بقلم: خالص جلبي
ليس ما نحبه أو نكرهه هو المقياس للصحة والخطأ، ويخبرنا القرآن عن حقيقة أننا قد نكره شيئا ويجعل الله فيه خيرا كبيرا، كما أن العكس وارد كما جاء في قصة الإفك، فاعتبره خيرا من جهة. والآية تقول وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا، وهكذا فمشاعرنا خداعة، وأبصارنا زائغة، وقلوبنا متقلبة، ومثلا فليس شعورنا بالبرد أو الحر هو مقياس الكون، فدرجة الحرارة 37 التي يعوم فيها جسمنا ويسبح، هي درجة من سلم حراري يتأرجح على شكل طيف من 273.15 تحت الصفر وهي درجة الصفر المطلق لكالفن، إلى درجة حرارة باطن الشمس التي تصل إلى 15 مليون درجة! ونحن نخطئ كثيرا حينما نقيم الكون على صورة ثنائية وليس على صورة الطيف، والعقرب الذي نظنه عين الضرر ثبت أنه مفيد جدا، فالمصل الذي يدور في عروقه يقاوم الأشعة النووية أكثر منا 300 مرة، بسبب وجوده منذ 400 مليون سنة على وجه الأرض، فيمكن أن نستفيد منه، خاصة في ظل الكوارث النووية المهددين بها حتى اليوم. وهذا يبرز المعنى الفلسفي لوجود العقرب في الطبيعة، فلم يعد ذلك الكائن الضار والخبيث والغدار، بل أصبح ملهم الحكمة، ومصدر المصول الطبية الواقية، وأحد أسلحتنا الدفاعية في ترسانة الحرب، ضد الأخطار المحيقة بنا، فتحول بهذا المنظور إلى صديق حميم، بعد أن كان العدو اللدود، ولا يعني هذا أن ينام الإنسان معه في فراش واحد! بل أن يحافظ عليه ضمن إطاره في الطبيعة. كما أننا نرى الطبيعة في صورته بلون مختلف، فالطبيعة كلها ذات كيان متكامل ومترابط، ومتفاهم ومتوازن، ويجب أن نفهمها كذلك، فالبعوض بجانب الضفادع، والعناكب بجانب الحشرات، والذباب بجانب النمل، والأشجار بجانب الحيوانات تنفحنا الأكسجين بعطاء مستمر، دون مَنّ ولا أذى بشكل متوازن، فهناك حلقة كونية جبارة محكمة التماسك، متوازنة الأطراف، تعدل بعضها بعضا في لحظات الخلل، لم نفهم سرها الخالد حتى اليوم، وهكذا أميط اللثام مثلا عن بعض أسرار العقرب المسكين (الذي صبت عليه كل قصائد الذم والهجاء. حب الأذية من طباع العقرب.. إلخ)، كما لا نفهم حتى اليوم تدخلنا وكسرنا لحلقة الطبيعة، واعتداءاتنا المتواصلة عليها، إلا بين الحين والآخر وبشكل درامي، كما حصل مع تخريب الغابات وانفلات فيروس (الإيبولا الدموي) الرهيب يعلن الدفاع عن البيئة ويحصد من لا يحترم هذا القانون، فحتى الغابة لها قانونها، حتى «كوفيد- 19» الذي فاجأنا وحول العالم إلى سجن عالمي. وإذا كان العقرب الحكيم، هو الذي يقاوم الأشعة الكونية المؤذية، ويرمم فيه العصير الأصفر الذي يتدفق في مفاصله كل تخربات الخلايا، التي تدمرها أشعة جاما المنطلقة مع الانفجارات النووية، فإنه على ما يبدو يعمل بحكمة أكبر من الإنسان في التهيؤ للتربع على جمهورية المستقبل: (جمهورية الصراصير والأعشاب والعقارب!)، عندما يرتكب الإنسان حماقته النووية فيقضي على نوعه. وإذا كانت الديناصورات قد اختفت من ساحة الأرض، قبل خمس وستين مليون سنة، فلا يستبعد أن ينتهي الجنس البشري في حماقة كبرى من هذا النوع، وإن كانت كل المؤشرات تدل على أن الخطر النووي في طريقه إلى التقلص الآن.
كتب الدكتور «فرنون. م. ستيرن Vernon .M. Stern»، وهو عالم اختصاصي بالحشرات في جامعة كاليفورنيا «ريفر سايد»، في كتابه «الزراعة وتربية المواشي»، عن قدرة الحشرات مثل الصراصير على الصمود في العاصفة النووية، بحيث إنها تتكاثر بشكل جيد بعد ذلك، في الوقت الذي يسرع الجنس البشري للهلاك: «وستكون الأعشاب آخر ما يهلك.. ويبدو أن الولايات المتحدة لن تكون أكثر من جمهورية من الأعشاب والحشرات». وحسب الدراسات الفرنسية الأخيرة، فسوف تسود العقارب على ما يبدو ظهر البسيطة، لقدرتها غير العادية على مقاومة الأشعة النووية الفتاكة. والحديث عن الأشعة النووية المهلكة لم يكن في حساب آباء القنبلة النووية، عندما انفجرت للمرة الأولى فوق رؤوس اليابانيين. وعندما انتهى الحريق النووي فوق هيروشيما وناجازاكي، فإن أثر القنبلة لم ينته، بل امتد عشرات السنوات يحصد الأرواح إلى عالم الأتراح. فتشوهت الأجنة في أرحام من لم تقتل من النساء، وأسرعت أمراض السرطانات تفتك بالبقية الباقية من الذين لم يطوهم الحريق الكبير! وكان الدكتور الياباني «ميشيهيكو هاشيا Mishihiko Hashiya» أول من انتبه إلى هذه الظاهرة، فأطلق عليها بحق «مرض الأشعة»، عندما لاحظ على مرضاه الإسهال المدمي، ونقص الكريات البيضاء، وتحطم جهاز المناعة، وانهيار الإنسان والموت بعد ذلك. وعندما تم تطوير ما عرف بالجيل الثاني من السلاح النووي، الذي عرف بالسلاح النووي الحراري، والذي يقوم على مبدأ الالتحام الهيدروجيني، اشتدت وطأة هذه الظاهرة، أي أثر الأشعة والغبار النووي المتساقط، فبدأ التفكير في تطوير الجيل الثالث من السلاح النووي، أي ما عرف بالقنبلة النظيفة، ولم تكن نظيفة بحال!
ولأخذ فكرة عن تأثير الإشعاع النووي، فبإمكاننا تصور سقوط سلاح نووي نتروني في ساحة الحرب! إذا سقطت قنبلة نترونية فوق بقعة من الأرض وعلى ارتفاع مائة وخمسين مترا، تجلت آثارها على الشكل التالي: في قطر (120) مترا تعمل (آلية الضغط) أولا، فتتفتت المدرعات ويتبخر الناس! وأما في مدى أربعمائة متر، فتتفجر البنايات المسلحة وتتطاير إلى بقايا من أحجار وتراب وشظايا من الزجاج في الهواء، وأما في حدود سبعمائة متر فسوف يصاب الجنود داخل مدرعاتهم بالشلل الكامل، فتتعطل ملكات القتال، ليموتوا في مدى أربع وعشرين ساعة بشكل عذاب مرعب لا يطاق، وأما في مدى 900 متر فسيجتاحهم الشلل ليتلوه الموت خلال يومين إلى ستة أيام، وأما في حدود 1200 متر فسيكون مصيرهم الموت الجماعي بالانسمام الشعاعي، وفي الكيلومترين الباقيين سيموت الناس غير المحميين في حفلة مروعة من الموت الجماعي بالسم الشعاعي، الذي لا يرونه ولا يحسون به، فيأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون. أما العقرب في الأتون الذري، فإنه سيبقى متفرجا على حماقة الإنسان لا أكثر ولا أقل.
نافذة:
العقرب الذي نظنه عين الضرر ثبت أنه مفيد جدا فالمصل الذي يدور في عروقه يقاوم الأشعة النووية أكثر منا 300 مرة