سلام الكواكبي
أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إعادة تموضع القوات الفرنسية في إفريقيا جنوب الصحراء، في تعبير ملتو عن إعلان انسحاب الجيش الفرنسي من جمهورية مالي، بعد تسعة أعوام من التدخل العسكري المباشر الذي هدف إلى وقف زحف ميليشيات «الدولة الإسلامية» و«القاعدة»، التي استطاعت حينها غزو المدينة تلو الأخرى، مهددة العاصمة باماكو. وكان الرئيس السابق، فرانسوا هولاند، قد أخذ قرار التدخل، بذريعة حماية الغرب من إرهاب الجماعات الراديكالية. وقد شارك فرنسا عشرات من الجنود من دول غربية أخرى، في سعي وهمي إلى التشاركية على المشهد الدولي، لم يفلح بعد في كل السياسات الأوروبية الخارجية.
إعلان ماكرون هذا كان منتظرا، منذ أن أزاح انقلابيون من الجيش المالي الرئيس باه نداو، في ماي من العام الماضي، وهو الذي كان على علاقة جيدة مع فرنسا. وعلى الرغم من أن دخول الفرنسيين مالي تم تحت حكم انقلابيين أيضا، إلا أن تسمية الطغمة العسكرية لم ترافق توصيفهم حينذاك، وهو ما توصف به اليوم القوات العسكرية الحاكمة للبلاد. كما عجل من قرار الانسحاب هذا، طرد «الطغمة» العسكرية المحلية السفير الفرنسي. وتعد هذه الحادثة الأولى من نوعها في هذه المنطقة التي عرفت، بعد زوال الاستعمار الفرنسي، ارتباطا حميما بالسياسة الفرنسية، عبر ما كان يصطلح على تسميته بتقاليد «فرنسا/ إفريقيا»، والتي حافظ عليها الرؤساء الذين تعاقبوا على قصر الإليزي، على الرغم من دعوة بعضهم، وخصوصا هولاند وماكرون، إلى ضرورة إعادة النظر في مجمل العلاقات مع إفريقيا.
الدافع الرئيسي الذي ساهم في التعجيل بقرار الانسحاب هو رغبة ماكرون، في اتخاذه من موقعه رئيسا للجمهورية الفرنسية وليس مرشحا لانتخابات أبريل المقبل، حيث لم يعلن عن ترشحه الرسمي بعد لولاية ثانية، على الرغم من ثبوت النية في ذلك. وترافق هذا الاستعجال مع الخشية من إعادة إنتاج سيناريو انسحاب مهين لا تحمد عقباه، كما حصل مع الأمريكيين في أفغانستان. وبالتالي، كان لإعادة إنتاج الانسحاب من كابول إفريقياً، أن تؤثر سلبا على حظوظ ماكرون في الحصول على ولاية ثانية.
إذاً، وبعد تسعة أعوام من التدخل في ظل عسكر محليين، يبدأ اليوم بالانسحاب في ظل حكم عسكر محليين آخرين يتسمون بالمستوى نفسه من الفساد والإدارة الفاشلة لثروات بلادهم. في الماضي، كان هذان الفساد والفشل مقبولين غربيا، لأنهما يصبان في مصلحة الشركات الغربية الكبرى التي تعمل على استجرار المواد الأولية التي تزخر بها أراضي إفريقيا بأبخس الأثمان. أما اليوم، فهناك منافسون جدد لم تحسب لهم أوروبا حسابا يذكر، وهم، وعلى نسب متفاوتة وبأساليب مختلفة، روسيا والصين وتركيا. وإن كانت الصين وتركيا تكتفيان بتعزيز الاختراق الاقتصادي للمجال الإفريقي عبر المشاريع العقارية الضخمة، واستثمار المناجم والمرافئ وشراء الولاءات، فإن روسيا، وسعيا ليس فقط إلى تعزيز حضورها الاقتصادي، بل وأيضا لتحدي الغرب، تتوسع عسكريا عبر مرتزقتها الرسميين الذين لا يعترف الكرملين بتبعيتهم له، وهم ميليشيا فاغنر الخاصة التي يرأسها أحد أقرب رجال البلاط لفلاديمير بوتين. وتوجد هذه القوات المسلحة بشكل فعال لحروب إفريقية في الموزمبيق وإفريقيا الوسطى، واليوم في مالي. وللقبول بهذه المهمة القذرة، تتلقى هذه القوات تعويضات مالية هائلة، نتيجة سيطرتها، ولحساب الكرملين، على مصادر المواد الأولية من الاستخراج حتى التسويق. وبالتالي، فهي تزيح رويدا رويدا من سبقها عن سيطرة غربية عموما، وفرنسية خصوصا، على هذه المصادر.
إصرار فرنسا على الحل العسكري في مالي لم يوصلها إلى بر النجاح، بل على العكس. وقد أثبتت العقلية السياسية الفرنسية الحاكمة، وعلى العكس من عشرات المختصين الفرنسيين من الباحثين في الملفات الإفريقية، أنها تشيح بنظرها عن عمق المشكلات التي تخيم في هذه البقاع من الأرض؛ ففقدان الديمقراطية، وما ينجم عن أنظمة الاستبداد من إنتاج فساد منهجي وفشل إداري وحوكمة سلبية، يؤدي حتما إلى تفشي الانهيار الأمني وتعزيز التطرف الديني أو القومي.
وبمعزل عن الوقوع في فخ التخفيف من خطر المجموعات الراديكالية الدينية، والتي تحاول السيطرة على منطقة «الساحل» الإفريقي، فإن تجاهل المشكلات البنيوية، والتي تنمو كالطفيليات في جنبات هذه المجتمعات، لن يؤدي إلا إلى تفاقم التطرف وتعاظم أدواته، فالصراعات الإثنية والقبلية والدينية التي نمت نتيجة التقسيمات العشوائية التي خلفتها قوى الاستعمار، كما التنافس على الأراضي بين المزارعين والمستثمرين للمواد الأولية، كما عصابات التهريب والصيد الجائر المتحالفة مع قوى قبلية، كما انهيار الخدمات العامة للدولة وغياب سياسات تنموية مستدامة، فهي تؤدي، كلها وسواها، إلى تعزيز تطرف بعض القوى المحلية أو سعي قوى أخرى إلى استغلال العامل الديني لتحقيق مصالح ضيقة. والروس في هذا المناخ قادرون، بسبب الخبرة، على أن يتعاملوا مع الشيطان لتثبيت أقدامهم. والشيطان عندهم ليس في التفاصيل، بل في سدة الحكم، وفي صفوف من يناهض الحاكم من أصحاب المصالح مهما ادعوا.
نافذة:
أثبتت العقلية السياسية الفرنسية الحاكمة وعلى العكس من عشرات المختصين الفرنسيين من الباحثين في الملفات الإفريقية أنها تشيح بنظرها عن عمق المشكلات التي تخيم في هذه البقاع