ساعات في جحيم لوبومباشي
حسن البصري
قيل إن السفر قطعة عذاب، لكن الرحلة إلى عمق الكونغو الديمقراطية، وتحديدا إلى مدينة لوبومباشي، هي العذاب كله. قدر لي أن أرافق بعثة الرجاء إلى هذه المدينة قبل سبع عشرة سنة بالتمام والكمال، لأعيش ثلاثة أيام استثنائية في حياتي المهنية.
حين وصلت طائرة الخطوط الملكية المغربية إلى مطار كينشاسا إن دجيلي، تحول مدرب الرجاء البلجيكي والتر ماوس إلى مرشد سياحي، كان يعرف دروب المطار وكأنه ابن الحارس أو هكذا وصفه رئيس البعثة المغربية الراحل رشيد البوصيري.
كان اللاعبون يعلمون علم اليقين أن رحلة داخلية صوب مدينة لوبومباشي تنتظرهم قبل مواجهة فريق الغربان مازيمبي، وكان المدرب يحاول أن ينثر قفشاته لتلطيف الأجواء، بعد أن تمددت أجسادنا على الكراسي الحديدية في انتظار إقلاع جديد.
حمل رئيس الوفد خبرا غير سار، قال إن ربابنة الخطوط الكونغولية دخلوا إضرابا، وأن على الرجاء السفر برا إلى مدينة لوبومباشي في رحلة قد تستغرق سبع ساعات على أقل تقدير، لكن مكالمة هاتفية سرعان ما بددت قلق بعثة الفريق المغربي وحملت تباشير انفراج. قال البوصيري إن السلطات الكونغولية استعانت بطياري قواتها المسلحة لتدبير الإضراب، وأن طائرة مدنية يقودها طيار كونغولي ستحمل في جوفها المسافرين المتوجهين إلى لوبومباشي لكن بعد تأخير لا يتجاوز أربع ساعات. قال اللاعبون آمين ثم عادوا إلى كراسيهم ليتخلصوا من عناء الانتظار.
كانت ملامح إضراب الربابنة بادية على المطار، ارتباك وصراخ وشجار وأعناق المسافرين وقد اشرأبت للوحة مواعد إقلاع يغيب عنها الصدق، لكن الزحام يلفها رغم أن موظفي المطار يوصون بعدم تصديقها، حتى الصوت النسوي الذي عادة ما يحمل تباشير وصول الطائرات والتحضير للإركاب غاب وكأنه مضرب عن الكلام.
بعد خمس ساعات من الانتظار الرهيب، حلت الطائرة الصغيرة التي حملت بالكاد بعثة الرجاء وطاقم التحكيم الكاميروني، ابتلعت في أقل من ساعة الركاب وحلقت دون سابق إشعار، وما أن اخترقت المجال الجوي حتى تبين أن الربان العسكري لا فرق لديه بين قيادة طائرة مقاتلة وقيادة ناقلة مدنية، حيث كان يصعد تارة وينزل تارة ما أثار الرعب في جوف الطائرة، وتعالت الاحتجاجات متوعدة الربان متهمة مساعديه بالتواطؤ مع مازيمبي، خصم الرجاء.
لم يعر الربان اهتماما لاحتجاج اللاعبين، وظل حريصا على تحريك الأمعاء الراكدة للمسافرين، بل ظل يقود الطائرة وكأنه منهمك في لعبة «بلايستايشن»، بينما كان الإقبال على دورة المياه كبيرا، أما الراسخون في التقوى فلجؤوا لمصاحفهم يتلون ما تيسر من آيات بينات، وحده المدرب البلجيكي اختار مواجهة الكارثة باحتساء «بيرا» ألمانية الصنع حتى يظل خارج التغطية.
بعد فيلم الرعب الذي دام ساعة وخمس دقائق، هبطت الطائرة تدريجيا في مطار وسط مدينة القصدير، التقط الركاب أنفاسهم، بينما صاح المدرب المخمور: «هذا هو الشوط الأول من مباراتنا.. القادم أفظع». تبين أن والتر ماوس يعي ما يقول رغم أن عقارب دماغه اختلت بسبب مفعول النبيذ.
حين خرج المسافرون من الطائرة، وجدوا موكبا احتفاليا في مدرج المطار، اعتقد الجميع أن مسؤولي فريق مازيمبي حضروا للترحيب بضيوفهم المغاربة، ولكن تبين أن الأمر يتعلق باستقبال خاص للربان، فقد نثرت عليه سيدة مادة بيضاء كمسحوق تنظيف ورددت كلمات غير مفهومة، وحين استطلعنا سر الاحتفال بربان متهور، قيل لنا إنه يقود أول رحلة جوية رسمية. اعتقدت أن حكم المباراة الذي كان أول النازلين سيشهر في وجهه بطاقة حمراء لكنه لم يفعل.
انتفض رئيس بعثة الرجاء رشيد البوصيري، وقال لمسؤول بالمطار، «كيف تضعون فريق الرجاء تحت رحمة ربان متمرن؟»، وأقسم على أن تكون رحلة الإياب برا «حتى ولو تربصت بنا الضباع».
في الملعب ظهر الربان فجأة في ممر المستودعات، فقال رشيد: «هذا ليس قائد طائرة إنه سائق حافلة الفريق».