ساعات القدر في تاريخ البشرية
بقلم: خالص جلبي
لماذا اندلعت الحروب، ونشبت النزاعات الدموية، وانفجرت الحروب الأهلية ولا تزال؟ بل لماذا تحدث النزاعات المسلحة أصلا، ليس فقط بين الدول بل حتى على مستوى الأفراد؟ حقا إنه سر عجيب، ولغز غامض، يستحق التنقيب عن منابعه، والكشف عن جذوره، لأنه أفظع من وباء الكوليرا والحمى الصفراء والجذام والجمرة الخبيثة والفيروسات القاتلة مجتمعة! فالحرب أودت بحياة زهرة شباب المجتمع وما زالت! ومن الغريب أنها لا تعتبر حتى الآن مرضا رهيبا، وارتكابا لجرائم حمقاء؛ بل (بطولة) خارقة. لقد حان الوقت لوضع هذه الظاهرة الخبيثة تحت عدسة مجهر الدراسة النفسية الاجتماعية، من أجل بناء ثقافة سلمية وتوديع ثقافة (البطولة)، بعد أن أدرك العالم أن طريق القوة مسدود.
في خريف عام 1993 م كنت في زيارة إلى العاصمة الكندية (أوتاوا)، وفي رحلة التعرف على البرلمان الكندي والكومنولث البريطاني والمكتبة الرائعة التابعة للكومنولث والتي تحوي 600 ألف كتاب من ذخائر المعرفة الإنسانية، ثم المجلس الذي تدار فيه مناقشات الأحزاب، وحيث يهيأ وفي مكان مرتفع منه للراغبين من الجمهور حضور هذه المناقشات الساخنة، وفي نهاية الرحلة وقفت السيدة التي كانت تقوم بدور المرشد السياحي أمام لوحة تذكارية لتقول بخشوع: «هذه اللوحة هي ذكرى للخسائر التي مُنيت بها كندا في الحرب العالمية الأولى، حيث اشتركت الوحدات الكندية في ساحات القتال الأوربية، مع مجموعات دول الكومنولث من أستراليا والهند ونيوزيلندا وبالطبع بريطانيا، إذ سيق 600 ألف جندي كندي يمثلون زهرة شباب المجتمع الكندي و(عُشر) (1 /10) مجموع الأمة الكندية في ذلك الوقت، وقتل منهم أيضا العُشر (قُتل 60 ألفا!)».
وقفت أتأمل اللوحة التذكارية والشعر الحزين المسطر عليها، تساعدني ابنتي التي تدرس في جامعة (مك جيل) في فك معاني بعض الكلمات، ذلك أن الأسطر كتبت بلغة فخمة: عندما ترسل الشمس أشعتها الدافئة، وتمتلئ حقول الربيع بورود الزنبق والياسمين، وتشعرُ بالسلام يظلل الوطن الذي تعيش فيه، فلا تنسى البؤساء في حشرجة الموت، تنزف جراحاتهم في ساحات القتال!
تمنيت أن تُختم الأبيات بالاستفادة من هذا الدرس المريع كي لا يتكرر الخطأ، بكل أسف خُتمت الأبيات بــ(ثقافة البطولة) مرة أخرى: لا تنسى دماء القتلى وآهات الجرحى وعذاب المشوهين من أجل الثأر لهم والانتقام لتضحيتهم! ولم يختموها كفى بالحرب واعظا!
قلت لمرشدتنا الكندية: «إنني جدا متألم لما ذكرت، وأرجو أن لا تتكرر هذه المأساة بتقديم المزيد من القرابين البشرية على مذبح الحروب البئيسة»، فهزت رأسها متأثرة بالإيجاب.
في الصيف اللاهب من عام 1914 م في يوم 28 يونيو، اختبأ شاب (صربي) عمره 19 عاما فقط، في أحد أزقة مدينة (سراييفو) هو (جافريلو برنسيب GAVRILO PRINCIP) وبيده مسدس محشو بما يكفي من الطلقات، قد أكل الحقد قلبه، يصر على أسنانه، ويشد من قبضته على الغدارة التي في يده، وهو ينتظر قدوم ضيوف هامين إلى مدينته لتصفية الحساب معهم!
في هذه الأثناء كان ولي عهد إمبراطورية (النمسا وهنغاريا) الأرشيدوق (فرانتس فيرديناند FRANTZ FERDINAND) يركب عربةً مكشوفة، وقد اصطحب زوجته الكونتيسة (صوفي شوتيك SOPHIE CHOTEK) التي محضها حبه وإخلاصه، يحاول أن يُدخل على قلبها شيئا من البهجة بمناسبة مرور 14 عاما على زواجهما، فهي من عائلة عادية، وهو من عائلة الدم الملكي (آل هابسبورغ) العريقة، فلا يُسمح لها بالظهور في الاحتفالات النمساوية العريقة في البلاط الملكي، وكان من سوء الطالع (لا ندري) أن الحب جمع بينهما ليتزوجا في 28 يونيو من عام 1900 م، وليفارقا الحياة في هذه المناسبة نفسها بعد أربعة عشر عاما! فأرادَ أن يمضي معها وقتا للاستجمام والراحة بعيدا عن فيينا، في هدوء مدينة (سراييفو)، عاصمة البوسنة التي كانت قد ضمت إلى الإمبراطورية النمساوية عام 1908 م.
أثناء اختراق الشارع الرئيسي في مدينة (سراييفو) تنقل لنا أسرار التاريخ أن منظمة سرية صربية إرهابية، تدعى منظمة (الكف الأسود) كانت على موعد مع القدر في تلك الأيام، فقد جند رئيس تلك الجمعية وكان رجلا غامضا اسمه (آبيس APIS)، مجموعة من الشباب المتحمسين لاغتيال الضيف المهم القادم للاستجمام في المدينة مع زوجته!
كانت مجموعة الاغتيال الرئيسية مكونة من ثلاثة أشخاص، وهي غير صاحبنا (جافريلو) الذي كان يتربص في مكان آخر، فأما الأول فأشفق من قتل الكونتيسة فتراجع، وأما الثاني فمد يده إلى المسدس، إلا أنه ارتجف وخانته شجاعته، وأما الثالث فتحامل على نفسه وطوح بالقنبلة اليدوية بعد مرور الموكب فأخطأت هدفها. وبذلك نجا ولي العهد النمساوي وقرينته المحبوبة، وتنفس التاريخ الصعداء! ولكن هذه الاستراحة التاريخية لم تدم أكثر من ساعة، فالحريق الشيطاني الذي سيغلف الكرة الأرضية ما زال على موعد مع رصاصات (جافريلو برنسيب)، الذي لم يدرك ماذا فعل، وما هي النتائج المروعة والرهيبة التي ستتلو هذه الرصاصات الغادرة، وطوفان الدماء الذي سيغرق جنبات المعمورة.