“كورونا” سيغير النظام العالمي إلى الأبد
هنري كيسنجر
دفعتنى الأجواء السريالية لوباء فيروس كورونا (كوفيد 19) إلى تذكر ما شعرت به عندما كنت شابًا في فرقة المشاة 84 خلال معركة الثغرة (التي وقعت من 16 دجنبر 1944 إلى 25 يناير 1945 بنهاية الحرب العالمية الثانية وحاول خلالها الألمان شق صفوف الحلفاء والالتفاف من الخلف لمحاصرتهم والقضاء عليهم في منطقة الأردين بين بلجيكا ولوكسمبورغ وفرنسا).
الآن، كما كان الأمر في أواخر 1944، هناك إحساس بالخطر الداهم، الذي لا يستهدف شخصا بعينه، وإنما يضرب بشكل عشوائي ومدمر. لكن هناك فارق مهم بين تلك الفترة البعيدة وزماننا الآن، ففي الماضي تم تعزيز القدرة الأمريكية على التحمل بهدف وطني مطلق. أما الآن، ونحن في دولة منقسمة، من الضروري وجود حكومة فعالة بعيدة النظر للتغلب على العقبات والتحديات غير المسبوقة من حيث الحجم والنطاق العالمي، فالحفاظ على ثقة الجمهور أمر حاسم للتضامن الاجتماعي، وترابط المجتمعات ببعضها البعض، وللسلام والاستقرار الدوليين.
تتماسك الأمم وتزدهر عبر الإيمان بأن مؤسساتها قادرة على توقع الكارثة ووقف تأثيرها واستعادة الاستقرار. وعندما ينتهي وباء كورونا، سيتم النظر إلى مؤسسات العديد من الدول باعتبارها قد فشلت. لا يهم ما إذا كان هذا الحكم عادلاً بشكل موضوعي أم لا، فالحقيقة هي أن العالم لن يكون كما كان بعد فيروس كورونا. والجدال الآن حول الماضي يزيد من صعوبة القيام بما يجب القيام به.
لقد ضرب فيروس كورونا بضخامة وشراسة غير مسبوقين، وينتشر بشكل متسارع، والإصابات تتضاعف في الولايات المتحدة الأمريكية كل 5 أيام. وحتى كتابة هذه السطور، لا يوجد علاج، والإمدادات الطبية غير كافية لمواجهة موجات الإصابات المتزايدة، ووحدات العناية المركزة على وشك النفاد والانهيار. كما أن الاختبار غير كاف لمهمة تحديد وجود الإصابة، ناهيك عن وقف انتشارها. وقد يتم الحصول على لقاح ناجح خلال فترة تتراوح بين 12 و18 شهرًا.
إن جهود الأزمة، مهما كانت ضخمة وضرورية، يبنغي ألا تنال من المهمة العاجلة المتمثلة في إطلاق مشروع موازٍ للانتقال إلى نظام ما بعد كورونا.
ويتعامل القادة مع الأزمة على أساس وطني إلى حد كبير، لكن تأثيرات الفيروس في تفكيك المجتمع لا تعترف بالحدود. وإذا كان اعتداء الفيروس على صحة الإنسان سيكون مؤقتًا، كما نأمل، إلا أن الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي أطلقها قد تستمر لأجيال. ولا يمكن لأية دولة، ولا حتى الولايات المتحدة، أن تتغلب على الفيروس بجهد وطني محض، فيجب أن تقترن معالجة ضرورات اللحظة في نهاية المطاف برؤية وبرنامج للتعاون العالمي. وإذا لم نتمكن من القيام بالأمرين معا، فسوف نواجه أسوأ ما في كل منهما.
إن استخلاص الدروس من تطوير خطة مارشال ومشروع مانهاتن يلزم الولايات المتحدة ببذل جهد كبير في 3 مجالات. أولاً، دعم المرونة العالمية تجاه الأمراض المعدية. فنحن نحتاج لتطوير تقنيات وتكنولوجيات جديدة لمكافحة العدوى وإنتاج اللقاحات المناسبة عبر مجموعات كبيرة من السكان.
ثانيًا، السعي لمعالجة جراح الاقتصاد العالمي، فالانكماش الذي أطلقه كورونا، في سرعته ونطاقه العالمي، غير مسبوق في التاريخ. وتدابير الصحة العامة الضرورية مثل التباعد الاجتماعي وإغلاق المدارس والشركات يفاقم الألم الاقتصادي. وينبغي أن تسعى البرامج أيضًا إلى تخفيف آثار الفوضى الوشيكة على أضعف السكان في العالم.
ثالثاً، حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي، فأسطورة تأسيس الحكومة الحديثة تقوم على أنها مدينة محصنة يحميها حكام أقوياء، بما يكفي لحماية الناس من عدو خارجي.
لقد انتقلنا من معركة الثغرة (نهاية الحرب العالمية الثانية) إلى عالم من الازدهار المتزايد وتعزيز الكرامة الإنسانية. والآن، نعيش فترة تاريخية. وبات التحدي التاريخي للقادة هو إدارة الأزمة وبناء المستقبل، لأن الفشل قد يحرق العالم.