في كل بيت مغربي مطربة على طريق الاعتزال
أرخت سيدة الطرب العربي أم كلثوم السمع لمطربة مغربية ناشئة تدعى أمينة المطيري، تجاوزت تقليدها إلى حد الشبه. كان حضور حفل أم كلثوم في فاس كما الرباط حدثا لا يعوض. مثقفون ومبدعون وأعيان ورجال أعمال يصطفون بانتظام أمام شباك تنفد تذاكره بسرعة.
أهو الطرب وحده له جاذبية مغناطيسية؟ بلا.. ففي توقيت متقارب احتلت امرأة مصرية أخرى عقول الناس. حاضرت العالمة عائشة بنت الشاطئ في جامعة القرويين، فشدت إليها مجامع الفقه والدراسات الإسلامية، لأنها كانت عقلانية في تفسيرها ورائدة في جيلها. وما الغي والنزق يجمع، ولكنه العلم النافع الذي يستحب الثقافة والطرب الأصليين.
تبارى أثرياء ومبدعون في استضافة أم كلثوم، واهتدى رائد الملحون الأب محمد بوزوبع إلى التأريخ لحدث زيارتها إلى فاس بتقديم هدية رمزية، عبارة عن قفطان من الطراز التقليدي، سعدت بارتدائه كما لم تفعل مع فساتينها المحتشمة ومناديلها التي لا تفارق راحة اليد عند الغناء. تقدم إليها الملحن أحمد الشجعي المفتون بالكمان واللحن الجميل، وقال إن له هدية من نوع آخر. لم تكن سوى المطربة أمينة المطيري التي غنت في حضرتها في سهرة أليفة، وانتزعت الآهات والحنين الذي لا يفتر إلى طرب القصيدة، فكانت أفضل هدية أشعرت سيدة الغناء أن الهتاف للصوت المغربي كان تفاعلا رائعا مع طول كعب الصوت الأصلي.
أصغت أم كلثوم بروحها، وقالت إن الصوت «أمطرها» دفئا وإحساسا غريبا بأنها لن تموت. طالما أنه توجد في المغرب الأقصى أم كلثوم ثانية، وحكت أمام الحضور عن خطوات مشيتها الأولى على سُلم المجد، متنبئة بمستقبل زاهر للمطربة التي اسمها أمينة المطيري. وتمنت أن يصادف احتضانها مكامن القوة والصفاء في أدائها.
أي نصيحة أشد أثرا من اعتراف يصدر عمن تربعت على عرش الطرب بلا منازع؟ فقد انصرفت المطيري أكثر قناعة بأنها يمكن أن تستحوذ على مشاعر مستمعيها في فاس أو القاهرة أو بغداد أو تونس أو دمشق. وما الأصوات إلا أرواح تنطلق إلى الآفاق الرحبة إن تحررت من قيود كثيرة. فهي مثل الطيور لا يمكن أن تغني داخل الأقفاص، ولا تعبر عن حريتها، كما في المقطع الخالد لأم كلثوم: «أعطني حريتي أطلق يدي» إلا حين تكون أكثر تحررا من العادات والعراقيل والحسد أيضا. كم كان محقا من قال إن في كل بيت مغربي مطربة، وفي كل درب لاعب كرة قدم ماهرا، وفي كل فصل دراسي مواهب تبحث عمن يرعاها.
بيد أن حظ المطربة المغربية في انتزاع إعجاب سيدة الطرب العربي، لم يوازِه ما كانت تتوخاه من دعم وتشجيع. فقد تردد اسمها في سماء التألق، وتهاطلت عليها عروض ملحنين ومتعهدين لكنها فضلت أن تغني لأم كلثوم، ولم تتصور موقعا لها منفصلا عن التقليد الذي أتقنته، وهي تؤدي رائعة «إنت عمري» وصنوتها «الأطلال» و«هذه ليلتي»، ولما تحضر ليلتها في الموعد.
كومضة برق اختفت المطيري فجأة. قيل إنها اعتزلت الغناء قبل أن تبدأ، وقيل أيضا إن علاقات اجتماعية أرغمتها على التواري إلى الظل. وصارحني الملحن أحمد الشجعي، بعد مرور سنوات على غيابها، بأنه ندم كثيرا لكونه لم يعرف كيف يصون هدية السماء. مشيرا إلى أن أمينة المطيري كانت قاب قوسين أو أدنى من أن تصبح «أم كلثوم المغرب» في حينه. وتساءل ضاحكا بتقاسيم وجهه الصارمة: «وهل يوجد لدينا ملحنون يواكبون تألق النجوم؟». وأدركت لماذا كان مقترا في غير إبداع الموسيقى الصامتة.
من التقليد تنطلق البدايات، وفي كل الفنون الإبداعية يكون هناك مثل أو رمز يتم الاقتداء به. تأتي أم كلثوم في المقدمة، وتلحق بركبها مطربات مقتدرات، فيروز ونجاة الصغيرة وأسمهان وعلية، ثم الفتاة وردة وجيل المخضرمات، مثل ميادة الحناوي وماجدة الرومي وغيرهن. فالارتواء يكون من رأس العين.
في المسرح كذلك يفرض التقليد نفسه، وتظل روائع وليام شكسبير: «هاملت» و«عطيل» و«الملك لير» وغيرها مدرسة قائمة الذات، من لم ينهل من ينابيعها، وتحديدا من الفن الكلاسيكي الراقي، يتعذر عليه اجتياز ممرات الاحتكاك والتجربة. فالفنون أيضا تلتقي وعالم الصوفية في التعلم على يد المشايخ. ولم يكن صدفة أن غالبية المطربات المغربيات اللواتي رصعن أسماءهن في سجل الشهرة والأداء المتميز، اقتفين أثر التقليد، قبل أن تصبح لديهن علامات «البصمة» الذهبية التي تعرف بها المقامات.
أطنب والد المطربة سميرة بن سعيد في مدح خصائص أم كلثوم، وحينما كان يقدم الطفلة الصغيرة التي قلدتها، يشفع كلماته بأنه أوصاها بأن يكون لها أسلوبها الخاص في الأداء. ومكنتها رعاية أبوية وأسرية من أن تطل على الجمهور من نافذة واسعة، ثم صارت نجمة تتحدث عن نفسها وتجربتها وابنها بطلاقة اللسان الذي يقال عنه إنه مقياس الرغبة والقدرة. ولم تكن محطة القاهرة عابرة في مسارها، كما عبد الهادي بلخياط وعبد الوهاب الدكالي وعبد الحي الصقلي.. بل استوطنتها، كما جاء إليها فنانون آخرون من الشام للارتواء من وادي النيل.
ارتبطت صورة مصر بالأهرام، وظل الهرم الرابع في عالم الغناء الموسيقار محمد عبد الوهاب مزارا يمنح صكوك الصعود إلى النجومية أو يحجبها بكبرياء العارف. كان صارما في أحكامه وأكثر تشددا في أوصافه. لكن المطربة المغربية سمية قيصر سحرته وأخرجته من تحفظاته، وقال يوما وهو يصغي إليها في بيته: «لن أترك شرف التلحين لها لغير رفيق أمير الشعراء أحمد شوقي». لكن قيصر المطربة، وقد بدأت رحلتها مع الهرم الرابع، لم يكن واردا أن تغني بعد ذلك من تلحين غيره إلا لماما. ثم تبخرت بدورها في الهواء كما أمينة المطيري، وحملت سرها بين ضلوعها. فالاعتزال لا يرادف البدايات، وإن كان اقترن، في تجارب مطربات مغربيات، بشهرة الطلعة الأولى. أين عزيزة جلال إذن؟ أين الصوت الشجي الذي منح أسمهان تأشيرة النفاذ إلى وجدان أجيال جديدة، تملكها الشوق إلى «ليالي الأنس في فيينا»، بعد أن كان مقترنا بالأندلس التي نعتت بالفردوس المفقود.
يا لها من مفارقة، من لم يرغمه الاعتزال بدافع شخصي محض، تطيح به الأقدار، فقد لمعت الفراشة رجاء بلمليح أنيقة في أدائها ورصينة في صورتها، ثم غيبها الموت في أوج العطاء، لكن ظاهرة اعتزال المطربات المغربيات تخفي موروثا نسويا في عالم رجالي. ويتعين الانحناء أمام قدرة نساء على تحدي الموروث، كما في تجارب تأسيس فرق غنائية بالأمداح والأهازيج. وبعد أن كانت عروضهن تقتصر على عالم الأفراح النسوية، صارت مشاعة بقوة التطور والتأثير.
لو أعطي المزيد من الوقت للمطربات المغربيات المعتزلات، هل كانت صورة الأغنية المغربية ستتغير نحو الأفضل؟ أسأل، وما الأغاني والأذواق والمُثل ثابتة، ولكنها متحولة مع الأزمان. وغدا لن تحتاج المطربات والمطربون إلى أصوات، فالآلة تنوب عن الجميع، كما في عالم الروبوهات المتحركة، ضمن ما يعرف بـ «الإنسان الآلي».