فلسفة الحب في زمن الكورونا
بقلم: خالص جلبي
هل الحب جنس؟ والجواب إنها نصف الحقيقة. فبدونه ليس من زواج، ومعه لا يضمن الزواج. ولو كان الجنس هو مربط الزواج؛ لما رأينا قط زوجين مطلقين وخلفهما سبعة أولاد، فلا يعقل أن يكون كل طفل ولد في مناسبة جنسية واحدة.
هل الحب كيمياء؟ والجواب أيضا إنها نصف الحقيقة، فكثير من الزيجات تبدأ جفافا وتنتهي ولعا وجنونا أو بالعكس. وهناك من أحب فتزوج، ثم وقع الطلاق، وهناك من تزوج فأحب، فالتهبا بعاصفة عشق ليس لها قرار.
هل الزواج هو إنجاب الأطفال وبناء عائلة؟ والجواب أيضا إنها نصف الحقيقة، فهناك العديد من الأزواج بدون أطفال، سواء بانعدام القدرة أو الرغبة في عدم الإنجاب، وهناك المطلقات مع كومة أطفال.
فما هو الحب يا ترى؟ إنه جميع ما مر ويزيد فهو شجرة يانعة تعطي ثمراتها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون. واختصر القرآن الزواج بكلمات سبع: سكينة ومودة ورحمة ولباس وحمل وإنجاب، واعتبره آية مثل دورة القمر ونبات الزرع والرياح المرسلات.
ويعتبر علم الأنثروبولوجيا أن العائلة لها أربع وظائف: الجنس وإنجاب ذرية يعترف بهم المجتمع أنهم خرجوا من هذا المربع. ومحضن للثقافة، فالطفل يحمل الثقافة ويتعلم اللغة عن طريق الأم. والعائلة بنية اقتصادية مستقلة. وأخيرا العائلة هي مكان الرحمة والانسجام، أي قاعدة التموين الروحي العاطفي.
سئلت امرأة عجوز عن الحب وما معناه؟ فأجابت: أول مرة سمعت هذه الكلمة كنت طفلة صغيرة، وكانت من والدي الذي قبلني وقال: إني أحبك، فقلت الحب هو: الحنان والأمان والحضن الدافئ. وعندما بلغت سن الرشد وجدت رسالة من شاب فيها كلمة أحبك، فعرفت أن هناك من يريد مشاركتي الحياة، فأدركت أن الحب عطاء ومشاركة، والكراهية ارتداد على الذات وتدمير الذات قبل الآخر. وعندما تزوجت كانت أول كلمة قالها لي زوجي أحبك، فعرفت أنها المودة الخالصة من قلب شارك الآخر حياته. وحين غبت عنه قليلا أرسل إلي يخاطبني بكلمة أحبك؛ فعرفت أن الحب شوق وافتقاد. وحين ولدت بأول طفلي، جاء زوجي وكنت متعبة على السرير فأمسك برأسي وقبلني وقال: أحبك. فعرفت أن الحب امتنان وعطف.
وحين تقدمت بنا السنون وتقوس الظهر وشاب الشعر، التفت إلي زوجي عصر يوم وقال: كم أحبك؟ فعرفت قول الله تعالى الرحمة والمودة مزيج ليس كمثله شيء.
وحين بدأنا نمشي مستندين على العكاكيز وكل منا يسند الآخر قال لي والدمعة في عينيه: هل تعلمين كم أحبك. فعرفت أن الحب وفاء وصدق. وهكذا فالحب شجرة تكبر بدون توقف وتعطي ثمراتها كل مرة، فهذا هو الحب يبدأ بذرة صغيرة، ثم يصبح شجرة عظيمة تأوي إليها الطيور. ويبلغ الحب مكانا في القلب أن كل واحد لا يترك الآخر. وهناك شيخ في الثمانين حين سمع بخبر موت زوجته، أمسك بالبندقية فأطلق على نفسه النار بدون تردد، فلم تعد الحياة تساوي شيئا بعد ذهاب شريكة حياته. وهو غير صحيح ولكن من منا الصحيح؟ ويجب أن ينظر للأمر أنه هاوية الحزن بعد شاهقة الحب.
وفي كتاب «طوق الحمامة» لابن حزم ذكر تجربة مذهلة، لرجل تعلق قلبه بفتاة تركته لآخر، فاشتكيا بين يدي الوالي وكان على شرف مرتفع. فقال للمتروك: وكيف تشهد على حبك؟ قال أموت بدونها، ثم ألقى بنفسه من الشاهق فترضرض ولم يمت. قال القاضي للثاني: جرب حظك عزيزي. فنظر من أعلى الهوة وقال: لا.. وترك الفتاة.. ففاز العاشق الفعلي. فالعشق فعلا موت.. ويجب فهم القصة في عصر السيف والحرب القديمة.. ولكن مع الخلفية السيكولوجية للأحداث. وفي كتاب «ساعات القدر في تاريخ البشرية» بقلم ستيفان زفايغ، يتحدث عن غوته الشاعر الألماني الشهير أنه كتب أفضل شعره، حين أحب الفتاة أولريكه فون فولستوف(Oehlreke Von Volstov) بعمر 19 ربيعا وهو بعمر 74 عاما، فخلد اسمها في مرثية مارينباد (Marienbad). وحين خسر نبي الرحمة خديجة، قال عنها؛ بشروا خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب. وعرف عام وفاتها بعام الحزن، وفيه تنزلت سورة «يوسف» العجيبة، التي يعمى فيها النبي حزنا، ويبصر فرحا، وحين يأتيه خبر ضياع الولد الثاني بنيامين بعد يوسف، وبعد عشرات السنوات، يقول: هذه المرة اكتملت المأساة وسوف يأتيني الله بهما جميعا ..إنه ما من أحد قرأ هذه السورة إلا وبكى فيها مرات، وأنا منهم فكم بكيت؟ بقي يعقوب مترنحا بين الأسى والقنوط، والأمل والرحمة، وحسن الختام والتئام شمل العائلة، وتحقق الحلم الرمزي، واكتمال الصيرورة، وفك عقدة الرواية. وفي ظل هذه الظروف القاسية التي عاشها النبي (ص) بخسارة خديجة، جاءت السورة تقول له؛ اكتملت أحزانك، والآن بدأت انتصاراتك، فالنور ينبثق من رحم الظلمات.
ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون….إنني أفهم تعدد زيجات النبي (ص) لاحقا.. لقد كان يبحث عن خديجة ..في أنوثة عائشة وشخصية زينب وحكمة أم سلمة و.. و..، ولكن لم يجتمع قط بخديجة التي جمعت بين الأنوثة وقوة الشخصية، والاشتراك الكلي في الفكرة، والاندماج إلى حد أن جبريل يبلغها السلام، والعشق المفرط، والذكاء اللماح، والثروة والفصاحة والبديهة الحاضرة وقوة الوجدان والجنان، وسرعة التصرف والبحث عن الأجوبة والحلول، حين تنطلق إلى ورقة بن نوفل لتتأكد ما يحصل لزوجها، فيقول لها: أبشري إنه الوحي الذي جاء موسى.
بشروا خديجة ببيت في الجنة خال من القيل والقال والهموم والأحزان والضعف والمرض والسقام والعجز والشيخوخة والفقر والكسل، إنه النهوض بين يدي الرب لحياة لا تضام.