مجازر البيضاء.. هذا مصير افتحاص تركة الشركة التركية بعد «اختفاء» مسؤوليها
عزيز الحور
من المعلوم أن نسبة كبيرة من اللحوم الحمراء المتداولة في أكبر مدينة مغربية وهي الدار البيضاء لا تخرج من المجازر البلدية للمدينة. النسبة تصل إلى 70 في المائة وفق معطيات رسمية، ذلك أنه من أصل 120 ألف طن من اللحوم التي تستهلك في الدار البيضاء كل عام، 90 ألف طن يوفرها محترفو الذبيحة السرية. يجمع المتدخلون في القطاع على أن أهم سبب في تدني مردودية المجازر البلدية بالبيضاء هو ضعفها. هذا الضعف تتخبط فيه المجازر منذ أمد بعيد، إلى درجة أنه في ظرف 25 سنة تقريبا تعاقبت على تسيير المجازر عدة شركات أجنبية، إسبانية وتركية، شركتان منهما اختفتا عن الأنظار على نحو مفاجئ ودون تقديم حساب. ما سبب تخبط مجازر العاصمة الاقتصادية في كل هذه المشاكل؟ أين وصل ملف نزاع مجلس المدينة مع الشركة التركية التي كانت تدبر المجازر قبل أن تقرر، ذات صباح، الانسحاب على نحو أشبه بهروب؟ ما تصور مكتب المجلس الحالي في الملف؟
نبدأ بآخر مستجد، فخلال الدورة الأخيرة لمجلس مدينة الدار البيضاء، التي انعقدت مطلع شهر فبراير الجاري، كان مقررا التصويت على المدة الزمنية لاتفاقية تدبير المجازر بعد تقييم سنة من التدبير من طرف شركة الدار البيضاء للخدمات. ذلك أنه بعد المغادرة المفاجئة شركة «أونليير المغرب»، التي يديرها تركي قيل إنه في الأصل طبيب أطفال، والتي جمعها اتفاق مع مجلس البيضاء للتدبير المفوض للمجازر ما بين 2008 و2011، خلال شهر غشت 2014، أي قبل أربع سنوات من انتهاء مدة العقد مع المجلس، تولت الجماعة الحضرية، وبشكل مباشر، تدبير المجازر خلال ما تبقى من سنة 2014، قبل أن يجري، مطلع سنة 2015، تكليف شركة «كازا كونطرول»، والتي تحولت، شهر مارس 2015، إلى شركة «الدار البيضاء للخدمات»، وهي شركة تنمية محلية أحدثت لتدبير مرافق عمومية بالبيضاء والإشراف على متعهدي خدمات بمن فيهم شركات التدبير المفوض، بتدبير المجازر.
استمر تدبير المجازر من طرف شركة التنمية المحلية طيلة عام 2015 ومطلع السنة الجارية. منذ مغادرة الشركة التركية صيف 2014 وحتى اليوم تعتبر مدة تدبير المجازر حاليا فترة انتقالية، ذلك أن كل شيء مر سريعا إلى درجة أنه لا يوجد حاليا أي مسؤول يمكن أن يجيب عن السؤال التالي: هل جرى ضبط حصيلة الشركة التركية قبل أن تغادر، خصوصا أن الجماعة تنازلت لها، بعد التعاقد معها، على مداخيل فاقت خلال سنة واحدة مليارا ونصف مليار سنتيم بدعوى تغطية مصاريف تسيير كبيرة؟
ما الذي حصل خلال هذه الفترة الانتقالية، بما في ذلك الأشهر الثلاثة التي أشرف فيها مجلس المدينة على التدبير المباشر للمجازر؟ هل دفعت الشركة التركية فاتورة مغادرتها المباغتة أم لا؟
بعد الهروب المفاجئ
لحد الآن ليست هناك إجابة جازمة بشأن سبب «هروب» الشركة التركية بين عشية وضحاها. المعطيات الأكثر شيوعا تشير إلى عدم تمكن الشركة من تدبير أزمة «الأمونياك»، ذلك الغاز السام الذي كان يتسرب مرارا من مبردات بالمجازر. لكن هل كان ذلك سببا كافيا لإخلاء الشركة للمجازر في رمشة عين قبل أن تختفي عن الأنظار؟ وهل تعلق الأمر فعلا بهروب، علما أن الشركة أخطرت الجماعة بمغادرتها قبل سبعة أيام من ذلك؟ ماذا فعل مسؤولو الجماعة حينها؟
حاولنا العودة إلى اليوم الذي غادرت فيه الشركة التركية للمجازر على نحو مباغت. اتصلنا بالرجل الذي أشرف على تدبير تلك اللحظة. يتعلق الأمر بأحمد بريجة، النائب الأول السابق للعمدة محمد ساجد. بريجة يصف ما حصل بـ «تخلي» للشركة عن مهامها، أو هكذا هي تقول. هل هناك فرق بين التخلي والمغادرة وفسخ العقد؟ نعم، هناك فرق يكمن في ما يترتب عن كل مصطلح من نتائج قانونية. يقول بريجة في حديثه مع «الأخبار»: «العقد الذي كان يجمع مجلس المدينة بالشركة التركية كان يرتب جزاءات في حال فسخ العقد، لكن الحاصل أن الشركة تقول إنها تخلت عن مهامها ولم تفسخ العقد، وهذا التخلي يقود إلى مساطر مرتبطة بالقانون التجاري والمدني».
ما يثبت أن الشركة التركية قامت بأمر غير قانوني، حسب بريجة، هو أنها لم تخبر مجلس المدينة بقرارها في المدة المنصوص عليها في العقد، بل تم ذلك قبل أسبوع من مغادرتها. «يلزم العقد الطرفين بالإبلاغ عن فسخ العقد تتراوح ما بين شهرين إلى 6 أشهر قبل القيام بذلك على ما أتذكر، لكن الشركة لم تحترم ذلك، لذلك اضطررنا إلى تدارك الأزمة وقمتُ بالإشراف على التدبير المباشر للمجازر ما بين شهر شتنبر إلى نهاية سنة 2014، إذ تم بعد ذلك تكليف شركة التنمية المحلية بتدبير المجازر. خلال هذه الفترة قمت بتسوية الوضعية المالية للمستخدمين والعمال والسهر على حسن سير المجازر»، يردف بريجة.
المسؤول السابق بمكتب مجلس البيضاء تحدث عن مدة إخبار قبل فسخ العقد وليس التخلي الذي قال هو نفسه إن الشركة أعلنت عنه. قد لا يهم هذا التفصيل القانوني بقدر ما يهم التأكد مما إذا أجري افتحاص للتأكد من أن الوضعية المالية للمجازر كانت سليمة قبل أن تغادر الشركة التركية، بمعنى أوضح، التقين من أن الشركة التركية لم تختلس شيئا قبل «هروبها» المباغت، فهل تم ذلك؟
يرد بريجة عن هذا السؤال قائلا: «لقد رفعنا دعوى قضائية على الشركة بسبب تنصلها من التزامها معنا، ولا أعلم مآل هذه الدعوى كما لا أعلم ما إذا أجري افتحاص مالي يتحقق من الوضعية المالية للمجازر». إلى جانب الغموض الذي يلف تركة الشركة التركية التي يظهر أنها لم تصف بعد، يبرز مكمن غموض آخر مرتبط بالحل الذي لجأت إليه الجماعة الحضرية للبيضاء وهو التدبير المباشر، ولو لثلاثة أشهر، للمجازر. ما تم بالفعل هو توقيع بريجة لبرتوكول اتفاق مع عامل سيدي عثمان، الذي تقع المجازر في تراب العمالة التي يشرف عليها، من أجل تأمين تزويد السوق باللحوم الحمراء وضمان حسن سير المجازر، لكن كيف جرى تدبير مداخيل المجازر خلال تلك الفترة علما أنه لم يكن هنالك تبويب مالي يسمح بإيداع هذه المداخيل والتأشير عليها من طرف الخازن الجماعي؟
يجيب بريجة قائلا: «بالفعل لم يكن هناك تبويب يسمح بإدراج المداخيل التي تحصلت عليها الجماعة الحضرية، بشكل مباشر، من المجازر، لكننا قمنا بخلق حساب خاص لتسوية هذه الوضعية».
هذا الحساب الخاص سيضاف إلى تركة الشركة التركية ضمن لائحة ما يفترض افتحاصه. هذا الافتحاص لم يتم لحد الساعة، وهو ما يؤكده عبد الصمد حيكر، النائب الأول لعمدة الدار البيضاء الجديد، عبد العزيز العماري.
حيكر يقول، في حديثه مع «الأخبار»، إن لجنة تتبع ستعد تقريرا حول الوضعية المالية للمجازر قبل مغادرة الشركة التركية. ويتابع مؤكدا: «قد يكون تقرير لجنة التتبع جاهزا في فترة 15 يوما من الآن. وبناء عليه سنحدد كيف سنتصرف».
هناك، عمليا لجنة تتبع تحقق في ما حصل خلال تلك الفترة المظلمة من تاريخ تدبير مجازر البيضاء، فضلا عن دعوى قضائية لم يعلن عن نتائجها.
سيناريو يتكرر
ما حدث مع الشركة التركية لم يكن سوى تكرار على نحو متطابق لمشهد آخر مماثل حدث مع الشركة الإسبانية «رامون فيسكا ينو»، التي كلفت بتدبير المجازر الجديدة التي بنتها شركة أخرى تابعة لمجموعة إسبانية واحدة وهي «فسكا ينو جيبيسا بيخار المغرب». الشركة الإسبانية فوض لها تدبير المجازر سنة 2002 لكنها غادرتها سنة 2008 قبل انتهاء العقد، وذلك بعد العمل ست سنوات فقط. السيناريو ذاته تكرر أيضا إذ بدأ الاحتجاج على الشركة الإسبانية كما حدث مع الشركة التركية، واكتُشفت اختلالات أيضا انتهت بـ «فرار» المسؤول الإسباني للشركة كما حدث بالضبط مع المسؤولين الأتراك الذين غادروا أيضا بعد ست سنوات.
المثير أيضا، ووفق ما أكده تقرير المجلس الجهوي للحسابات الخاص بسنة 2007 والذي كان قد عجل برحيل الشركة الإسبانية، أنه قبل هذه الأخيرة كان من المفترض أن تدبر شركة أخرى اسمها «أباطا» المجازر بدءا من سنة 1999، وقد أعد مشروع اتفاقية معها بالفعل لكن لم ينفذ، كما يبرز تقرير الحسابات.
التقرير ذاته كان قد نبه، إلى جانب الاختلالات المالية والإدارية، إلى أن العقد الموقع بين الجماعة الحضرية والشركة الإسبانية لم يشدد على وضع ضمانات يمكنها أن تحمي الجماعة في حال وقوع نزاع مع الشركة الإسبانية، علما أن رأسمال الشركة لم يكن يتجاوز 15 مليون سنتيم فقط يساهم بها شخص واحد فقط، بمنعى أنها غير قادرة، حسب تقرير الحسابات، على ضمان الممتلكات التي وضعت رهن إشارتها، والتي تتعدى قيمتها 70 مليار سنتيم، بمعنى أوضح الجماعة الحضرية وضعت، ودون ضمانات، رهن شركة صغيرة ممتلكات تضاعف قيمتها قيمة الشركة كلها بأزيد من 4000 مرة.
تقرير الحسابات نبه أيضا إلى عدم تضمين العقد مع الشركة أي جزاءات عن فسخ العقد في حال ارتكاب الشركة لأخطاء معينة. قد أكدت الجماعة، في جوابها على ملاحظات مجلس الحسابات، أنها تداركت هذه الثغرة في الاتفاقية الجديدة التي سيفوت بموجبها للشركة التركية تدبير المجازر، لكن يبدو أن ذلك لم يحصل بشكل دقيق، وبذلك تكون الجماعة الحضرية للبيضاء قد لدغت من الجحر مرتين.
الآن، فوتت الجماعة الحضرية للبيضاء تدبير المجازر إلى شركة تنمية محلية، وهي شركة «الدار البيضاء للخدمات»، تساهم فيها الجماعة بأكبر نسبة، وبغض النظر عن الحيثيات القانونية الخاصة بهذه الشركة وتركيبتها الإدارية، فإن التدقيق في العقد الذي يجمعها بالجماعة الحضرية للبيضاء، والذي يستمر ست سنوات، من بداية سنة 2015 إلى نهاية سنة 2020، يظهر غياب المفتاح الذي كان مفقودا أيضا في العقود التي جمعت الجماعة الحضرية بالفاعلين الأتراك والإسبان أيضا. هذا المفتاح هو الشروط الجزائية وإجراء فسخ العقد أو التخلي عن المهام أو غيرها من المصطلحات التي يمكن أن ينشأ عن تأويلها لبس وغموض.
في العقد الموقع يوم 5 دجنبر 2014، والواقع في 15 صفحة، والذي تتوفر «الأخبار» على نسخة منه، يظهر وجود 15 فقرة. على مرور هذه الفقرات تم تحديد مجال اختصاص شركة «الدار البيضاء للخدمات» مع منع تكليفها، عن طريق المناولة، لمهام أساسية في تدبير المجازر لأي طرف آخر، لعدم تكرار ما سبق أن حصل مع الشركات الأجنبية الأخرى، كما تم الاتفاق على كيفية تعويض الشركة والذي سيتم باقتطاع مبلغ معين عن كل كيلوغرام من اللحم يجري إنتاجه داخل المجازر، والتزمت الجماعة الحضرية بتوفير 5 ملايير سنتيم لتطوير المجازر مع تحديد نسبة 3 في المائة من هذا المبلغ كتعويض لمسؤولي الشركة عن مهام إشرافهم على عملية التطوير هاته.
في نهاية الاتفاقية تم تضمين فقرة أخيرة لا تتعدى خمسة أسطر تضمنت ما يجب القيام به في حال وقوع نزاع بين الجماعة الحضرية وشركة «الدار البيضاء للخدمات». تم حصر الحلول في أمرين، حل ودي إذا تعذر يتم الانتقال إلى الحل الثاني وهو عرض المشكل على سلطة الوصاية، أي الداخلية، لإيجاد توافق. سوى ذلك لم تتضمن الاتفاقية أية جزاءات.
في المقابل، تم التنصيص على خلق لجنة تتبع لتنفيذ الاتفاقية. اللجنة تضم ممثلا عن الجماعة وولاية جهة الدار البيضاء الكبرى، والتي أصبحت جهة الدار البيضاء سطات بموجب التقسيم الجهوي الجديد، وممثل عن شركة «الدار البيضاء للخدمات» وعمالة مولاي رشيد، التي توجد المجازر ضمن ترابها، والمكتب الوطني لسلامة المنتجات الغذائية. هذه اللجنة، التي يفترض أن تراقب عمل الشركة التي تدبر المجازر الآن، هي التي سترفع تقريرا حول الموضوع بعد 15 يوما تقريبا، حسب تأكيد النائب الأول الحالي لعمدة البيضاء، فهل سيشمل التقرير فترة تدبير الشركة التركية وما تلاها؟ هذا ما أكده المسؤول المذكور وإن كان مجال تدخل اللجنة، وفق الاتفاقية، يتحدد من الفترة التي بدأت فيها شركة «الدار البيضاء للخدمات» عملها في تدبير المجازر.
صفقة بناء المجازر الجديدة.. ملف آخر
كثير من الأمور التي جرت داخل أسوار المجازر الجديدة للدار البيضاء لم تتوضح بعد، فإلى جانب تركة الشركة التركية التي اختفت فجأة، ما زال ملف آخر يخص صفقة بناء المجازر من طرف الشركة الإسبانية سالفة الذكر لم يفتح بعد رغم وجود معطيات بشأن إنجاز ولاية جهة البيضاء لتقرير أظهر أن قيمة إنشاء المشروع الحقيقية هي 18 مليار سنتيم عوض 67 مليار سنتيم التي تقاضتها الشركة الإسبانية.
ورد هذا المعطى في تقرير لشبكة حماية المال العام سنة 2013، ولم ترد عن السلطات المعنية أية معطيات بشأنه، في الوقت الذي ذهب فيه التقرير إلى أن قيمة صفقة بناء المجازر تطلبت اقتراض الجماعة لمبلغ ضخم هي مطالبة بتسديده على مدى طويل.