دولة الخلافة على وقع الاغتيالات.. مقتل عثمان بن عفان
ترك النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته نظاما سياسيا بدأت معالمه في التوضح والتميز. وقد كان صلى الله عليه وسلم قيد حياته حريصا جد الحرص على خلق المصالحات القبلية والعشائرية، خدمة للقضية الدينية ألا وهي توحيد صفوف المسلمين على عماد «المحجة البيضاء»، وهي الدعامة الأساس التي كانت آخر ما أغنت خطبة الوداع، وآخر الخطابات النبوية الدينية والسياسية أيضا الموجهة إلى المسلمين من بعده.
وكان نبي الله محمد حريصا وهو يعايش امتداد الدولة الإسلامية ترابيا في مصر والعراق وباقي بقاع آسيا الصغرى، على أن يكون صحبه والخلفاء من بعده حريصين على اتباع منظومة الاستماع والمشورة والنصح والمصالحة بين ما افترقت السبل بهم من المسلمين، كما حرص على أن يكون إدماج أهل الكتاب من اليهود والنصارى إدماجا يحترم قدسية شعائرهم، وبالمقابل لا يتجاوز قدسية الدولة الإسلامية وتوازنها من خلال فرض انضباطهم المدني والمالي والسياسي والعسكري. وقد كان دستور المدينة وكتابها، الذي وضعه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وثيقة سياسية ربما تؤرخ لأول الوثائق وأكثرها أصالة عن تفرقة الشأن الديني مع الشأن المدني، في ما يتعلق بدمج الأجانب اقتصاديا وماليا وعسكريا.
هذا التوجه والنهج النبوي هو الذي طبع المجال السياسي السيادي الإسلامي في ذلك الوقت، وهو التوجه الذي حرص على اتباعه الخلفاء الراشدون، وإن اختلفت مناهجهم وكذا الظروف السياسية لكل فترة من فترات خلافتهم. لكن سمات الصلابة التي طبعت صرح الدولة الإسلامية إبان حياة النبي، قد عرفت بعض التلاشي من بعده، جراء الفتن السياسية التي كانت آنذاك تتربص بالدولة الإسلامية في مركزها بالمدينة وفي شتى أمصارها وولاياتها.
كانت فترة خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، رفيق درب النبي وصهره من رقية وأم كلثوم، وأحد نبلاء مكة، الأطول زمنا بين فترات خلافة الراشدين، لكنها كانت الفترة الأكثر اضطرابا بعد الأربع سنوات الأولى من توليه خلافة المسلمين ببلاد الإسلام. أولى بوادر الاضطراب جاءت من نهجه المالي الصارم، حيث انتهج سياسة جبائية صارمة، جراء مصاريف أوراش الدولة الإسلامية التي كبرت بفعل كبر الرقعة الجغرافية للدولة ومتطلبات هذا التوسع، إن من الناحية العسكرية أو الاقتصادية أو العمرانية. وستكون مصالح اليهود والنبلاء من التجار متضررة من هذه الوضعية الجبائية الجديدة، وهو ما يفسر بوادر الفتنة التي تزعمها أحد التجار اليهود الذين أسلموا، وهو عبد الله بن سبأ.
أول مبررات المعارضة القوية التي تزعمها عبد الله بن سبأ هي أمور المسلمين التي بدأت في التدهور في الكثير من الولايات أولها مصر والكوفة، وثاني مبررات ابن سبأ هي وهن وضعف والي الكوفة سعد بن العاص، الذي عينه عثمان بن عفان فيها، بحيث طالب «ثوار الكوفة» بالإطاحة بواليهم الرسمي وتعيين أبي موسى الأشعري فيها. هذا في ما يتعلق بالإطاحة بالمصداقية السياسية لعثمان بن عفان، حيث اتهمه الثوار بأنه يفضل والي الكوفة على مسلميها لأنه من سلالته المكية (بني أمية). لكن ابن سبأ وأصحابه ذهبوا بعيدا إلى حد ضرب المصداقية الدينية لعثمان بن عفان، بل واتهامه بخيانة النبي أيام حياته، حيث اتهموه بأنه لم يكن من أهل الغزوتين (تغيبه عن واقعتي أحد وبدر) وفر من أهم معارك الإسلام شراسة، وبأنه يأخذ من بيت مال المسلمين ليغدق بالمال على أهله وعشيرته. وبل وذهب عبد الله بن سبأ بعيدا حينما اتهم أول الخلفاء الراشدين بالتستر على «وصية النبي» التي أوصى فيها بعلي بن أبي طالب من دونه. وهو تآمر على مصداقية الخلافة برمتها.
ولكي يمتص عثمان بن عفان غضب الكوفيين، امتثل لمطالبهم بعزل سعد بن العاص وتعيين أبي موسى الأشعري واليا على الكوفة، وهو القرار السياسي الذي فتح باب مطالب سياسية مماثلة من عدة مماليك أخرى. فظنا منه أنه يتجنب الفتنة بالانصياع للمطالب الآتية من الكوفة، فتح عثمان بن عفان على دولته قوسا جديدا من الاحتجاجات السياسية التي كانت تزيد من حدتها «النعرات العشائرية» والدينية لتلك الفترة.
نفس القلاقل عرفتها مصر تحت ولاية ابن أبي سرح، الذي كان، حسب روايات تاريخية عدة، واليا قاسيا جدا مع معارضيه خصوصا من التجار، ولم يكن للمصريين التجار المحتجين حل سوى أن يرسلوا وفدا إلى المدينة يطلبون فيه من عثمان كف عامله عن التسلط على رقاب المسلمين وتجارتهم. وفي رجب من عام 35 هـ، وتحت تعذرهم بمناسك العمرة، سيحج وفد من مصر للقاء عثمان الذي رفض ملاقاتهم وأرسل إليهم جماعة من المهاجرين والأنصار على رأسهم علي بن أبي طالب ومحمد بن مسلمة الأنصاري. وغادر وفد المصريين المدينة عائدين إلى ديارهم، وهم يحملون بشرى موافقة الخليفة على تنحية والي مصر ابن أبي سرح وتولية محمد بن أبي بكر.
الخطأ السياسي، حسب الروايات، الذي ستقع فيه القيادة المركزية للخليفة عثمان بن عفان في تدبيرها لهذا الصراع «الجهوي»، هو مسارعتها ببعث مراسلة رسمية إلى ابن أبي سرح، تطلب منه تصفية الوفد الرسمي المتوجه من المدينة إلى مصر والمكون من الوالي المعين (ابن أبي بكر) وكل من يصاحبه لمصر. هذه الرسالة ستقع في أيادي البعثة الجديدة وهي في طريقها إلى مصر.
تواتر هذه الارتباكات زاد من مطالب المعارضين الذين تحولوا إلى ثوار، فطالبوا بأن يعزل عثمان نفسه وأن يولي كبار صحابة المسلمين خليفة جديد بدلا عنه. فرفض عثمان ذلك، وما كان من الثوار إلا الاعتصام في المدينة حتى تنفذ مطالبهم. وكانوا خلال تلك الفترة متمسكين فقط بمطالب سياسية من دون مضايقة عثمان جسديا، واحتفظوا له بحرمة وواجب الصلاة وراءه لأنه من الصحابة.
بقيت المدينة تعيش وضعية سياسية خاصة، حيث بدأ المعارضون يحجون شيئا فشيئا وبأعداد متكاثرة إلى المدينة، حتى كتب عثمان إلى عماله يدعوهم إلى إرسال مقاتلين حتى ينصروه على الثوار. ولما علم الثوار بأمر هذه المراسلات الرسمية، بدأ الحصار يشتد على الخليفة ومن معه. فقد الخليفة أعصابه وخرج إلى منبر فوق بيت الخلافة يلعن الثوار، وتسبب ذلك في نشوب تشاجر أفضى إلى ضرب عثمان فسقط مغشيا، ورأسه ينزف. تــم تهريبه إلى بيته، فضرب الثوار حصارا عليه ومنعوا الخليفة من الخروج منه، ومنعوا إسعافه أو إطعامه ولا حتى إمداده بالماء.
حاول نبلاء المدينة وسادة قومها التدخل، حيث يروى أنه وبفعل همجية الثورة منع علي من الكلام حتى ضرب بعمامته الأرض وخرت أعصابه من الصياح وهو الرجل الهادئ الحكيم. كما يروى أن أم حبيبة وهي زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم، امتطت جوادها وقدمت إلى باب الخليفة محاولة ثني الثوار، ومساعدة الناس على إسعاف خليفتهم الذي يحتضر، فأسقطها «البلطجية» من أعلى جوادها أرضا (يروى أن مجرمين حكم عليهم بالحد كانوا من أبرز نشطاء هذه الثورة، ومنهم سودان بن حمران وكميل بن زياد وغيرهم). بل وتفاقمت الأمور باقتحام بيت عثمان، جراء قتل أحد زعماء «الثورة» وهو نيار بن عياض الأسلمي، عندما رموه برمح من أعلى بيت الخليفة. ستهاجم أسراب المحتجين بيت الخليفة وسيقتلون كل من كان مرابضا داخله، بما في ذلك الخليفة عثمان بن عفان نفسه.
تقول روايات إن رفات الخليفة عثمان رضي الله عنه لم تدفن في يوم وفاته، وتضاربت وقتئذ آراء دفنه من عدمه، لكن أغلب الروايات وأقواها حجة تقول إنه دفن بعد ثلاثة أيام في «البقيع» (ضاحية المدينة المنورة)، في يوم الجمعة 18 من ذي الحجة سنة 35 هـ.