غولن وأردوجان.. معالم الصراع على السلطة
صراع (فتح الله جولن) و(رجب طيب أردوجان) على السلطة، وكلاهما إسلامي وكلاهما تركي قح، إلى درجة استباحة الدم الحرام، تقترب من معادلة رياضية متعددة المجاهيل. فكيف يقدم صوفي عميق الإيمان من أتباع سعيد النورسي، صاحب المدرسة المعروفة بنهجها السلامي على انقلاب دموي؟ سؤال لم أجد له جوابا واضحا حتى كتابة هذه الأسطر. ويحضرني في هذا التنافس الدموي ثلاثة أمثلة قد تقترب من حل هذه المعادلة.
الأول من كتاب (روبرت جرين) حول مفاهيم القوة في كتابه المعنون (القوة = Power) حيث ينقل عن نابليون أن أخطر الساعات في السلطة هي لحظة الانتصار، وعلى هذه النقطة استند المخرج العقاد على لحظة الذروة، حتى في تزويج ابنته حين وصل المزاج للقمة؛ فأوقف العزف والموسيقى حتى تبقى تللك اللحظات العذبة في المخيال الجماعي، ومنه يعرف الناس لحظة الغروب أنها جميلة لأنها لحظة الذروة في وداع الشمس. ومنه أقسم القرآن بالشفق واليل وما وسق، وهذا يقول أن أخطر ما يهدد أردوجان هي هذه الأيام هي تضخم الذات عنده، واعتباره خروجا عن قانون البشر؛ بأنه المعجزة والقائد الملهم والزعيم العظيم، الذي لم تجد به الأرحام، وأن الأمة التركية تخرج مرة واحدة قائدا أبديا لا يتكرر. وهو الشرك والوثنية والصنم (ما يعرف بثقافة عبادة الفرد Persoen Cult) فإما فعل كما فعل الغنوشي بالتراجع، وإلا تضخمت عنده الذات إلى لحظة الانفجار، فليس أخطر على الإنسان من ذاته، ومنه أقسم القرآن بيوم القيامة والنفس اللوامة، وفكرة التقوى المكررة في القرآن هي قوة الالتزام وضبط النفس العالي، ومحاسبة الذات الدائمة وأن البشر يخطئون أن السلطة ملوثة بالحرام عادة.
أما المفتاح الثاني لفهم صراع أردوجان ـ غولن إلى درجة مطالبة الحكومة الأمريكية بتسليم رأسه، مع أن تاريخ الرجلين يحكي القربى والود والتعاون في استراتيجية إسلامية، فهو ما رأيته أنا من الكراهية والتنابز بالألقاب بين (الإخوان المسلمين) و(حزب التحرير الإسلامي)، وهذا المرض لا ينجو منه أحد حتى جيل الصحابة كما سنورده بعد قليل.
الحساسية الموجودة بين أتباع حسن البنا (الإخوان المسلمون) وأتباع تقي الدين النبهاني المقدسي (حزب التحرير الإسلامي) ليست خلافا في وجهات النظر، بل رؤية كل واحد للآخر أنه عميل بريطاني؟ ونظرا لأن عقيدة حزب التحرير تقوم على جدلية ثنائية تذكر بالعقيدة الزرادشتية من صراع أهورا إله الظلام مع إله النور؛ فهم يفسرون أي صراع ولو كان نزاع قطين في الشارع أنه صراع بريطاني أمريكي، ويمكن أن نتفهم نوعا ما نظرة تقي الدين مؤسس الحزب في خسارة فلسطين وهو من أبناء مدينة القدس أن بريطانيا كانت في صراع مع الابن البكر أمريكا حول السيطرة على العالم في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
لقد كتب البوطي فقيه النظام الأسدي من قبل أيضا في التحذير من خطر حزب التحرير في مقالة مشهورة في مجلة الحضارة الإسلامية أيام السباعي الإخواني القديم.
المهم مقدار الكراهية والتخوين والحساسية بين هذين التيارين الإسلاميين الذي يصعب فهمه إلا في ظروف المرض الحزبي الضار، مثل طبيعة الأمراض وكيف تتولد من بعضها بعضا.
وفي قناعتي أن أحد الفصيلين لو وصل إلى السلطة وأمسك بمفاتيح القوة فسوف نرى مشهد أردوجان وجولن بأسماء مختلفة.
وهذا يقودنا إلى المفتاح الثالث والأخطر والأشد حساسية إلى درجة أن أحد الكتاب المرموقين انبرى إلى هذه المسألة فكتب (العواصم من القواصم) في محاولة لفهم الصراع الذي نشب بين الصحابة أنه كان يشبه مخطط القلب الكهربي ـ هو لم يقل هذا بل تنزيل طبي من عندي ـ أنه لم يكن تحدث كارثة إلا وتعقبها نعمة تزيل آثار الكارثة، فكانت عاصمة من القاصمة بتعبيره، ولكن هذا الجرد التاريخي يحتاج إلى علوم مساعدة لفهم الظاهرة مثل فلسفة التاريخ وعلم النفس الاجتماعي، وفي القرآن تعبير يقسم أهل المدينة إلى مستويات، فمنهم السابقون وآخرون من المنافقين لا يعلمهم النبي (ص) مردوا على النفاق وأتقنوه، إلى درجة أن أحد أسماء سورة التوبة هي الكاشفة والفاضحة وسورة المنافقين. ونرى في نهاية السورة مصير ثلاثة من الذين تخلفوا عن الحملة في مشهد مؤثر جدا، ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم.
إن التاريخ ينقل لنا صراعا ضاريا لاحقا على السلطة ودمويا جدا، وحين نفتح كتب التاريخ الإسلامي نصدم بمعركة صفين، التي يعتبرها المفكر مالك بن نبي مفصلا في صيروة الحضارة الإسلامية وتوقف المد الروحي منذ تلك اللحظة.
إن صورة القتال المرير في ثلاث أيام وليال من قتال مستمر (أشدها ليلة الهرير حيث تكسرت السيوف والرماح والنبال فحثوا في وجه بعضهم البعض الرمال) ومصرع عشرات الآلاف (قيل سبعون ألفا إلى درجة النداء بكلمة: البقية البقية حتى لا يفنى الجميع) وممن لاقى مصرعه في الوغى عدد ممن شهد معركة بدر، وهو أمر يجعلنا نفهم صراع أردوجان وجولن، الذي لم يكلف حمدا لله سوى بضع مئات!
وحين نقرأ كتاب (تحفة النظار وعجائب الأسفار وغرائب الأمصار) لابن بطوطة نقرأ عن ضرب ابن تيمية على يد فقهاء عصره، فهذا أيضا يفهمنا أن الصراع الديني يكون أحيانا مصيريا قاسيا خاصة في وجه الإصلاحيين (تهميش الخاتمي في إيران)، وهو يفسر أيضا محاولة اغتيال علي جمعة مفتي مصر على يد متشددين (غشت 2016م).
يبقى في النهاية مفتاح إضافي قد يصلح في التفسير وهي أن مجموعة من أتباع جولن (حسب الشبيجل الألمانية عنده 8 مليون من الأتباع) قامت بالعمل بدون توجيه مباشر منه، وهنا لا يستبعد تدخل أطراف من مخابرات رتبت، بحيث كان الانقلاب متعدد المستويات، كما في حادثة البرجين في نيويورك على ما ذكره (تيري ميسان) الفرنسي في كتابه (الخديعة الكبرى)، هنا في هذه الواقعة ينقل عن حسن البنا مؤسس جماعة الأخوان المسلمين حين اشتد رئيس الوزراء (النقراشي) في ملاحقتهم وتصفية ممتلكاتهم أن البنا كان بين مجموعة من تلامذته، وكان الرجل غارقا في التأمل ثم دعا الله بكلمة الله يخلصنا منه. فهم البعض الرسالة وتم اغتيال النقراشي، فعقب البنا قلت الله وليس أحدا؟ ولكن هذا كلف اغتيال البنا لاحقا والصدام الدموي المستمر حتى يومنا هذا بين السلطة وجماعة الإخوان.
إن فلسفة انشقاق الجماعات أو تنافر الجماعات كما في بروتونات الذرة، أو صراعها الدموي كما جرى يوما بين الصحابة، ويجري حاليا في الشرق الأوسط بين الشيعة والسنة، وكما جرى يوما على الأرض الألمانية بين البروتستانت والكاثوليك؛ فكلفت حربا امتدت ثلاثين عاما (1618 ـ 1648) وهو ما يتنبأ به كيسنجر حاليا من صراع سوف يستمر مائة عام في الشرق الأوسط المنكوب بجنون الحرب والذهب، وهو ليس بالجديد في تاريخ الإنسان، وحماقات السياسة، فقد وقعت حرب المائة عام على الأرض الأوربية وكذلك بين العثمانيين والصفويين.