عام للتدبر
كان لكل منا مشاريعه التي كان فيها للفيروس رأي آخر.
أعرف شخصا ثريا استثمر كل أمواله وباع ممتلكاته لكي يشيد فندقًا واليوم يعيش كأي فقير معدم.
كما أعرف مقاولًا بسيطًا تحول إلى ثري لأنه استثمر في المواد المطهرة.
البعض كان يخطط للزواج فأجل الفيروس مشروعه وبعد طول تفكير ألغاه من أصله، والبعض الآخر كان متزوجا منذ سنوات طويلة واعتقد أن زواجه كان ناجحا إلى أن جرب العيش ثلاثة أشهر متتالية في البيت خلال الحجر وجها لوجه مع زوجته فاكتشفا أنهما كانا يعيشان في خط نزاع وليس منزلًا وظهرت لهما أشياء لم يكونا يتوقعان رؤيتها في يوم من الأيام من بعضهما البعض فانتهيا في محكمة الأسرة يطلبان الطلاق.
وكثيرا ما نسمع أن الناس يقولون إن عام 2020 هو عام للنسيان، وأنا أعتقد أنه بالعكس عام للتذكر والتدبر والتأمل واستخلاص الدروس.
خلال العقود الأخيرة، وبسبب الانفجار الصناعي وما نتج عنه من تلوث بثاني أكسيد الكربون الذي أوشك على تدمير المجال البيئي برمته، طرح السؤال المعقد الذي يخير اقتصاديات الدول بين الانكماش المفضي إلى نقص الغذاء والمجاعات وبين الاستعمال المفرط للمبيدات ووسائل الإنتاج الملوثة للبيئة.
وهذا السؤال في الحقيقة يبدو عقلانيًا في الواقع إذ يبرر أصحاب ضرورة الرفع من الإنتاج باستعمال الطاقات الملوثة طرحهم بكون البشر يزداد عددهم كل سنة ولا يمكن إطعام جميع الأفواه إلا باعتماد الإنتاج المصنع، واللجوء لاستعمال المبيدات الكيماوية التي تقضي على الحشرات والطفيليات وترفع الإنتاج، كما تبرر اللجوء لاستعمال العلف المصنع لإطعام الحيوانات الداجنة والأسماك والطيور مع كل ما يترتب عن ذلك من أمراض.
خلال سنة 2020 وصلت درجات الاحتباس الحراري نسبة مخيفة أصبح معها مستقبل كوكب الأرض مهددا، فقد كثرت الكوارث الطبيعية والزلازل والأعاصير وسائر المصائب المرتبطة بالتغيرات المناخية التي تسببت فيها مصانع الدول الكبرى ومفاعلاتها النووية وإفرازاتها السامة التي تلقى في المحيطات.
كانت الأرض إذن تتنفس داخل كيس بلاستيكي وتوشك على الاختناق. فإذا بفيروس لا أحد يعرف مصدره يخرج ويسافر عبر الهواء ويطوف حول الكرة الأرضية بسرعة البرق فيدخل مليارات البشر إلى بيوتهم ويقفلوا عليهم أبوابهم متوجسين حذرين من الإصابة به.
خلال الفترة التي توقفت فيها مصانع الدول الملوثة تنفست الأرض الصعداء، فقد كانت بحاجة إلى جرعة أوكسجين نقي لكي تجدد خلاياها ولكي تظهر وتتكاثر كائنات شارفت على الانقراض.
هذا الوباء يخرج أسوأ وأفضل ما في البشر، الأنانيون تطفح أنانيتهم والأسخياء يفيض سخاؤهم، الأشرار يكشفون عن شرورهم والطيبون يشيعون طيبتهم. وفي النهاية فهناك خير في كل شر لا يعلمه سوى الله .
ولعل من حسنات هذا الفيروس أنه ذكر الناس بحقيقة ظلوا يتغافلون عنها وهي أننا كلنا عابرون فوق هذه الأرض وأن هناك نهاية تنتظر كل واحد منا في الموعد المحدد في الألواح المحفوظة.
تعطينا الحياة دروسا عميقة كل يوم، لكن جهلنا وجشعنا وتعلقنا بمظاهر الحياة الفانية يعمينا عن رؤية الأشياء المهمة في هذا الوجود. نعتقد أن المال هو كل شيء فنسعى وراءه، ثم تعمينا الشهرة بأضوائها فننساق وراء بريقها الكاذب، إلى أن نكتشف ذات يوم أن الحياة خدعة، وأن هذه الخدعة انطلت علينا.
هذا الفيروس الذي لا أحد يعرف مصدره يذكرنا أن الحقيقة الوحيدة التي توجد على هذه الأرض هي الموت، رغم أنه لا يقتل سوى نسبة ضئيلة من ضحاياه إلا أن الرعب الذي نشره جعل الناس ينتبهون إلى هذه الحقيقة المغيبة.
والخوف من النهاية أصبح مرض العصر، وهو خوف يعكس درجة الإفلاس الروحي الذي وصل إليه العالم الغارق في الماديات والمظاهر البراقة، وكيف أصبح هذا الإفلاس سببا مباشرا لاغتناء المتاجرين به.
ومثلما هناك تجار الحروب فهناك أيضا تجار الخوف، فهم يغذون الخوف من الفيروسات التي يسجلون براءات اختراعها بأسمائهم لكي يبيعوا احتياطي التلقيح للدول بملايير الدولارات، ويغذون خوف الدول من بعضها البعض لدفعها إلى عقد صفقات السلاح تحسبا للحروب، ويغذون مخاوف الأفراد من مجرد أفكار لكي يحولوهم إلى مواطنين مذعورين خائفين محتاجين إلى بوليصات تأمين، وبالتالي يصبحون أدوات طيعة قابلة لتقبل أشد القوانين حماقة.
وهذه المخاوف هي الأصل التجاري لشركات التأمين التي تتاجر بمادة الخوف وتستثمرها في البنوك وتتعهدها بالرعاية في البورصات العالمية.
وهذا الخوف يعكس قلقا بشريا عميقا وفراغا روحيا حول الإنسان إلى كائن يرفض فكرة النهاية ويحاول بكل الوسائل الفرار منها والتشبث بالحياة مهما كلف الثمن.
وكأن الناس لا يريدون أن يفهموا أن كل واحد منا يحمل معه حكما بالإعدام منذ ولادته، ويبقى قرار تنفيذه مسألة وقت لا غير. ففي النهاية كلنا سينفذ فينا هذا الحكم ذات يوم عندما يحين الموعد المكتوب في ألواح الغيب.
ولو تأمل الناس جيدا في بعضهم البعض لشاهدوهم على هيئة محكومين بالإعدام يلبسون بذلة برتقالية يسيرون في حي طويل للإعدام اسمه الحياة.
لقد كنت دائما مقتنعا بأن أصل مشاكلنا نحن المغاربة، كما هو الحال مع بقية الأمم الأخرى، هو الخوف.
الخوف من فقدان قريب، الخوف من فقدان منصب شغل، الخوف من المرض، الخوف من الموت، الخوف من انتهاء علاقة بالطلاق، أي بالنهاية نحن رهينة لسلسلة لا متناهية من المخاوف والهواجس التي تنتج عنها أمراض نفسية وعضوية لا تعد ولا تحصى.
ولذلك فإن الجميع يرى أن الحل للانتصار على مخاوفه هو إخضاع الآخر، الزوجة تبحث بكل الوسائل لإخضاع الزوج حتى ولو تطلب الأمر اللجوء إلى السحر والشعوذة، الزوج يسعى لإخضاع الزوجة والأبناء حتى ولو تطلب الأمر تعنيفهم، الرئيس يسعى إلى إخضاع موظفيه والموظفون يسعون لإخضاع رؤسائهم.
وهكذا فالعلاقة الوحيدة التي نسعى لبنائها مع الآخر هي إخضاعه والتحكم فيه لتفادي مواجهة التصالح والتعايش معه وقبوله كما هو.
والحل الوحيد للتخلص من هذه المخاوف والانتصار عليها هو مواجهتها، وأكبر وأهم مواجهة يمكن أن يعيشها الإنسان هي مواجهة النهاية والموت بالتدرب عليه والاستعداد له.
اذهب إلى أول صيدلية في حيك واسأل صاحبها عن الدواء الذي يطلبه المغاربة بكثرة، سيقول لك إن الجميع يطلب أدوية للجهاز الهضمي والعصبي والمهدئات. والسبب هو أن المغاربة، في غالبيتهم العظمى، يعانون من القلق والخوف. القلق من المجهول والخوف من الفقر والمرض والموت.
وهذا ما يتسبب لأغلبنا في أمراض نفسية وعضوية تبدأ بالهواجس والأمراض المتخيلة وتنتهي بالضغط المؤدي إلى أمراض القلب والشرايين وقصور الكلى واختلال وظائف الجسد بأكمله. فالقلق والخوف المرضيان هما سبب أغلب الأمراض التي يعاني منها المغاربة اليوم. وعلاج هذين المرضين لا يمكن أن يتم سوى بمواجهة رأس هذه المخاوف، وهو الخوف من الموت.
هناك مغاربة أصبحوا يخشون النوم مخافة أن يموتوا وهم نيام، ولذلك يصابون بالأرق المزمن الذي يقرب المسافة بينهم وبين الموت الحقيقي كل يوم. وآخرون يصيخون كل ليلة السمع لخفقان قلوبهم ويعدون، لساعات طويلة، نبضهم باحثين عن اختلال وهمي في ضربات القلب. وعندما سنتخلص من هذين الهاجسين، يمكن أن نبني مجتمعا واثقا من نفسه، يعرف أفراده هدف وجودهم على هذه الأرض ويستعدون لما ينتظرهم في العالم الآخر عندما تحين ساعة الرحيل.
إن استحضار الموت والنهاية يجعل الإنسان يشعر بالقيمة الحقيقية للحياة، يستمتع بها ويستغلها لفعل الخير لنفسه وللمحيطين به، ينشغل بترك أثر طيب يدل عليه، يفكر في تسوية ديونه، في إصلاح أخطائه قبل فوات الأوان.
لذلك، فاستحضار الموت في حياتنا اليومية ليس حالة مخيفة أو محزنة دائما، بل يمكن أن يكون حالة إيجابية تعطي شحنة إضافية للإقبال على الحياة بنهم أكبر.
ولو استحضر المغاربة، بفقرائهم وطبقاتهم الوسطى والغنية، بحاكميهم ومحكوميهم، معاني استحضار الموت والتخلص من الخوف المرافق له،لارتفعت وتيرة الإقبال الجدي والإيجابي على الحياة، ولتناقصت وتيرة الانتحار الجماعي غير المعلن الذي نعيشه يوميا.
فالإسلام الحقيقي يدعوك أيضا لأن تحيا في سبيل الله.
فتعامل مع هذا الفيروس كأنك ستعيش معه أبدا ولتحذره كأنك ستموت بسببه غدا.