شوف تشوف

الرأي

في رحلة المتاهات

نتابع من جديد رحلتنا في وضع ظاهرة المفكر العراقي الشيعي (القبانجي) تحت المجهر فقد أدخلنا في متاهة (البلاغة الوجدانية) أو النغم الإلهي، المختلط بتناقضات شتى ـ بزعمه عن القرآن ـ وغياب أي لون للبلاغة في نظمه فضلا عن أي لون من الإعجاز، وهي في أماكن شتى من القرآن، وهو تحطيم كامل لكل الرؤية الإسلامية التقليدية بل وحتى نواة البنية القرآنية.
الرجل ينكر أي لون من البلاغة باستثناء لمعات من البلاغة الوجدانية التي يمكن لأي شخص أن يحققها إذا صار عنده ذلك الوعي النبوي.
والشواهد التي أتى بها من سورة الروم أو من الواقعة تدفعنا للسؤال كيف نفهم عليه في هذه النقطة، التي يقول فيها إذا بلغنا مستوى الوجدان النبوي تنزل علينا الوحي؛ فالوحي مستمر ولم ينقطع، وهنا فكرتان الأولى التي قال بها (محمد إقبال) الهندي في كتابه (تجديد التفكير الديني) عن الوحي أنه ظاهرة كونية فالله أوحى إلى النحل كما أوحى إلى أم موسى أن أرضعيه. إنه ذلك الإلهام الخفي في النائبات والنظام الكوني. وربما ذهب في فلسفته إلى هذا الشيء.
أذكر لونا من هذا الوحي حين كنت أعمل في مشفى في مدينة أولدن بورج الألمانية، وقد وضعت لولب تسخين الماء أعد به فنجانا من القهوة في وعاء من الألمنيوم. كان ذلك في غرفة نومي العلوية. لم يكن يخطر في بالي أن الألمنيوم يحترق؛ فقد عرفت لاحقا أن يستخدم كوقود جاف في إرسال صواريخ الفضاء الخارجي، ثم مضيت إلى الأسفل، حيث انكببت كعادتي على دفاتري وكتبي وقلمي ونسيت نفسي ومعها وعاء التسخين يحترق، ثم جاءت لحظة منفردة بدون تذكير أو تنبيه من أحد أو آلة أو رائحة حريق. وحي يقول انهض! حين وصلت غافلا عما يجري في غرفة نومي لمحت الدخان يخرج من الغرفة، وحين دخلت كان الهول الأعظم في انتظاري.
كانت النار قد بدأت في التهام (الكنبة) فقد استحال وعاء الألمنيوم إلى كتلة نار. لو بقيت في الأسفل دقائق أخرى لكانت النار قد بدأت في التهام المشفى والمرضى، وكان معنى هذا نهاية رحلتي في التخصص الطبي في ألمانيا إن لم يكن السجن مثواي.
كان وحيا عجيبا في لحظة عجيبة لا أنساها. أنا لست نبيا بل أحاول إحضار فكرة عن إلهام الوحي المعمم في الوجود. لممت أغراضي وبقية الوعاء المحترق وبقية لولب الكهرباء الصاعق، كانت مناوبتي تنتهي يوم الأحد صباحا. مررت في طريقي إلى بيتي على حاوية أزبال فألقيت ببقية أدوات الجريمة (الخطأ) التي لم تحدث وحدثت زوجتي ليلى سعيد رحمها الله ونحن نحمد الله على النجاة لكل الأطراف.
هنا يفهم من تحت هذا الوحي، هذا الضرب من (الوعي) الخفي، ويسميه علماء النفس ما تحت الشعور في تقسيم الوعي إلى ثلاث طبقات؛ الوعي العادي الذي نمارسه كلنا يوميا، ويدخل فيه في قسمه الأعظم 95 في المائة إلى اللاوعي (ما تحت الشعور = Subconcious) وما فوق الوعي (Superconcious) وهي لحظات انهمار العبقرية وتدفق الإبداع وهو موجود عند كل واحد منا ولكنه يتطلب نقاء واستعدادا.
كما أن الوحي جاء في وصفه أنه أشكال؛ منها الرؤيا الصادقة التي وصفت فيها عائشة (ر) أن أول ما ابتدأت النبوة بالرؤيا الصادقة؛ فكان النبي (ص) لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وضوحا وصدقا. (هي جزء من ست وأربعين جزءً من النبوة لأنها استمرت ستة أشهر). أما أشدها فكان ما يأتي على شكل الجرس المدوي.
نحن هنا نتفق معه في تجليات الروحانيين العظماء، واستنطاقهم للطبيعة والتاريخ لمعرفة الخفايا، وعلل الواقعات، ونبض التاريخ، أما الوحي والتشريع وبناء الأديان فهذه خاصية لشخصيات مثل محمد (ص) وعيسى وموسى ونوح وإبراهيم عليهم صلوات الله أجمعين.
الرجل ـ القبانجي ـ محق في كثير مما يقوله، ولو أحيانا بشكل استفزازي ساخر (لا ننسى الطبع العراقي الحاد!) وكما قلنا فإن موجة الارتداد الهائلة والصحوة العقلية التي دخل غمارها، أفقدته الكثير من التوازن، فهو ينطح برأسه صخرة هائلة من الأفكار الراسخة المستقرة منذ قرون، من المفاهيم التقليدية المؤسسة.
وحين يتحدث عن داعش يقول في إشارة خفية إلى الوهابية البدوية، هل تعلمون لماذا تخاف داعش من الثور المجنح فتدمره؟ لأن هؤلاء الأعراب القادمين من غبرة الصحراء وقفوا مذهولين أمام حضارة أفضل منهم؛ فمدوا أيديهم الصبيانية يريدون النيل منها، ومحوها حسدا، حتى يتساووا معها؛ فهذه هي آلية الحسد الخفية الني تحركنا بالتميز.
ثم يمضي إلى التفريق بين (الأصنام) و(التماثيل)، وأن هؤلاء يدمرون آثار الحضارة الإنسانية، وهو محق في هذه النقطة؛ والقرآن يتحدث عن سليمان كيف صنعت له الجن محاريب و(تماثيل) وجفان كالجواب وقدور راسيات.
وقد يتعجب القارئ من همجية أعراب داعش، وأنها بعيدة عن معدن القرآن مع كل تمسكهم بآيات الذكر الحكيم، تلك التي تدعو أن يتأملوا مصارع الغابرين، من بئر معطلة وقصر مشيد، لفهم التاريخ ومعنى النبوات، لا تدميرها ومسحها كما فعلت طالبان مع تماثيل بوذا وداعش في آثار تدمر، وأن يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، دمر الله عليهم، وللكافرين أمثالها. وأنهم يمرون عليها مصحبين وبالليل أفلا يعقلون.
هنا ينبثق معنى جديد للكفر والإيمان. هذه الروح القرآنية تبخرت بالتدريج لتتحول إلى روح الأعرابية، فيقتل العرب بعضهم بعضا كما هو الواقع مع صيف عام 2015م.
نحن نقرأ من مقدمة ابن خلدون عن (المأمون) و(عمر) أنهما سعيا في تهديم الأهرام فعجزا، وكذلك الحال مع هارون الرشيد وإيوان كسرى ويعلق (ابن خلدون) بعقله السنني عن الفوارق الحضارية مع سهولة الهدم وصعوبة البناء.
هل نعتبر القبانجي طفرة في الفكر الشيعي وامتدادا لشريعتي وبازركان وسروش والطالقاني؟ أم هو مجرد فقاعة وتمرد وانفجار غير مبرمج بدون مدرسة قد يؤدي إلى صحوة عقلية أو نكبة بدون دين، أو مزيد من الاقتتال كما حصل في حرب الثلاثين عاما في أوربا (1618 ـ 1648).
النتائج هي التي تحكم، وقد جاء في الإنجيل التحذير من الأنبياء الكذبة، فهم ذئاب في ثياب الحملان. سأل التلاميذ كيف يعرفونهم ويميزون؟ فقال المسيح من ثمراتهم تعرفونهم. هل تنبت شجرة التين حسكا؟ أم تنبت شجر الحسك تينا؟ قالوا لا، قال كذلك انتبهوا من الأنبياء الكذبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى