عندما رمى المولى عبد الحفيظ صحيفة مصرية وصفت المغاربة بالدجالين!
الأخبار
حدث هذا في منتصف سنة 1909، عندما كان المولى عبد الحفيظ يستقبل وفدا من الحكومة البريطانية، يتزعمهم رئيس المفوضية البريطانية في طنجة. وكان الغرض من اللقاء، محاولة إقناع القصر بالتراجع عن الامتيازات التي يحظى بها الفرنسيون في المغرب. لكن المولى عبد الحفيظ كان متخوفا من الفرنسيين، وهو الأمر الذي عبّر عنه مرات كثيرة لضيوفه البريطانيين. حتى أن مراسلات صحيفة «التايمز» اللندنية في ذلك التاريخ من المغرب، نقلت في مرات كثيرة تصريحات مثيرة للمولى عبد الحفيظ مضمونها أنه يثق كثيرا بالمملكة المتحدة، ويراعي العلاقات التاريخية بين البلدين والتي تعود إلى أيام الدولة السعدية، لكنه بالمقابل متخوف من الدور الدبلوماسي والعسكري الذي تحاول فرنسا ممارسته في المغرب.
عندما حصل المولى عبد الحفيظ على نسخة من صحيفة مصرية، قدمت إليه كهدية بحكم أنها كانت تتضمن صورة له جالسا على العرش، فإنها لم تكن المرة الأولى التي تصله فيها صحيفة مشرقية تتحدث عن المغرب. فقد سبق لأحد المثقفين اللبنانيين أن جاء إلى المغرب، وقدّم للمولى عبد الحفيظ نموذجا من صحيفة مصرية، وأخبره أنه يستطيع أن يُخرج له جريدة مغربية تنافسها لدى المشارقة، لكن المشروع أقبر في الأخير حتى بعد أن اشترى المولى عبد الحفيظ مطبعة خاصة.
ما الذي دفع المولى عبد الحفيظ إلى التمسك بفكرة إصدار صحيفة مغربية تقدم وجهة النظر المغربية وتسوق للمملكة؟ تضايق السلطان المغربي كثيرا عندما لاحظ أن الصحيفة المصرية التي ذكرت أخباره في مرات كثيرة وتطرقت لعلاقته بالبريطانيين، والمقالات التي تُكتب عن المغرب في الصحافة البريطانية، نشرت مقالا مقتضبا وقعه «أزهري» من جملة ما قال فيه إن المغاربة متعلقون جدا بالأضرحة، ووصف الجو الديني السائد في المغرب بالخرافي، وهو الأمر الذي أثار غضب السلطان. وحسب الدبلوماسي البريطاني «السير درموندهاي» في المغرب وقتها، والذي ذكر الواقعة، فإن المولى عبد الحفيظ رمى الصحيفة أرضا، وتوجه إلى بعض وزرائه الذين كانوا في مجلسه وتوجه إليهم قائلا: «أرى أن وقت تأسيس صحيفة توزع في المشرق قد حان، حتى نصحح هذه الأباطيل التي يكتبها عنا هؤلاء».
للتاريخ، فإن المقالات التي كانت تنال من المغرب، بحكم استقلاله بالأحداث عن الموجة التي كانت تعصف بجل الدول التي تتقاسم معه اللغة والدين، جعل المغاربة طيلة ذلك القرن موضوع حرب نفسية غير معلنة مع المشرق، وهكذا لجأ البعض إلى المقالات «السياحية»، التي كانت تُنشر في الصحافة الاستعمارية قبل فرض الحماية على المغرب، والتي كانت تنقل صور قاتمة، لا تخلو من مبالغات في كثير من المرات، لكنها كانت كافية لتجعل مغامرين كثر يشدون الرحال رأسا إلى المغرب للوقوف على تلك الحقائق، واختبار تجارب اجتماعية، يكون لها ما بعدها بطبيعة الحال..
لاحقا، انبرت صحف مغربية، بعد تأسيس «السعادة» وعناوين أخرى، خصوصا منها تلك التي كانت تُنشر أيام الحماية الفرنسية، للدفاع عن المغرب ومحاولة تسويق أسماء المثقفين المغاربة في أوساط المشارقة، وقد كانت مواسم الحج فرصة لكي ينقل الكثيرون كتاباتهم إلى الحجاز متحدثين عن التصوف والمذهب المالكي على وجه الخصوص، لتصحيح الصور التي نقلتها الدول الاستعمارية عن انتشار الخرافة في أوساط البوادي والقرى في المغرب المنسي.
مشاهدات نقلت تفاصيل مرعبة عن مغاربة يأكلون الجمر سنة 1870!
يتعلق الأمر هنا بصفحات لا تتجاوز 40 ورقة كتبها مغامر أسكتلندي، اختفى أثره تماما سنة 1920، ولا تملك الدار الناشرة أية معلومات عن وفاته.
كان «ويليام ن.شاوس» الذي درس في بريطانيا وتعرف فيها على دبلوماسيين يعملون بالمغرب سنة 1870، ولم يكن عمره يتجاوز وقتها كما يقول الثامنة والعشرين. واختار أن يقضي عطلته الصيفية في المغرب، بدل أن يزور عائلته في اسكتلندا، وعندما نزل في طنجة مرورا بجبل طارق في أواخر شهر ماي، لم يكن ربما يتوقع أن يكتب عن مغامراته المغربية والتي نُشرت سنوات بعد انتهاء رحلته التي لم تستمر إلا أربعة أشهر تقريبا، لكنه ضمنها كثيرا من المشاهدات.
يقول: «حتى عندما لا تكون الأجواء حماسية في طنجة، خصوصا في وقت الظهيرة حيث ينام الجميع، فإن تأمل منظر المحيط ومنطقة جبل طارق، يبعث على الارتياح. ولا يقطع الراحة إلا صوت الدواب، وهي تقطع الأزقة لنقل أمتعة التجار إلى السوق. أخبرني أحدهم أنه سيأخذني في جولة مقابل مبلغ بسيط جدا، لاستكشاف المناطق المحيطة بطنجة. وعندما غادر جاء إليّ طبيب فرنسي وأخبرني أنه لا يجب أن أثق هنا بأي كان، وحكى لي أن صديقا له، فُقد أثره تماما بعدما اقترح عليه أحد الحمّالين أن يأخذه في جولة، ووجدت ملابسه بعد أيام عند بائع ملابس يهودي، اعترف أنه اشتراها من أحد الحمالين، وكانت عليها آثار الدماء، ورغم ذلك حاول بيعها.
لقد حظيت أيضا بزيارة ضريح في نواحي مدينة العرائش، وسمعت كثيرا عن النساء اللواتي يكن هناك في انتظار أن تحل مشاكلهن في الإنجاب على يد المدفونين في الأضرحة. لكني لم أصدق هذه الأمور إلى أن رأيتها بعيني.
كان هناك رجل يخلع ملابسه كلها، ويكاد يكون عاريا إلا من ثوب متهالك يستر به عورته ويحمل وعاء معدنيا كان يغلي فوق الجمر، ويشربه ساخنا إلى درجة الغليان، دون أن يصاب بأذى. ولولا أنني رأيته مباشرة لما صدقت أن الأمر ممكن.. في المغرب، على الأقل.
بجواره كان شاب آخر يثقب لسانه بسكين، ويصيح منتشيا، ولم تكن تبدو على ملامحه نهائيا أي آثار للألم.
أخبرني مرافقي أن هؤلاء ليسوا من السكان المحليين، وأنهم جاؤوا من نواحي منطقة مراكش. يكسبون قوتهم بهذه الطريقة المفزعة، ويروضون الثعابين. يقضون السنة متجولين بين الأضرحة في مختلف المناطق، ويرضون بأي مال يُمنح لهم، ولا يناقشون أحدا، ويفضلون النوم ليلا في الطرقات.
حاولت الاقتراب قليلا من أحدهم. كانت الندوب تكسو جلده بالكامل، وأسنانه مهشمة. وبينما هو على تلك الحال، جاء إليه أحدهم بسكين، وبدأ يثقب جسده بالكامل إلى أن تشبع ثوبه بالدماء، وكان يغني بصوت مرتفع وهو يقوم بتلك العملية.
كان عشرات الشبان والأطفال يراقبون هذا المشهد، بل ويستمتعون بهذه الفرجة. بعض الأطفال كانوا مصحوبين بآبائهم، ويتابعون العرض باهتمام، رغم كمية العنف المرعبة التي تتضمنه. وقبل أن تزول عني الدهشة الممزوجة بالصدمة، رأيت بعيني كيف أن أصغر المشاركين سنا، وكانت لحيته الخفيفة في طور التكوين، يحمل جمرة صغيرة مشتعلة، بأعواد خشبية، ويضعها في فمه. ابتلعها مغمضا عينيه والناس يتابعون المشهد».
ربما تكون هذه المذكرات جزءا من صورة كبيرة كان تنقل عن المغرب، لكن نقطة قوتها أنها غير معروفة، بحكم أنها لم تصل في ذلك الوقت إلى الصحافة. تحدث صاحبها عن طقوس الزواج في البوادي شمال المغرب، وقال إنها من أجمل الطقوس التي رأتها عينه على الإطلاق، لكنه لم يتردد في نقل طقوس الدم والحديد، ليس فقط بحثا عن الإثارة، وإنما لنقل «دهشته» المغربية كاملة.
اتهامات باستغلال «السحر» في السياسة..
ربما يكون «بوحمارة» هو أشهر من اتُهم باستعمال السحر في السياسة. لم يكن الأول، هذا أكيد، لكنه كان واحدا من أشهر الذين حاولوا التأثير في الناس، في وقت لم تكن فيه الخطابة لتجدي نفعا.
جاء في كتاب «خلف الكواليس في فاس» الصادر باللغة الإنجليزية سنة 1909: «أصبح «بوحمارة» الآن يعرف أن هناك مجموعة قادمة من فاس تمر قرب موكبه. وصلنا إلى مكان محاط بالجنود وأمرنا أن ننزل عن ظهور البغال وننتظر أوامر الزعيم «المخيف» بداخل الخيمة. أمضينا أزيد من ربع ساعة ننتظر، وتم إدخالي إلى الخيمة لأمثل في حضرة «بوحمارة». كان يجلس القرفصاء على حصيرة، وإلى جانبه اثنان من مساعديه. كانت الخيمة مظلمة وتصعب داخلها الرؤية بوضوح، كما أنه كان يضع «قب» جلابته على رأسه، لكن مصافحته أبانت أنه رجل قوي. كان في الأصل مساعدا لمولاي عمر، أخ السلطان، وتم اعتقاله قبل أن يفر من السجن ويهرب إلى الجزائر، حيث تعلم أصول الشعوذة قبل أن يعود إلى المغرب ويستعرض المعجزات والخوارق والتي تصدق ضمنيا من طرف المغاربة. بهذه البداية الجديدة في الحياة، كان يتقن أكثر لعب دور «الزعيم»، خصوصا وأن فترة حكم كل سلطان في المغرب تشهد وجود متمرد».
لم يكن هذا المصدر الوحيد الذي اتهم بوحمارة بالشعوذة، فقد سبقه إليه صاحب «سفرية عاجلة إلى مراكش»، والذي كان مقالا مطولا نشر في سلسلة مطبوعات بعنوان «مغامرات في إفريقيا»، والذي نشر في الولايات المتحدة الأمريكية، خلال ثلاثينات القرن الماضي. هذه الأوراق حكت في تفاصيل قليلة، لكنها غنية، عن انتشار طقوس مرعبة فعلا في بعض الاحتفالات التي تُحشد لها التجمعات. وكان مرعبا للأمريكيين أن يطالعوا في ذلك المقال، كيف أن شيخا مغربيا يدعي أنه يملك قدرات خارقة تفوق طاقة البشر يعمد إلى ثقب لسانه بسيخ حديدي، تحول لونه إلى حمرة قانية بفعل تعريضه للنار.
كان الرجل يحمل السيخ عاليا في الهواء، ويضعه فوق لسانه في حركات متسارعة ويعود إلى الصراخ في الناس بأعلى صوته، مدعيا أنه يرى أشياء لا يرونها. وفي آخر العرض دعاهم إلى تناول طعام «صدقة» في دار الباشا، وتلا دعاء طويلا له بالصحة والعافية، وأقسم ببعض أولياء الأضرحة المدفونين في نواحي مراكش، أنه يستطيع رؤية البركة القادمة إلى الناس هناك إن هم بقوا تحت راية الباشا الجديد، ولم يتبعوا القبائل التي كانت تتمرد ضده.
كانت هذه الطقوس كافية لإقناع المغلوبين على أمرهم بصدق ما يدعيه الرجل. لقد كان مقنعا «بطريقة ما».
كانت أيضا بعض القصص التي يُستغل فيها العرض داخل الأضرحة لفرض نوع من القوة السياسية. تماما مثلما وقع في أيام المولى إسماعيل، عندما استغل أحد القياد في سوس إقامة مواسم بجوار بعض الأضرحة، وجاء بفرق من مدعي الخوارق، والذين كانوا يشربون الماء المغلي ويأكلون الشوك بكل سهولة، مدعين أنهم يعيشون في عالم روحاني يسمو عن العالم البشري. وفي نهاية العروض يطلب أولئك العارضون من الناس الالتفاف حول القايد، إلى أن حشد عددا كبيرا من القبائل حوله، ذبح لهم الثيران والخراف في زمن المجاعة، وعندما وصل خبره إلى المولى إسماعيل، أحد أشهر ملوك الدولة العلوية عبر التاريخ، حتى أمر بسجنه وتأديبه، حتى لا يعود أحد إلى استغلال طقوس الأضرحة لحشد الأتباع ضد الدولة. لكن الأمور اختلفت في سياق تاريخي آخر، عندما أصبح المخزن يستغل إقامة تلك الاحتفالات لضرب خصومه، خصوصا في فترات «السيبة» حيث حقق المخزن بإيعاز من الوزير باحماد أيام المولى الحسن الأول، ضربة استباقية ضد المتمردين، وسارع إلى ضبط الأمن داخل الزوايا والأضرحة، لتفشل في الأخير محاولات إخراج الناس ضد «المخزن».
الوجه الآخر لعلاقة «الشعوذة» بالاستعمار
الرائج أن فرنسا استعملت الزوايا والأضرحة لثني المغاربة عن مقاومة الاستعمار. لكن تاريخا آخر بقي غائبا عن استعمال الزوايا والأضرحة واللجوء إليها للاحتماء من «لعنة» فرنسا. حتى أن أكبر مجزرة تعرض لها الأجانب في المغرب سنة 1907 كانت بمشاركة ضيوف الأضرحة الدائمين، وحملوا السكاكين ضد فرنسا، بناء على معتقدات راسخة في الزوايا و«الكرامات». فقد كان المغاربة يتخوفون من الطرق الجديدة التي تنهجها أوربا في الاقتصاد، واعتزامها بناء سكة الحديد بين خريبكة والدار البيضاء.
لعل هذا الحوار الذي نُشر في الصحافة المحلية في بريطانيا سنة 1907، مع واحد من أشهر قادة منطقة سطات والدار البيضاء، يقدم صورة واضحة عن الوضع. جاء في جوابه عن السؤال الصحافي عن الوقائع التي سبقت اندلاع الأحداث في مدينة الدار البيضاء، ما يلي: «أتذكر عندما كنت معنا حين حاربنا سفينة الفرنسيين التي كانت تريد الرسو في الصويرة. لقد منعناهم، كانوا يقولون إنهم كانوا فقط يريدون التوغل في المحيط إلى أن وصلوا عندنا، لكننا لم نكن نصدق أكاذيبهم وأباطيلهم، حتى أن الرجال الذين نزلوا من السفينة تعرضوا للقتل بالبنادق. لقد كانوا يريدون استعمار أرضنا.
«ضرني راسي».. كلما تذكرت تلك الأكاذيب التي يقولونها يصيبني صداع حاد. لقد جاؤوا الآن إلى الدار البيضاء ليقوموا ببناء خط حديدي لآلة مسكونة بالشر. من سمح لهم ببنائها على كل حال؟ إنهم يعلمون أننا لا نريدها على أرضنا. عندما ينهونها سوف يأتون بجنودهم لحمايتها، وسيقولون إنهم يستكشفون أرضنا فقط.
لقد كنت في الدار البيضاء وقتلت نصرانيا بخنجري. لم يكن هناك أحد ليمنعنا لذلك أخذنا في قتلهم. الأجانب يغلقون أبواب بيوتهم ويحتمون داخلها. لقد كنت في الصويرة أبحث عن القنصل الإنجليزي، السيد «مادن»، لقد رفض أن يجعلني واحدا من المحميين، لذلك كنت أبحث عنه لقتله بخنجري، لقد أحكم إغلاق بيته، ولم أستطع الوصول إليه. أقسم بالله أن النصارى كانوا خائفين. لقد كانوا يحتمون ببيت القنصل، ويصعد بعضهم إلى سطحه ليطلقوا النار. لكننا اعتقلنا بعضهم في عقر منازلهم. يا إلهي كم كانت منازلهم جميلة. نحن القرويون لم نر في حياتنا تلك الأشياء الرائعة، وكنا نخاف منها لأنها كانت مسكونة بأرواح شريرة. لذلك كنا نحطم كل ما نراه أمامنا من أمتعتهم».
لقد كانت كمية التخوف من «الهاجس» الفرنسي أو «النصراني» إن صح التعبير، كبيرة وواضحة. الأمر راجع إلى محاولة الزوايا والأضرحة تأجيج غضب المحافظين ضد الشر القادم من وراء البحر، على اعتبار أن سلطة الزاوية كانت مهددة، وهذا ما جعل الزوايا والأضرحة تعيش انتكاسات حقيقية بعد سنة 1912، إلى درجة أن مرتاديها كانوا يتلقون تعليمات، بالإضافة إلى الخرافات والشعوذة، مفادها أن الاستعمار قضاء وقدر يجب تقبله وعدم استنكاره أو مقاومته.
لقد كانوا يعرفون جيدا حجم الخرافة والأساطير التي ارتبطت بتاريخ الزوايا والأضرحة، لذلك تم استغلالها بشكل جيد لتوجيه ضربة استباقية، وهذا ما وقع بالفعل.