنسية أن تنهي «حالة الانفلات» الكبير التي عمت المدينة، فور انتشار خبر نقل السلطان محمد بن يوسف إلى منفاه الثاني في مدغشقر.
كان الخبر يعني أن محنة الأسرة الملكية سوف تمتد وتطول، وهكذا انتشرت سلسلة من عمليات الانتقام في شوارع فاس ونواحيها من المعمرين الفرنسيين.
«الكوميسارية» التابعة للأمن الفرنسي لم تعد قادرة على استيعاب أعداد الموقوفين يوميا، منذ بداية شهر فبراير. إذ إن أحداث بداية السنة لعبت دورا كبيرا في تأجيج الرأي العام في فاس ضد فرنسا.
ارتأى الحاكم العسكري في فاس أن يتم تنظيم محاكمة عسكرية للشبان المتورطين في عمليات ضد المعمرين الفرنسيين. وكانت الاتهامات كالتالي، قتل مواطنين فرنسيين في منازلهم ومحلاتهم التجارية وفي الشارع العام. إضرام النار في ممتلكات مواطنين فرنسيين في فاس، وإتلاف واجهات محلاتهم التجارية وسياراتهم. إضرام النار في ضيعات مملوكة لمعمرين فرنسيين وقتل سكانها باستعمال السكاكين والمسدسات.
تهم كانت كافية لإرسال المتهمين جميعا إلى المشنقة.
حاول محامون فرنسيون مقيمون في المغرب (الدار البيضاء والرباط)، خصوصا المعارضين للحكومة الفرنسية في باريس، الترافع لصالح المتهمين. لكن الآلة الإعلامية الفرنسية حاولت إظهارهم بمظهر «الخونة» أمام الفرنسيين المقيمين في المغرب، وتعرض هؤلاء المحامون لمضايقات حتى لا يدخلوا القاعة، ومنعوا من لقاء المتهمين قبل انطلاق أولى الجلسات.
تحولت محكمة فاس إلى ساحة فرجة كبيرة حج إليها المئات، سيما من سكان المدينة القديمة والدواوير المحيطة بفاس، لكي يتابعوا أطوار محاكمة المتهمين بهندسة الأحداث الأخيرة التي شهدتها المدينة.
وفعلا نجحت فرنسا في الترويج للمحاكمة العسكرية بالطريقة التي رأتها مناسبة. ترهيب البقية والانتقام من الواقفين في قفص الاتهام.
اليوم، هناك اختلاف كبير في أوساط المقاومين المغاربة، أو من تبقى منهم ممن عاشوا ولو من بعيد تلك الأجواء، حول الأسماء التي كانت فعلا وراء عمليات اغتيال الفرنسيين في فاس، وهناك من يقول إن المنفذين الحقيقيين لتلك العمليات مقاومون من أعضاء الخلايا السرية في الدار البيضاء، وإن لا علاقة لهم بالجناح المسلح لحزب الاستقلال. لكن الحقيقة الوحيدة الثابتة، أن المغرب قدم خيرة أبنائه إلى المشنقة، وثبت بالواضح أن تداعيات محاكمة الثامن والعشرين فبراير 1954، كان لها دور كبير في انتزاع ورقة ضرورة عودة السلطان محمد بن يوسف إلى أرض الوطن وإعلان استقلال المغرب، في السنة التي تلت هذه الأحداث.
+++++++++++++++
الباشا البغدادي.. إقطاعي تسبب في غضب المتورطين
باشا مدينة فاس، وحليف الحاكم العسكري الفرنسي في المنطقة، وسليل عائلة البغدادي التي خدمت المخزن لما يزيد على القرن. حفيد هذه العائلة، الذي كان يجاهر بمعاداته للوطنيين المغاربة في فاس سنة 1954، جلب على نفسه الانتقادات في صفوف الوطنيين وأعضاء الخلايا السرية للمقاومة، عندما أعلن أنه على رأس المؤيدين لنفي الملك الراحل محمد الخامس في غشت 1953. ومنذ ذلك اليوم، وأعضاء الخلايا السرية للمقاومة في كل من الدار البيضاء وفاس، يضعونه نصب أعينهم.
الباشا البغدادي كان يقطن في دار اعتبرها الفاسيون دائما امتدادا للقضاء، حيث كان أصحاب النزاعات يقصدونها لفض نزاعاتهم، كما أن الذين يتم اعتقالهم على ذمة «التحقيق» معهم، كانوا يودعون في مخازن تابعة للباشا البغدادي. وكان هؤلاء المتنازعون كثيرا ما يقضون الساعات الطوال، حسب شهادات قدماء المقاومة، أمام دار الباشا، ويلمحون موظفي الإقامة العامة الفرنسية والعسكريين وهم يغادرون دار الباشا، بعد أن كانوا في ضيافته.
وهذا التقارب بين البغدادي والفرنسيين جعله شخصية غير مرغوب فيها، رغم أنه كان نافذا للغاية.
وحتى عندما انطلقت أطوار محاكمة المتورطين في أحداث فاس في مارس 1954، كانت أحياء المدينة القديمة منها والشعبية متعاطفة مع الوطنيين، إلا أن «الرهبة» التي كان يتمتع بها الباشا البغدادي لعبت دورها في فرض النظام العام في تلك الأحياء، وهو ما يفسر عدم خروج مظاهرات، رغم أن الوطنيين نزلوا بقوة في صحافة حزب الاستقلال وطالبوا بإطلاق سراح جميع المعتقلين.
كان هناك أيضا تخوف من أن ينال المتورطون المغاربة أحكام ثقيلة، خصوصا وأن محاكمة القنيطرة سبق أن نفذت أحكاما بالإعدام ضد الوطنيين، وهو ما جعل مصير الواقفين أمام القاضي الفرنسي في مهب الريح.
كانت العائلات الفاسية الميسورة تصرف مساعدات سرية لعائلات المعتقلين. ففي الوقت الذي كانت توزع فيه المنشورات في فاس لمساندة المعتقلين في الأحداث المذكورة، كانت بعض العائلات الثرية تمول في السر بعض الوطنيين المكلفين برعاية عائلات المعتقلين.
كان معروفا أن العائلات تعيش محنة الانتظار على أبواب السجن المركزي، أو أمام بوابة قاعة المحكمة لكي ترى المعتقلين وهم ينزلون في المكان المخصص لتوقف سيارة السجن التي تأتي بهم إلى الجلسات من البوابة الخاصة بالسجناء، وكانت تلك فرصة للعائلات لكي ترى أقاربها المعتقلين، عن قرب. لكن عمليات التمويل بقيت محاطة بالسرية، حتى لا يصل البوليس الفرنسي إلى المتبرعين للعائلات.
وكثيرا ما كانت الأسر المعوزة التي يتابع أفرادها، سواء في محاكمة فاس، أو المعتقلين بتهم أخرى، تتوصل بقفف تموينية دون أن تعرف مصدرها.
وهذا الأمر بالضبط كان يقلق الباشا البغدادي ويخرجه عن صوابه، حتى أنه أطلق مخبريه في حارات فاس الضيقة وفرض مراقبة لصيقة لمنازل الأسر التي يُتابع أبناؤها في المحاكمة، بل وصل الأمر حد تعيين نساء من دار الباشا لكي يراقبن زوجات المعتقلين، ويتقربن منهن ويحاولن الوصول إلى معلومات بشأن التبرعات السرية التي كن يتوصلن بها أوقات المحاكمة، وطيلة فترات سجن أبنائهن بتهم تتعلق بالمس بالأمن العام الذي حاولت فرنسا فرضه بالقوة في فاس.
سياسة الباشا البغدادي مع المعتقلين وعائلاتهم كان لها دور كبير في تفسير نهايته المأساوية آخر أيام سنة 1955، عندما عاد الملك الراحل محمد الخامس من المنفى في نونبر. إذ إن الباشا البغدادي وصل إلى الرباط وحاول الوصول إلى القصر الملكي لطلب الصفح من الملك الراحل، لكن المتربصين بالباشا وسائقه وصلوا إليه قبل الوصول إلى المشور في الرباط، ولم يكتفوا بقتله فقط، بل مثلوا بجثته، وبدا واضحا أن رغبة الانتقام التي احتفظ بها الناجون من حبل المشنقة، كانت وراء موت البغدادي بتلك الطريقة.
تقارير الجهاز السري « SDEC» الذي أدان الوطنيين
البوليس الفرنسي كان يراقب الأماكن العامة في فاس، سيما الحانات والمتاجر التي امتلكها الفرنسيون المقيمون في المدينة. ورغم أن وجود الأجانب في فاس سبق وجودهم في الدار البيضاء والرباط، إلا أن الوطنيين الفاسيين كانوا رافضين لفكرة ممارسة الفرنسيين لحياة عادية في قلب المدينة، خصوصا أفراد الأمن والمجندين الفرنسيين بمختلف رتبهم.
كانت البرقية القادمة من مقر الإقامة العامة بالرباط تطلب توضيحات بشأن التداعيات الأمنية التي اندلعت مع بداية السنة. التقارير التي ما زال أرشيف المخابرات الفرنسية، «SDEC»، يحفظها، تؤكد أن الإقامة العامة الفرنسية كانت مستاءة جدا من الأحداث المتسارعة سنة 1954، بل وطالبت الأمنيين بتطويق السياسيين، لأنها كانت تتوفر على تقارير تؤكد الصلة بين الوطنيين وأعضاء المنظمات السرية التي نفذت عمليات اغتيال استهدفت فرنسيين وجنسيات أجنبية أخرى في المغرب، وأيضا مغاربة عُرفوا بالتعاون مع فرنسا أو العمل لدى الفرنسيين ولو من باب السخرة في المنازل.
كان حزب الاستقلال، في بؤرة الغضب الفرنسي، إذ إن بعض الوطنيين المنتمين للحزب كانوا يوزعون منشورات باسم حزب الاستقلال، والأمر نفسه انطبق على حزب الشورى والاستقلال. بالإضافة إلى تيارات أخرى لم يُكتب لها تأسيس حزب سياسي، لكنها كانت تحاول رسم رقعة لها في الساحة وكانت على صلة وطيدة بالتنظيمات السرية.
تقارير البوليس الفرنسي كانت تفيد بأن بعض الشبان الفاسيين المنتمين إلى المقاومة ينفذون تعليمات تأتيهم عبر رسائل مصدرها كان هو مخبأ المقاومين المغاربة في مدينة تطوان، والذين كان أغلبهم يتعاطفون مع حزب علال الفاسي، ويعتبرونه المصدر الأول للتعليمات التي كانوا يتلقونها لتنفيذ بعض العمليات داخل فاس.
وهكذا كانت الإدارات الفرنسية في فاس مستهدفة بشكل أكبر من إدارات فرنسا في الرباط أو الدار البيضاء، إلى درجة أن الإقامة العامة الفرنسية قلصت عدد الإدارات التي تمثلها في فاس، وفضلت الإبقاء على أقل عدد ممكن من الإداريين.
هذا لا يمنع من الإشارة إلى حقيقة أخرى مفادها، حسب شهادات مقاومين سابقين، أن فاس كان بؤرة كبيرة للخونة والمخبرين مقارنة مع بقية المدن. إذ رصدت المقاومة في مدينة فاس وجود عدد من «الخونة» المغاربة، قاموا بربط علاقات مع الأمن والإدارة الفرنسية في المغرب، مقابل الحصول على عمولات مالية سخية وأحيانا مجرد امتيازات إدارية تافهة.
كانت فاس تغلي عندما نشرت بعض الصحف المصرية أخبارا عن إقامة علال الفاسي في القاهرة، والرسائل التي كانت تبث عبر الراديو، والتي كان يحث فيها المنخرطين في الحزب، أو أعضاء خلايا المقاومة، على رفع إيقاع المواجهات مع فرنسا، حتى أن مرجعية الحزب في ذلك التاريخ كانت ترتكز على معاداة فرنسا، رغم أن بعض العائلات التي اشتهرت في السابق بدعمها لحزب الاستقلال وتبني أفكاره، بل وتمويله، كانت سباقة أيضا إلى عقد صداقات مع مسؤولين وأثرياء فرنسيين في المغرب.
نفي علال الفاسي، وقبله تم نفي عدد من الوطنيين الكبار وعلماء من القرويين كانوا من مؤسسي الحركة الوطنية إلى قرى ومداشر بعيدة جدا في جنوب المغرب، خطوة استعمارية كان لها دور كبير في تأجيج الغضب الشعبي في فاس ضد فرنسا، وينفجر في أحداث 1954 التي ترتبت عنها المحاكمة.
عندما أُحرقت حافلات فاس.. واتهمت فرنسا المئات بإضرام النار
من الأعمال التي باشرها المقاومون في فاس، والتي سرعت وتيرة الانتقام لدى الحاكم العسكري الفرنسي في المدينة، إحراق حافلات النقل العمومي، والتي كان جل سائقيها في سنة 1952 إلى حدود 1954 من الفرنسيين أو اليهود المغاربة، وأوائل السائقين من أبناء الأوساط الشعبية أو نواحي فاس.
ورغم أن المغاربة بدؤوا فعلا ينفتحون على سياقة الحافلات والشاحنات في المدينة، إلا أن المظاهرات التي أطلقها الوطنيون ودعا إليها المقاومون وأعضاء الحركة الوطنية للاحتجاج ضد فرنسا في فبراير ومارس 1954، استهدفت ركاب الحافلات وسائقيها رغم أنهم كانوا مغاربة أيضا. وهو ما خلف ضحايا في صفوف المغاربة إلى جانب الضحايا الفرنسيين.
جاء في محاضر البوليس الفرنسي، والتي جمعتها المندوبية السامية لقدماء المقاومة في الرباط سنة 1984، قصة أحد السائقين المغاربة، وهي القصة التي حقق فيها البوليس الفرنسي في مدينة فاس.
كان مواطن مغربي يعمل سائقا لحافلة في ملكية مواطن فرنسي مقيم في المغرب، ويملك مجموعة من الحافلات يستغلها في النقل بين المدن المغربية، بترخيص من وزارة النقل. وكان جل السائقين من اليهود المغاربة، الذين كان بعضهم يملك الحافلة التي يتولى سياقتها. مثل اليهودي المغربي الذي كان يملك الحافلة الأولى التي تم استعمالها في مدينة فاس للنقل الطرقي بين فاس والنواحي، واشتراها منه الغزاوي، ثري فاس الشهير، الذي صار في ما بعد مديرا عاما للأمن الوطني بعد أن راكم ثروة كبيرة بدأها بحافلات النقل العمومي، خلال فترة الاستعمار، ليصبح واحدا من كبار ممولي حزب الاستقلال، وبالتالي الفوز بالإدارة العامة للأمن الوطني.
أحداث 1929 المنسية.. عندما تعلم الفاسيون الاحتجاج «السياسي» في الشارع
توجد شهادة نادرة لرفيق كل من علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني، القطبين السياسيين الوطنيين اللذين كانا وراء ظهور الحركة الوطنية، رفقة آخرين، وكان لهما الفضل في بداية الوعي الوطني.
هذه الشهادة نُشرت في دورية وطنية وأعيد نشرها في مجلة «دعوة الحق»، في العدد 215، لكنها لم تحمل توقيع صاحبها، ولم ترد أي إشارة إليه سوى أنه كان رفيق علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني أيام كان الثلاثة طلبة علم في فاس.
جاء في هذه الشهادة ما يلي: «كان ذلك في صيف سنة 1929 وقد كنت طالبا بباريس ورجعت إلى مسقط رأسي لقضاء العطلة (وأنا مضطر إلى استعمال ضمير المتكلم، لأنني كنت المثير لهذه الحركة). وذلك أنني رأيت يوما في الصفحة الأولى من الجريدة الفرنسية التي بدأت تصدر بفاس «Le courrier de Fès صورة لمسجد سيدنا عمر رضي الله عنه بالقدس، مع خبر يقول إن اليهود بموافقة الإنجليز هدموا هذا المسجد الذي له في نفوس المسلمين حرمة كبيرة، فاغتظت لهذا النبأ وأخذتني ثورة في نفسي، وقلت لا بد أن نفعل شيئا أمام هذه الإهانة، وفكرت في القيام بكتابة عريضة احتجاج توقع من قبل أكبر عدد ممكن من المواطنين، وتخابرت في هذا الشأن مع الإخوة علال الفاسي وعبد الوهاب الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني رحمهم الله، والحاج الحسن أبي عياد أمد الله في عمره، فوافقوا على الفكرة ودخلنا ضريح جدنا شيخ الإسلام أبي السعود بن عبد القادر الفاسي، وطلعنا لصقيلية سيدي عبد الوهاب- وهي في اصطلاحنا حجرة من جملة عدة حجر تكون كل واحدة لأحد النجباء من أبناء العائلة الفاسية من طلبة القرويين، يتخذها لتحضير دروسه – فحررنا العريضة وكتبها سيدي عبد الوهاب، رحمه الله، بخطه الجميل، وهو الذي خط أيضا بقلمه خمس عشرة سنة بعد هذا عريضة المطالبة بالاستقلال.
وقد عبرنا في هذه الوثيقة الأولى من نوعها عن سخط أهل فاس على هذا العمل الشنيع وعما أصابهم من ألم نفساني عميق، وحملنا مسؤولية هذا التعدي على مقدساتنا لإنجلترا ولليهود الصهيونيين، وخرجنا بخمستنا نجوب المدينة ونقف عند تجارها وصناعها ونشرح لهم المقصود ونحمسهم ونطلب منهم التوقيع، وكل من خاطبناه تسارع إلى الإجابة، وهكذا لم يبق من أسواق المدينة من لم نجمع تواقيع أصحابه، وهكذا النهار كله وإدارة الحماية في غفلة عنا. وتواعدنا على المضي في العمل في الغد، حيث تلاقينا بضريح سيدي عبد القادر الفاسي وكان المركز الذي ننطلق منه، وفعلا أكملنا عملنا في اليوم الموالي ورجعنا آخر العشية إلى منازلنا راضين مبتهجين بنجاح هذه المبادرة الوطنية الأولى، التي لم يكن لأهل فاس إذ ذاك عهد بمثلها.
وفي اليوم الثالث ما تم جمعنا في الصباح بالزاوية الفاسية حتى فوجئنا بثلاثة من مقدمي الحومات، واحد مكلف بي وبابن عمي سيدي عبد الوهاب لسكنانا بحي واحد، والثاني موكل بسيدي علال، والثالث بسيدي محمد بن الحسن الوزاني. أما أخونا الحاج الحسن أبو عياد، فلم تكن للباشا عليه سلطة لأنه كان «حماية الإنجليز» كما كان يقال، فطلب منا المقدمون أن نصحبهم عند الباشا ابن البغدادي، ومن المعلوم أن مدينة فاس كانت تتمتع بشبه استقلال داخلي، حيث كان لها نظام خاص، فلا شرطة فرنسية ولا مراكز لها وإنما الأمر بيد الباشا ومقدمي الحومة والعسة، ثم كان لها مجلس بلدي منتخب، لأن الحماية وجدت الأمر على هذه الحالة فلم تَجْرُؤْ على تغييره إلى أن قمنا بالمطالبة بالاستقلال سنة 1944، مما تبعته المظاهرات العنيفة المعروفة، فعند ذلك احتلوا المدينة وجعلوا مركزا للشرطة بفندق النجارين وآخر بباب أبي الجلود.
فلما رأيت أن الأمر يتعلق بالعريضة وكانت تحت يدي سارعت إلى أخينا سيدي عبد الوهاب وكلفته بأخذها لتصويرها بالملاح، حيث كان المصور الوحيد الموجود إذ ذاك بفاس وهو المواطن اليهودي أبو حصيرة، وما زال ولده أو حفيده مصورا بفاس إلى الآن، ثم توجهنا نحن الثلاثة، عبد ربه وسيدي علال وابن الحسن الوزاني إلى دار أبي علي، حيث مقر حكم الباشا وهو منذ أيام الباشا أبي علي الروسي في عصر المولى إسماعيل محل باشوية فاس، فمثلنا أمام الباشا ابن البغدادي وقد كان رجلا حازما مستقيما، إلا أن له سمعة سيئة بما قام به من التعسف ضد حركتنا الوطنية ورجالها».
هؤلاء الذين عاشوا هذه الأحداث سنة 1929، كانوا مساهمين، عندما أصبحوا قادة وطنيين، في أحداث فاس سنة 1954، وعملوا على تجييش الوعي الوطني للفاسيين لكي ينزلوا إلى الشارع ضد الحماية الفرنسية.