رواد الفلسفة من حقل الطب
يعتبر رودولف فيرشوف (1821 – 1902) من مؤسسي الطب الحديث. عاش بين الهياكل العظمية والدم ودراسة الخلايا كل حياته، وما زال مصطلحه (ثلاثي فيرشوف) في آلية تخثر الدم في العروق حتى اليوم ساري المفعول، وهو مرض خطير وأحيانا قاتل؛ بسبب تسرب الجلطة إلى دوران الرئة، وسد الشريان المغذي لها، أو احتشاء القلب بانسداد العروق المغذية للعضلة القلبية، أو غانغرين الأطراف بفقر التروية الدموية الحاد.
واليوم يكتب الكثيرون محذرين راكبي الدرجة السياحية في رحلات الطيران الطويلة من هذا المرض القاتل، والذي تجب معالجته بالحركة وتمسيد العضلات كل ساعتين مع تناول حبة أسبرين تنفع في تمييع الدم.
وأذكر أنني كنت يوما في زيارة لمدينة فورتسبورغ (wuerzburg) مع زميل ألماني فمررت على معهده الذي ما زال يحمل اسمه. والرجل اشتغل هناك لمدة سبع سنوات (1849 ـ 1856) على الخلايا ووصل إلى نتائج ذات بال؛ فالخلية لا تنتج من فراغ أو عدم، بل من خلية مثلها، والحياة تتولد من الحياة، والخلية هي (وحدة) الحياة الأولى، كما كانت الذرة وحدة البناء المادي الأولية.
وكل الحياة في الخلية، والحياة تتظاهر بمجموعة من الصفات أهمها التكاثر، وإعادة إنتاج نفسها، أما المادة فتمتاز بالقصور الذاتي، فلو وضعت قطعة حديد في مكانها لم تتغير أبد الدهر، وما ولدت حديدا، خلافا للخلايا.
والإنسان يبدأ من خلية، من سلالة من ماء مهين، والخلية في الجسم مثل الفرد في المجتمع، وما الجسم إلا إمبراطورية هائلة من الخلايا تضم سبعين مليون مليون خلية.
وكل نسيج يتفاهم بين بعضه البعض، بلغة كيماوية خاصة به، مثل الكبد أو الكلية؛ فيأخذ كل عضو وظيفته الخاصة به. ولغة التفاهم بين خلايا الدماغ تتألف من أربعين مادة كيماوية، وهي في ازدياد، وهي تزيد عن حروف أي لغة.
كلام (فيرشوف) يذكر بكلام الفيلسوف (هربرت سبنسر) الذي تكلم بشكل معكوس؛ فحاول نقل البيولوجيا إلى علم الاجتماع. وأنا شخصيا يتملكني هذا الشعور؛ فأنا طبيب، واختصصت أربع مرات؛ أولا في الطب، وثانيا في الجراحة، وثالثا في جراحة الأوعية الدموية، وأخيرا في ربط الفلسفة بالطب، وعلم البدن بعلم الفكر. ووضعت أكثر من كتاب في هذا الصدد، مثل الطب محراب للإيمان، والإيدز طاعون العصر، والعصر الجديد للطب، وحوار الطب والفلسفة. وحاولت في كل هذا الكتب أن لا أكتبها للعامة أو المتخصصين، بل أولئك الشغوفين بالمعرفة على شكل موسوعي.
عندما أرسل الطبيب (فيرشوف) لدراسة مرض التيفوس في منطقة، خرج بكتاب يقول إن الأمراض أصلها اجتماعي، وليس من مرض يضرب بدون سبب اجتماعي، وإذا أردنا معالجة الأمراض فيجب أن نعالج المشاكل الاجتماعية.
وعليه فإن الفقر المزري، والشروط الحضارية المتخلفة، هي المسببة للأمراض، وبذلك يكون العلاج الناجع ليس بعلاج المرض منفردا؛ بل بعلاج المسببات الاجتماعية له. وفكر طبي من هذا النوع ثوري.
ونحن اليوم نعرف أن المرض ليس وحدة ثابتة مثل علب الكولا. وليس هناك من مرض بل مريض. وكل مريض يرتكس للمرض بشكل مختلف، وينطبق هذا على الأمراض الاجتماعية.
وفيرشوف كان كذلك فدعا إلى الثورة الاجتماعية حتى الحافة الحدية منها. ولم يكتف بكتابة العديد من المقالات، بل قام مع أصحاب له بتشكيل الحزب التقدمي الألماني. وفي النهاية انتخب عن دائرته، ثم في المجلس النيابي الألماني أيام المستشار الألماني الحديدي بيسمارك المشهور.
والربط بين الطب الاجتماعي وطب الأبدان، يحتاج إلى رؤية فلسفية، تقفز من صالات التشريح والفيزيولوجيا إلى عالم الفكر، وفيرشوف فعل هذا، فكان في مهنته متميزا مبدعا، كرس نفسه بدون كلل وملل، وعاش إلى ما فوق الثمانين، وهو ناشط سياسي وطبيب عبقري مميز، لا يكف عن كشف الجديد في أوقيانوس الطب.
ويبدو أن الأطباء لهم تميز خاص، مثل مهاتير محمد مهندس ماليزيا، أو السهروردي الفيلسوف الذي قتل بفتوى من الفقهاء أيام صلاح الدين الأيوبي.
وكتب (ابن أبي أصيبعة) كتابا كاملاً عنهم بعنوان (عيون الأنباء في طبقات الأطباء)، وهو كتاب مثير من تراثنا جدير بالاطلاع عليه، وخبر مصرع الطبيب السهروردي استقيته منه.
وباللغة الألمانية توجد مجموعات اسمها الكرونيك، ومنها عن الطب، فلا تترك كشفا طبيا أو إنجازا إلا وسجلته، ولكن الكتاب وصلني من ألمانيا ممزقا، لأنه وقع في يد الرقابة، بيد متعصب مهووس رأى قدم امرأة، ولم تكن قدما بل هي غانغرين مكشوف.
ونحن في الطب نكشف على كل الجسم؛ فهذه هي مأساتنا مع المتعصبين، ومن حرق مكتبة الإسكندرية هم المتعصبون.