سنة ملكية
تحل غدا الذكرى الثالثة والعشرون لاعتلاء الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية، وهي مناسبة غالبا ما يتم استحضارها للحديث عن بعض إنجازات هذه الشخصية الكاريزماتية ذات الحس الإنساني خلال سنة الحكم. وبدون شك فإن هاته الذكرى الغالية على نفوس المغاربة تأتي في ظروف خاصة وتقلبات جيواستراتيجية ومناخية استثنائية إن على المستوى الوطني أو الدولي، وهو ما يفرض الرجوع للقرارات الملكية الحاسمة التي كانت تبعث على التفاؤل والثقة في المستقبل وتحول الأزمة إلى فرصة، بفضل ما يرمز إليه الملك من ضمانات دستورية ودينية وتاريخية. فكل ما أعلنه الملك من توجيهات وتعليمات، منذ عيد العرش الماضي وإلى اليوم، كان يشيع الاطمئنان ويبعث على التفاؤل بحتمية الخروج من الأزمة والإقلاع الصحيح لبلادنا نحو آفاق التقدم والبناء الديمقراطي والتنمية الشاملة للبلاد رغم حالة اللايقين التي يعيشها العالم.
إن القرارات المفصلية التي اتخذها الملك محمد السادس من أجل الحفاظ على هيبة الدولة المغربية وإسعاد شعبه والتخفيف من ضنك العيش لا تحتاج إلى دليل، ويمكن التمييز في هذا الصدد بين القرارات الكبرى التي اتخذها الملك على المستويين الخارجي والداخلية.
على المستوى الخارجي، تميزت سنة العرش التي نودعها بانتصارات ديبلوماسية كبيرة جعلت المغرب في قلب التحولات الاستراتيجية، وجسدت المنهج الديبلوماسي المبني على الوضوح والصرامة الذي ينهجه الملك محمد السادس. لذلك ليس من قبيل الصدفة أن تكون أولى ثمار هذا المنهج تغيير دول عظمى لمواقفها الديبلوماسية تجاه قضية وحدتنا الترابية بعد سنوات من المعاندة والتعالي. وهكذا أذابت رسالة الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاين، الموجهة إلى الملك محمد السادس كل جبل الجليد الديبلوماسي بين ألمانيا والمغرب، بعدما اعتبرت الرسالة أن مقترح الحكم الذاتي الذي يتشبث به المغرب كحل لملف إقليم الصحراء المغربية هو أساس جيد للتوصل إلى اتفاق حول هذا النزاع الاقليمي. وفي السنة نفسها وقعت انعراجة ديبلوماسية غير مسبوقة في الموقف الرسمي الإسباني بإعلان رئيس حكومة مدريد علنيا وبكل صراحة عن تأييد مبادرة المغرب للحكم الذاتي وجعلها الأساس الوحيد الأكثر جدية وموضوعية لحل نزاع الصحراء المغربية.
قبل ذلك انتزعت الديبلوماسية الملكية، في شهر أكتوبر الماضي، قرارا مرجعيا من مجلس الأمن صاغته الولايات المتحدة يدعو إلى ضرورة التوصل إلى حل سياسي واقعي ودائم ومقبول للنزاع على قاعدة الحكم الذاتي، حاثا الجزائر على الجلوس إلى طاولة المفاوضات باعتبارها طرفا مباشرا في النزاع المفتعل دون شروط مسبقة وبحسن نية، وهو الموقف الذي أكده الرئيس الأمريكي، جو بايدن، الذي أعلن، على الموقع الرسمي للبيت الأبيض، أن النزاع حول الصحراء المغربية هو في الحقيقة بين المغرب والجزائر وليس البوليساريو.
وبلا شك، فإن الديبلوماسية الملكية ساهمت في تثبيت الموقف الأمريكي من الصحراء المغربية وضمان استمرار فتح الكثير من الدول لقنصلياتها بالأقاليم الجنوبية، ونظرا لمكانة الملك بين الأشقاء العرب، حافظت قضية وحدتنا الترابية على إجماع عربي لا يترك مجالا للشك.
ومما لا شك فيه أن اهتمامات الملك محمد السادس بالمجال الديبلوماسي لم تبعده لحظة عن توجيه الحكومة والبرلمان، لا سيما في المجال الاجتماعي الذي يحتل مكانة مركزية في أجندة الملك منذ اعتلائه العرش، وهي مكانة لا تمت بالصلة فقط للإطار الدستوري، بل هي مكانة نابعة في المتخيل المجتمعي باعتبار الملك يرمز إلى الذين لا صوت لهم، من المهمشين والمحرومين والفقراء، وفي هذا الصدد جاء التدخل الملكي في إطار العناية الملكية الخاصة التي يوليها لساكنة العالم القروي، ولكل مكونات القطاع الفلاحي، لتخصيص 10 ملايين درهم للتخفيف من آثار تأخر التساقطات المطرية، والحد من تأثير ذلك على النشاط الفلاحي، وتقديم المساعدة للفلاحين ومربي الماشية المعنيين.
ومن هذا المنطلق أعطى الملك، خلال شهر أكتوبر الماضي، تعليماته بخصوص مجموعة من المخططات المرتبطة بالأمن الغذائي والمائي والسيادة الطاقية، مطالبا الحكومة بإحداث منظومة وطنية متكاملة، في المجال الطاقي، والعمل على التحيين المستمر للحاجيات الوطنية، بما يعزز الأمن الاستراتيجي للبلاد.
وضمانا للأمن الصحي، وفي عز الجائحة، أبى جلالته إلا أن تنخرط المملكة في صناعة احتياجاتها من اللقاحات والأدوية، من أجل تعزيز الوقاية والسلامة الصحية بمفهومها الشامل، وكلنا يستحضر إعطاء جلالة الملك، في يناير الماضي، انطلاق أشغال إنجاز مصنع ببنسليمان لإنتاج اللقاح المضاد لكوفيد 19 ولقاحات أخرى، وهو ما يمكنه أن يوفر احتياجات المملكة من اللقاح واحتياجات الدول الإفريقية.
من الصعب في هذا المقام سرد كل ما أنجزه الملك محمد السادس خلال سنة من الحكم، لكن يمكن أن نجمل القول في أننا كنا أمام ملك يحصي كل صغيرة وكبيرة، ويختار بعناية فائقة متى يتدخل وكيف يتدخل وأين يتدخل لتبقى للدولة هيبتها وللمواطن كرامته وللمؤسسات مكانتها.