عود على بدء
سمعت أحدهم يقول متحسرا «مسكين بنكيران»، فأردت أن أقول له «نتا اللي مسكين أولدي، أما هوا را خدم خمس سنين خرج بتقاعد ديال خمسة دلمليون فالشهر، زيد عليها ثلاثة دلمليون المانضة ديالو كبرلماني، وخدم بنتو فالأمانة العامة للحكومة وخدم ولدو فالجامعة ودبر لولدو الصغير فخدمة مع مكتب ماكينزي الأمريكي اللي شاد صفقات مع وزارات ومؤسسات عمومية، الحريرة حريرتك نتا اللي زاد ليك بنكيران فالما والضو والمازوط والضريبة وسن التقاعد وفالأخير زاد فحالو وخلاك غارق كريديات».
مشكلة المغاربة أنهم عاطفيون ينخدعون بالدموع، لا يحبون تشغيل عقولهم ويفضلون التصرف على سجيتهم بعفوية مع أخذ الأمور بسطحية بالغة اعتمادا على المظاهر وليس الأفعال والسلوكيات.
وأكثر من يفهم نقطة الضعف هذه لدى المغاربة هم قادة العدالة والتنمية، فقد قضى بنكيران ولايته الحكومية يأكل مع الذئب ويبكي مع «السارح»، وعندما جاء مكانه سعد الدين العثماني أجهش بدوره بالبكاء أمام أعضاء المجلس الوطني لحزبه وهو يبلغهم ما دار بينه وبين الملك، وحتى الرباح الذي يتهمونه في الحزب بالخيانة اكتشف منافع البكاء ورق قلبه وانفجر باكيا بين يدي بنكيران وهو يطلب الصفح منه في لقاء السبت بالمعمورة.
لقد قضى بنكيران خمس سنوات وخمسة أشهر في الثرثرة وإنتاج الكلام الذي لا يقدم ولا يؤخر، وأنهى حصيلته الحكومية بتأزيم كل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، ومع ذلك هناك من يفتقده لمجرد أنه كان مضحكا ومسليا ويحب إلقاء النكت.
هذه الوظيفة في الدول التي تحترم نفسها يقوم بها المهرجون والفنانون الساخرون، أما رئيس الحكومة فيكون عادة رجلا مسؤولا يزن كلامه بميزان الذهب قبل التلفظ به.
لذلك فرئيس الحكومة المعين الجديد يجب أن يستخلص الدرس من تجربة بنكيران التي انتهت به مرميا خارج الحياة السياسية بعدما جاء «سخون» من قطر وذهب إلى الوليدية يتحدث عن فداء منصب رئيس الحكومة برقبته، وفي الأخير عندما سحب منه الكرسي لم يجد ما يقوله غير أنه ذاهب لتجديد الوضوء.
فما يحتاجه المغاربة اليوم هو رئيس حكومة يعمل كثيرا ويتحدث قليلا، وعند الضرورة، رئيس حكومة متفرغا كليا لمنصبه تاركا الأمانة العامة لحزبه لشخص آخر، حتى لا يعيد العثماني ما وقع فيه بنكيران عندما كان يلبس قبعة رئيس الحكومة وقبعة الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، فيتحدث باسم الحكومة في المجالس الحكومية، ويلبس قبعة المعارضة في البرلمان، ويخرج في فاتح ماي متقدما صفوف العمال لابسا قبعة النقابي.
ويجب ألا يخطئ الناس في تقدير حجم سعد الدين العثماني، فالرجل لطيف وهادئ ودائم الابتسام، لكن سياسيا يبقى شخصا متواضعا يفتقد إلى كاريزما رئيس حكومة.
ولذلك فالعثماني مدعو لاستعمال معارفه في تحديد الملامح العميقة لشخصيات خصومه مثلما كان يصنع في بلاطو القناة الثانية عندما كان يحلل لبرنامج «وقائع» شخصيات المجرمين، كما أنه مدعو لتحليل الوضعية السياسية الحالية لمعرفة طبيعة العلل التي تعرقل تشكيل الحكومة، ولتوفير «التحليلة» الناجحة مستفيدا من تجربته كصاحب مختبر للتحليلات الطبية في إنزكان.
ويبدو أن المشاكل التي سوف تعترض طريق سعد الدين العثماني في مسار تشكيل الحكومة لن تأتيه من أخنوش، الذي ذهب قبل أسابيع إلى أكادير لحضور ملتقى أليوتيس والتقط صورا معه وأشاد بالإتقان المحكم للتنظيم، بل من الرميد والرباح، فهذان الشخصان ظلا يطمعان في منصب رئاسة الحكومة إلى آخر دقيقة، إلى درجة أن الرميد عاتب صاحب موقع أعاد نشر خبر يقول إن الرميد يرفض أن يكون بنعرفة ولا يمكنه أخذ مكان بنكيران، فالرجل كان يظن أن الناس نسيت ما قاله عندما شبه الدولة بالمستعمر ومن سيأخذ مكان بنكيران بالخائن.
فماذا يمكن حسب الرميد تسمية سعد الدين العثماني الذي قبل أن يأخذ مكان بنكيران ؟
هل سيجرؤ على تسميته ببنعرفة، أم أنه سيبتلع لسانه الطويل ويتوارى إلى الخلف ؟
الجواب سمعناه يوم السبت عندما مدحه على صبره داعيا الله أن يرفع ذكره، ناسيا كل ما سبق له أن قاله حول بنعرفة والخيانة وما إليها.
لذلك فالرميد والرباح سيفعلان كل ما بوسعهما لإفشال مهمة سعد الدين حتى تعود الأمور إلى المربع الأول، ولذلك قال الرميد إن العثماني وبنكيران ينتميان إلى مدرسة واحدة وإن الاتحاد الاشتراكي خط أحمر.
ولعل الطرف الثالث الذي سيكون له نصيب وافر من العرقلة هو بنكيران نفسه الذي لن يسمح بأن ينجح خصمه العثماني في ما فشل فيه هو، لذلك أعلن نهاية الحكومة بالنسبة إليه وبداية الحزب.
وفي النهاية فالحزب سيكون مقسما بين تيار سعد الدين العثماني وتيار بنكيران، فهناك الراغبون في تشكيل الحكومة واقتسام الحقائب، وهناك الراغبون في الحكم.
أما على مستوى آخر فاختيار طبيب نفسي لحل معضلة تشكيل الحكومة اختيار موفق، فالمشكل منذ اللحظة الأولى نفسي وليس سياسيا.
وقد قالها نبيل بنعبد الله بعظمة لسانه عندما أكد أن مشكلة بنكيران مع بعض الأطراف السياسية نفسية أكثر من أي شيء آخر، وهو ما دفع بنكيران إلى الاعتراف بذلك عندما قال قولته الشهيرة «إلى دخل الاتحاد الاشتراكي للحكومة هي أنا ماشي عبد الإله»، فجاءه الجواب سريعا بإحالته على التقاعد المبكر وتعيين الطبيب النفساني سعد الدين العثماني مكانه.
وكل الذين يتابعون كواليس المطبخ الداخلي للحزب يعرفون أن بنكيران لا يحمل العثماني في قلبه، ودائما ما كان «ينوض الشياط» بينهما في الاجتماعات الداخلية، حتى أن أحد أتباع حزب النهضة والفضيلة يقسم أن بنكيران سبق له أن «شير» على العثماني بكأس لكنه أخطأه، ليس لأن العثماني استعمل خفة وزنه لتفادي الرمية الطائشة بل لأن بنكيران يشبه القناص الأعور في تلاوة بوكماخ.
ولذلك فليس هناك من سيحس بوخز عميق في قلبه جراء هذا التعيين سوى بنكيران، الذي انتهى معه عهد الحكومة الفاسية لكي تظهر ملامح الحكومة السوسية.
فكل من العثماني وأخنوش ولشكر وساجد سواسة ينتمون تقريبا لنفس المنطقة، فيما العنصر ينتمي إلى أمازيغ الأطلس.
سعد الدين العثماني شخص واقعي يعرف جيدا حدود إمكانياته وإمكانيات حزبه، ولعل الجميع يتذكر عندما قال لشبيبة حزبه عندما لاحظ في خضم حوادث رابعة بمصر أن شبيبة الحزب أصبحوا إخوانا أكثر من الإخوان المسلمين أنفسهم أن «الدولة قادرة تطحنكم كاملين».
وكان هذا الخطاب يسير عكس ما كان يقوله بنكيران الذي ظل يحرض الشبيبة في كل مهرجاناته الخطابية إلى الحد الذي أرسل بعضهم للسجن بتهمة الإشادة بالإرهاب فخرج هو بتقاعد قدره خمسة ملايين شهريا فيما هم تنتظرهم سنوات من السجن.
الأمر يتعلق إذن بتيارين داخل الحزب، تيار المواجهة مع القصر وتيار المهادنة، والأخطر أن التيارين معا لا يختلفان في الهدف بعيد المدى الذي هو الوصول إلى الحكم، بل فقط في الوسائل والأسلوب.