كورت فالدهايم يرقب الصحراء تحت خيمة مغربية
بقامته الطويلة وأنفه الذي يبرز على وجهه، طاف الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كورت فالدهايم، على العواصم المغاربية، الجزائر ونواكشوط والرباط في فترة دقيقة، لم يكن فيها نزاع الصحراء ارتدى الأبعاد التي حددت مساره منذ صيف وخريف العام 1975. وكان التوقف في العاصمة مدريد ضروريا، كونها الدولة التي كانت لا تزال تحتل الساقية الحمراء ووادي الذهب.
لئن كان مفهوما أن مقاربة الموقف الإسباني في حينه لا غنى عنها، فإن ما لا يستساغ أن يتم التراجع عن الإحصاء الذي أجرته لسكان الأقاليم الصحراوية، والمحصور أساسا في ما لا يزيد عن 74 ألف نسمة. وبالتالي فالتوقف في مدريد أصبح أقرب إلى عادة «مكتسبة»، وإن كانت حقائق الميدان تقول إن الملف لم يعد اختصاصا إسبانيا.. تماما كما أن فكرة الأطراف المعنية، إن كانت استقرت منذ البداية على محور المغرب والجزائر وموريتانيا وإسبانيا، فإن إقحام طرف آخر يناقض الحقائق الجيوسياسية.
الملاحظة الوحيدة التي يمكن التوقف عندها خلال تلك الجولات المكوكية، أن فالدهايم ومبعوثيه لم يجروا أي اتصالات مباشرة أو غير مباشرة مع جبهة بوليساريو الانفصالية. وكان محاورهم على الطرف الآخر الرئيس الجزائري هواري بومدين متشددا، يلتقي في طروحاته مع الجنرال الإسباني فرانكو. الفرق أن الأخير كان في طريقه إلى غفوة الاحتضار التي لم يفق منها أبدا، بينما بومدين كان يخفي مرضه وراء التهديد بأن بلاده لن تقف مكتوفة اليد، في حال حدوث اتفاق مغربي – إسباني للجلاء عن الصحراء.
يعني ذلك أن بلدا جارا كان يدعم موقف الاحتلال على حساب سعي المغرب لاستعادة سيادته ووحدته. وإذا كان من درس يتعين استظهاره جيدا، فهو أن زيارة الأمين العام الحالي للأمم المتحدة بان كي مون إلى الجزائر والمنطقة، إنما تنطلق من الفكرة القديمة التي عجز فالدهايم عن فرضها، يوم حاول إرضاء الجزائريين والإسبان وفق نسق واحد.
حاصل التطورات التي ليست بعيدة كثيرا، أن كورت فالدهايم، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، تسلم ملف الصحراء رسميا، على خلفية زيارة لجنة تقصي الحقائق الدولية، وظهور بوادر توتر في منطقة الشمال الإفريقي. ومع أن ملف الصحراء كان مسجلا في وثائق المنتظم الدولي منذ العام 1958، فإن فالدهايم سيكون أول أمين عام يباشر مهامه، بهدف تطويق ذلك التوتر. ورأيته مثل غيري من الصحافيين يدلف إلى خيمة كبيرة، نصبت على هضبة عالية في مناسبة تدشين سد كبير في ضواحي مراكش. ولسبب ما أبى الملك الراحل الحسن الثاني إلا أن يشركه في وقائع تدشين سد متدفق بالمياه والأماني.. كأنما أراد القول إن استرداد المغرب لأجزائه المغتصبة في الجنوب، سيجلب إليها الخضرة والازدهار.
في مقابل ذلك، صرح بومدين بأنه يعارض أي اتفاق مع مدريد. وسيزيد موقفه انفعالا بعد إعلان المغرب تنظيم «المسيرة الخضراء» التي اعتبرها تهديدا لبلاده. فرد الحسن الثاني بأنها المرة الأولى التي يسمع فيها عن نظام ملكي يهدد جمهورية، بينما العكس هو ما كان سائدا في العقول والظنون.
لا شيء يتغير في السياسة، إلا بالقدر الذي ينزع فيه رجالاتها إلى الحكمة والواقعية وتغليب المبادئ. ولم يكن هناك ما يبرر ذهاب فالدهايم إلى الجزائر، سوى أنها طرف معني بالتوتر. ذلك أن ما يصح في مرحلة ما قبل تصعيد التوتر، لا يمكن إلا أن تتمدد ظلاله على ما يلحقها من أحداث. وفيما انفتح باب المفاوضات مع مدريد، أوفد الرئيس الجزائري هواري بومدين مسؤولين رفيعي المستوى إلى العاصمة الإسبانية لتعطيل مسار المفاوضات.
وستكشف وقائع لا يرقى إليها الشك، أن الجزائر كانت ترغب في مفاوضة مدريد بهذا الصدد، إن لم يكن بطريقة مباشرة، فمن خلال صنع واقع مزيف، يمكنها من بسط نفوذها على الساقية الحمراء ووادي الذهب، كي تصل إلى الاستئثار بمنفذ بحري على الساحل الأطلسي. ولا يزال هذا «الحلم» التوسعي قائما تغلفه الدبلوماسية الجزائرية بما تصفه «دفاعا عن حق الشعوب في تقرير مصيرها». ولم يسمع أحد عن شعب يقرر مصيره من أجل أن تستحوذ دولة، ذات مطامع ترابية وسياسية واقتصادية، على خيرات دولة مجاورة.. إنها أكبر كذبة في التاريخ..!
كان الوفد الجزائري يضم العقيد سليمان هوفمان، الذي يوصف بأنه الأب المؤسس الحقيقي لجبهة بوليساريو، والعقيد محمد عبد الغني، وزير الداخلية، وحمداني إسماعيل، المسؤول في رئاسة الجمهورية، ومن «الحقائب الدبلوماسية» خرج وفد آخر دأبت السلطات الجزائرية على تقديمه بأنه «يمثل الصحراويين» الموالين لها طبعا.
أكثر من أربعة عقود مرت على هذه الوقائع، وما تزال حقائب الدبلوماسية الجزائرية مليئة بتشوهات الأطماع العمياء. غير أن العودة إلى الملابسات التي اكتنفت أول زيارة لأمين عام للأمم المتحدة إلى المنطقة، قد تفيد في تسليط الأضواء على الكثير من الحقائق المغيبة.. وفي مقدمتها أن المفاوضات بين مدريد والرباط أنهت الاحتلال الإسباني للصحراء. وأن المفاوضات التي لم تقع بعد ذلك، هي ما يخص المغرب والجزائر لإنهاء التوتر. فالمسيرة التي انطلقت في نوفمبر 1975، ليست من قبيل الأحداث التي تتوقف، وإن تغيرت أهدافها وملامحها والمشاركون المتطوعون لبناء السيادة والوحدة مغربيا ومغاربيا.