سلطان العلم والمعرفة والموروث الثقافي
مرتديا بذلة عصرية أنيقة، دلف الزعيم علال الفاسي إلى مكتبه في مقر حزب الاستقلال. تقدم زوار ومناضلون لتحيته. كان يخاطب كل واحد باسمه، يسأل عن أحواله ورفاقه في الحزب، من أقرب نقطة إلى أقصاها. فذاكرته القوية تحتفظ بالوجوه والأحداث طرية، لا يطولها النسيان أو التقادم.
صعد الدرج واستقر في مكتبه، في انتظار مبعوث من القصر كان حدد له موعدا هذا الصباح. تساءل رفاقه في القيادة عمن يكون هذا المبحوث، وأي مهمة حتمت مقابلته لزعيم الحزب، إذ لم يكن في الأفق ما يشير إلى بدء مشاورات حزبية، أو تشكيل حكومة، أو البحث في ملفات طارئة، علاقات الحزب على وئام مع القصر، وكل المنتديات مهتمة بالبحث عن أفضل الطرق الممكنة لبناء استقلال البلاد، الخارجة من تحت عباءة السيطرة الاستعمارية، يحذوها الحماس في إضفاء معنى على مفهوم «الخروج من الجهاد الأصغر والدخول في الجهاد الأكبر».
أدرك مناصرو علال الفاسي، ممن كانوا يرقبون تحركات ذلك الصباح، أن ارتداءه لباسا عصريا يوحي بأن المقابلة ليست عادية، فقد عرف عن الزعيم أنه يختار لباسه وفق تقاليد المناسبات. يكسوه الجلباب عندما يكون بصدد إلقاء درس ديني في كلية الشريعة، ويضع على رأسه قلنسوة عندما يخطب في الحشود الشعبية، ويرتدي اللباس العصري على درجة الاستدلال بانفتاح الفكر والسلوك، لا تفارقه نظرة حادة وهادئة من وراء زرقة عينيه. غير أنه سيقرن الزرقة بلباس صحراوي يوم ارتدى عباءة أهل الجنوب للدلالة على أن كل المغاربة صحراويون.
من غيره عكف على التنقيب عن الحقائق القانونية والتاريخية والشواهد والأدلة التي كانت تزخر بها كتاباته وأبحاثه في «صحراؤنا» التي أصدرها منذ مطلع الاستقلال، يوم لم يكن أي طرف سوى المغرب يواجه الاستعمار الإسباني في المحافل الدولية. وما أحوج الذاكرة لاستلهام مضامين كتابات وأفكار سابقة لوقتها. غير أنه هذا الصباح ترك الجلباب والقلنسوة وأسدل لباسا عصريا على جسده. وفهم مقربون إليه أن للإشارة دلالات لا تخفى.
في الموعد المحدد توقفت سيارة سوداء في فناء مقر الحزب. ترجل منها رجل في مقتبل العمر، غزت شعيرات بيضاء مفرق رأسه، دله سائق خاص على موقع مكتب الزعيم الذي يبدو كأنه يعرفه. تصافح الرجلان كما لو كانا يعرفان بعضهما من قبل، وأغلق باب المكتب تاركا علامات استفهام كبيرة: هل الرجل فعلا هو مبعوث القصر؟ ولماذا وقع الاختيار على شخصية أجنبية يرجح أن تكون فرنسية لمحاورة علال الفاسي في قضية، الأرجح أن تكون مغربية صرفة؟
ارتفع منسوب التساؤلات، ثمة من توقع أن الفرنسيين خاطبوا الرباط في شأن قضية مستعجلة، وأن القصر أراد إبلاغ الرسالة إلى الزعامات الحزبية من دون وساطة. البعض الآخر اعتقد أن المباحثات ربما انصرفت إلى قضايا عالقة في ملف المسألة المغربية ـ الفرنسية بعد أن شرعت سلطات باريس في إجلاء موظفيها الذين كانوا منتشرين في الإدارة المغربية. وهناك من تريث إلى حين انقشاع سحب الأسئلة الملبدة بالغيوم والفضول أيضا.
بعد انتهاء المباحثات التي استغرقت وقتا أكثر من المتوقع، رافق علال الفاسي زائره إلى السيارة السوداء التي كانت في انتظاره، وتمنى له زيارة ناجحة على إيقاع المودة والتفاهم. ثم عاد الزعيم إلى مكتبه لمراجعة أجندة يومه التي تشمل لقاءات حزبية وانشغالات متعددة الأطراف. لم يجرأ أحد على مفاتحة علال الفاسي في موضوع موفد القصر، تقديرا إلى أنه سيتخذ المبادرة لبسط محورها أمام رفاقه في قيادة الحزب عند أول اجتماع. وقد يدعو لالتئامه على وجه السرعة في حال كان الموقف يتطلب ردا استعجاليا.
لم يحدث شيء من هذا القبيل، فقد احتفظ علال الفاسي بأسرار أمانة المجلس الذي ضمه ومبعوث القصر. وبعد أقل من ثلاثة أيام جاء من يخبره بأن نفس الموفد اجتمع على التوالي بكل من رئيس المجلس الاستشاري المهدي بن بركة، ووزير المال والاقتصاد الوطني، نائب رئيس الحكومة عبد الرحيم بوعبيد. فعقب بأنه كان يعرف ذلك وأن الشخصية الفرنسية التي التقاها بمقر الحزب أخبرته عن سلسلة لقاءات مماثلة. وقال إن المسألة عادية لا تتطلب كبير عناء لفك ألغازها، وكل ما في الأمر أنه استمع إلى اقتراح ورد عليه إيجابا.
أي مقترح هذا الذي قابله زعيم حزب الاستقلال بالتفهم والترحاب من دون أن يشرك أعضاء القيادة في مناقشة تفاصيله؟ خصوصا وأن موفد القصر ذهب أبعد في استكناه مواقف زعامات حزبية. كان المفتش العام للحزب الراحل بن شقرون لا ينفك يمزج بين الفكاهة والجدية عندما يطلب إليه رأيه. وحين سئل عن موضوع المقابلة قال إنها لا تخرج عن نطاق «الشطيح والرديح». لكنه أبدى تحفظه على أي تأويل أو استنتاج خاطئ لكلامه، مذكرا بأن الترويح عن النفس سياسة كذلك.
مجمل الحكاية أن ذلك الموفد كان عهد إليه بتنظيم الطبعة الأولى لمهرجان فني يشمل الفرق الفولكلورية، عبر تظاهرة ثقافية، يكون هدفها التعريف بما يزخر به الموروث الثقافي المغربي من تنوع وقيم وتقاليد. ومن أجل أن تحظى التظاهرة بدعم سياسي وديني، كي لا يتم الانحراف عن مقاصدها، طلب إليه امتزاج رأي العلماء والزعامات السياسية. فالظاهرة جديدة من حيث التنظيم.
ومرة أخرى سينبري السياسي والعالم علال الفاسي لإبلاغ رسالة من نوع آخر، يوم حطت أبولو 8 على سطح القمر. بعض الناس اعتبروا الأمر دعاية أمريكية، ومنهم من رأى في الحدث مساسا بمشاعر المسلمين، وكانت محاضرته التي تحدث فيها عن النفاذ إلى كواكب الكون بسلطان العلم والمعرفة لا بالخرافات والأساطير.