لهذا نحن مقصرون
تتعامل فئة كبيرة من المثقفين والجامعيين والباحثين بالكثير من التحفظ تجاه الكتابات ذات الطابع التبسيطي الموجه أساسا للجمهور، سواء في الصحف أو المجلات أو حتى في الكتب ذات الطابع البيداغوجي، معتقدين، ولهم الحق في ذلك إلى حد ما، أن تبسيط أرسطو أو الفارابي أو ديكارت أو كانط أو هيغل أو ماركس أو هايدغر أو دولوز في مجال الفلسفة، هو تحريف وتسطيح لأفكار هؤلاء، والأمر نفسه بالنسبة لمجالات أخرى من قبيل النقد والأدب والعلوم الإنسانية المختلفة.. لذلك فهم يفضلون الاكتفاء بأطروحاتهم الجامعية. وهذه الفئة تشكل أكثر من ثلثي أساتذة الجامعات، وفق إحصاءات رسمية، لكن هذه الفئة، والتي قد لا يشك أحد في إخلاص البعض منها وحرصهم على الدقة المعرفية في الكتابة والبحث، نجدها بالمقابل، تمارس فعل التدريس لأطروحات فلسفية أو نقدية أو أدبية، محاولة نقل ما قاله هؤلاء بأمانة. والسؤال هنا: أليس فعل التدريس تعميما وتبسيطا؟ أليس الهدف من تدريس أفلاطون في الفلسفة، والفارابي في المنطق، أو ابن عربي في التصوف، وبيرلمان في الحجاج، هو جعل الطلبة والتلامذة يفهمون أطروحاتهم كما هي؟ بهذا المعنى أليس أستاذ الفلسفة وأستاذ الأدب وأستاذ المنطق وأستاذ النقد هم وسطاء بين منتجي المعرفة، وهم الأدباء والفلاسفة والعلماء، وعموم الناس المحتاجين لأطروحاتهم وأفكارهم؟ ثم ما الفرق بين التوسط التربوي الذي يمارس في مدرجات الجامعات وقاعات المدارس، والتوسط الذي يمارس في الملحقات الثقافية في كبريات الجرائد والمجلات العالمية؟ أليس مهما، بالنسبة للعموم، أن يتم تبسيط وتعميم وإشاعة الأفكار الفلسفية والنقدية والعلمية، لتتحول إلى قيم معاشة في اليومي بدل أن تبقى جامدة في الكتب؟ ألسنا في حاجة، على المستوى الثقافي، لأفكار هؤلاء الجبابرة؟
أنا أعرف جيدا أن هناك المئات من الباحثين الذين أنجزوا أطروحات محترمة ومتميزة في موضوعات معرفية دقيقة، لكن من المؤسف حقا أنهم لم يبذلوا أي مجهود يذكر في ما بعد لتبسيطها وإتاحتها بلغة بسيطة لتكون في متناول طبقات القراء وهم كثر. قراء قد لا يستطيعون فهم مصطلحات الفارابي، وهو الفيلسوف الذي لا نظير له في الفلاسفة العرب في العناية بالمصطلح. كما لا يستطيعون فهم المنهج الديكارتي في بناء «التأملات» والمنهج الكانطي في ثلاثيته النقدية العظيمة، لكنهم بكل تأكيد، أي (عموم القراء)، في حاجة ماسة ليكونوا فارابويين وديكارتيين وكانطيين وهم يفكرون في قضايا اليومي.
طبعا بالنسبة للمجال الحضاري الغربي، الأمر محسوم منذ زمن الموسوعيين، وهم نخبة متنورة على رؤوس الأصابع، فهموا جيدا ما حدث في العصر الحديث منذ كوبرنيك العظيم، لذلك لم تبق النظريات العلمية التي تعرفوا عليها وتأثروا بها، سجينة الكتب والحوارات المغلقة في الصالونات المخملية، بل بسطوها وشرحوها ولخصوها، بنقلها من اللغة اللاتينية التي كانت آنذاك اللغة الرسمية للعلم، إلى لغتهم القومية والتي هي لغة التداول اليومي. ليدشنوا بذلك عرفا ثقافيا مازال ساريا إلى اليوم.. ففي كل الشواطئ والمطارات ومحطات القطارات والمقاهي، هناك دوما كتيبات صغيرة وملاحق لجرائد ومجلات تشرح أفكارهم. بل وحتى الروايات العالمية والمسرحيات التي كتبها جبابرة المسرح العالمي، تجد لها أيضا تلخيصات وشروحات مبسطة لتكون في متناول الجميع. بل ولم يتوقف عندهم الأمر في الكتب والمنشورات والملحقات الثقافية التي تبسط الأطروحات والنظريات، بل إنهم أسسوا مؤسسات جامعية الهدف منها هو تبسيط هذه المعارف، وهذه هي أساس فكرة «الكوليج دو فرانس».. إنها مؤسسة رسمية للتوسط المعرفي بامتياز.