دودة في تفاحة اليسار
لعل الشيء الوحيد الذي نجحت فيه الحكومة الحالية هو توسيع الهوة بين الوزراء والشعب من جهة وبين الفقراء والأغنياء من جهة أخرى.
فقد أصبحنا نسمع عن وزراء يستغلون مناصبهم لتشغيل أبناء أصدقائهم، كما صنع وزير الاتصال، أو لاقتناء الشوكولا على حساب الوزارة بمناسبة عقيقة أبنائهم، كما فعل وزير التكوين السابق، أو لتمكين شركاتهم من صفقات عمومية، مثلما حدث مع رئيس الحكومة، الذي استفادت مطبعته من صفقات مع وزارة الأسرة والتضامن ووزارة الثقافة، واستفاد ابنه من منحتين للدراسة في الخارج على حساب وزارة التعليم العالي، فيما منح وزير العلاقات مع البرلمان السابق صفقات لشركة أخ عبد الله بوانو، رئيس الفريق النيابي للحزب الحاكم في البرلمان، ووظف الداودي وزير التعليم العالي ابنه في شركة بلادن براتب وزير.
واليوم نسمع أن حكيمة الحيطي، الوزيرة المنتدبة المكلفة بالبيئة، فازت شركتها «سوكلوب» بتجديد بلدية مكناس، التي يرأسها عمدة ينتمي لحزبها الذي زكاه وكيلا للائحته بمكناس، لعقد صفقة النظافة بقيمة 500 مليون.
هكذا أصبح الشعب يرى في الوزراء، أو أغلبهم على الأقل، حفنة من الموظفين الذين يخدمون مصالحهم الخاصة ومصالح المقربين منهم، مما جعل الهوة بينهم وبين الشعب تتسع أكثر مما كانت.
أما الهوة الأخطر التي ساهمت هذه الحكومة في حفرها فهي تلك التي أصبحت توجد بين طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء، فقد نجحت السياسات الحكومية في الرفع من عدد المليارديرات بالمغرب لكي يصبح عددهم 4800 مليونير، في الوقت الذي ارتفع فيه عدد الفقراء والعاطلين عن العمل. وحسب آخر تقرير لصندوق النقد العربي، فالشباب المغاربة يوجدون على رأس الشباب الأكثر عرضة للبطالة في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
وفي كل مرة نتحدث عن ارتفاع معدلات الفقر والبطالة خلال الأربع سنوات، التي قضتها الحكومة في تسيير أمور البلد، يخرج علينا بنكيران لكي يطالبنا بأن نحمد الله على الاستقرار الذي جلبه لنا.
وما يقوله بنكيران حول ادعائه جلب الاستقرار للمغرب وضرورة حمده وشكره على ذلك، حتى ولو قاد البلد إلى الإفلاس، يذكرني بإمام تعطل مكيف المسجد الذي يصلي فيه بالناس، فقام وقال للمصلين «تذكروا حر جهنم»، فقال له أحد المصلين «يا أخي صلح المكيف وذكرنا بنعيم الجنة جزاك الله خيرا».
«واش دابا انت أسي بنكيران فين ما نهضرو ليك على الفقر والبطالة والتضخم والكريدي تجبد لينا الاستقرار؟ صلح الوضعية وهضر لينا شوية على الرخاء والرفاهية والنمو جزاك الله خيرا».
ولعل المفارقة العجيبة التي لا أحد يفهمها هي أن عدد المليارديرات يرتفع في المغرب في الوقت الذي تتراجع فيه العائدات الضريبية. وإلى حدود شهر يونيو الماضي، بلغ دخل المغرب 103.5 مليار درهم، بتراجع يقدر بنسبة 0.1% مقارنة مع نفس الفترة من السنة الماضية.
شرح هذه المفارقة واضح مع ذلك، فالحكومة الجبانة لا قدرة لها على إجبار المليارديرات والأثرياء النافذين الذين يتهربون من دفع الضرائب على الخضوع للقانون وتأدية ما بذمتهم لخزينة الدولة.
وفي الوقت الذي نرى فيه كيف أن 332 ألف فرنسي أدوا الضريبة على الثروة سنة 2014، ربحت من ورائها خزينة الدولة الفرنسية خمسة ملايير أورو، نرى كيف أن خزينة الدولة المغربية ما زالت تعول على الموظفين والأجراء الذين يدفعون لوحدهم 80 بالمائة من إجمالي الضريبة للخزينة، في الوقت الذي يرفض فيه جنرالات ووزراء ورجال أعمال نافذون دفع أزيد من 80 مليارا من الضرائب التي في ذمتهم لفائدة مجلسي مدينتي الدار البيضاء والرباط وحدهما.
الهوة إذن بين الأغنياء والفقراء في المغرب وصلت، مع هذه الحكومة التي تملك الجرأة فقط للهجوم على جيوب الفقراء، درجة خطيرة. وقد أشار الملك في خطاب عيد الشباب الأخير إلى أن التنمية لا تصل مناطق واسعة من المغرب المهمش الذي يعيش أقصى درجات العزلة والفقر.
نحن إذن بحاجة إلى قوى سياسية يسارية جديدة متشربة بمبادئ العدالة الاجتماعية واقتسام الثروات وإنهاء احتكار أقلية جد محدودة للثروة، على حساب أغلبية مسحوقة ومستعبدة في شركات ومصانع وضيعات هؤلاء الإقطاعيين والأثرياء الجدد.
وفي تصوري المتواضع، ففدرالية اليسار، المكونة من ثلاثة أحزاب سياسية هي الاشتراكي الموحد والمؤتمر الوطني الاتحادي والطليعة الديمقراطي الاشتراكي، يمكن أن تكون نواة شبيهة لحزب «بوديموس» الإسباني، الذي أعاد لليسار ألقه وارتباطه بالشعب وتطلعاته نحو عدالة اجتماعية تحفظ كرامته ضد جشع البنوك الرأسمالية.
وما حدث بعد فشل حكومة التناوب برئاسة الفقيد الاتحاد الاشتراكي، ونشوء اليسار الاشتراكي الموحد، يشبه كثيرا ما حدث في فرنسا بعد فشل حكومة الائتلاف الاشتراكي، أو حكومة «غي مولي» التي فقدت ثقة الشعب بسبب موقفها المنحاز للجيش الفرنسي وجرائمه بالجزائر، فخرج ليونيل جوسبان وميشيل روكار وأسسا اليسار الاشتراكي الموحد على أنقاض SFIO.
الشيء نفسه وقع عندنا عندما هادنت حكومة اليوسفي الفساد، بدعوى عدم الرغبة في مطاردة الساحرات، وانصرف وزراء الاتحاد الاشتراكي عن مصالح الشعب الذي انتخبهم للاغتناء الشخصي، ففقد الحزب ثقة الشعب وعاقبه بالتصويت ضد الاتحاد وإحلاله المرتبة الخامسة.
الآن ما يجب أن تفهمه فيدرالية اليسار هو أن نجاح مشروعها رهين بعدم سقوطها في الأخطاء القاتلة نفسها التي وقع فيها الاتحاد الاشتراكي، أي ضرورة قيامها بما كان يسميه بنبركة «الفرز». ولعل أبرز الأخطاء التي وقعت فيها فيدرالية اليسار تتجسد في بعض لوائح الترشيحات للانتخابات الجماعية، ففي حي الرياض أكدال بالرباط مثلا نجد اسم عمر بلافريج وكيل لائحة التحالف، رغم أن هذا الأخير كان يتم انتخابه في أجهزة الشبيبة الاتحادية بتوصية من اليازغي شخصيا وقام بحملة ضد نبيلة منيب وضد قادة التحالف خلال انتخابات 2007 وأكرمته حكومة عباس الفاسي بمنصب مدير «تيكنو بارك»، مثلما أكرمت رفيقه سفيان خيرات بمنصب موظف شبح في البرلمان، وحسن طارق بمنصب برلماني عبر لائحة الريع المسماة لائحة الشباب.
وفي لائحة النساء بحي الرياض أكدال، نجد أن وكيلة لائحة فيدرالية اليسار مهندسة لا تفقه شيئا في العمل الحزبي أو السياسي اسمها هند بنعمرو، ابنة النقيب بنعمرو، الذي لا يجد حرجا في ترشيح ابنته لانتخابات يطعن في شرعيتها بمرافعة طويلة عريضة.
الجميع يعرف في تحالف اليسار أن وضع عمر بلافريج وكيل لائحة في حي الرياض ليس سوى تنصيب لعين موسكو، أي اليازغي الذي ليس سوى زوج عمته، داخل الأجهزة التقريرية للتحالف. وهكذا يحافظ اليازغي على موطئ قدم داخل هذا اليسار الجديد الذي يقوم على أنقاض الاتحاد الاشتراكي، الذي ساهم عبر الزايدي وأتباعه، في قتله، الحزب أقصد، عندما رفض لشكر قبول كوطا «عيون اليازغي» داخل المكتب السياسي للحزب.
اليوم هناك محاولات حثيثة لإدخال دودة اليازغي في قلب تفاحة تحالف اليسار، حتى لا يفقد الثعلب العجوز التحكم في الزر الذي يستطيع به تفجير التحالف من حديقة فيلته، متى شاء، مثلما حدث مع الاتحاد الاشتراكي عبر مسلسل الانشقاقات منذ سنة 1983 بعد خروج بوعبيد من سجن ميسور ونشأة حزب الطليعة. وكان قبلها اليازغي قد طبع علاقته بالسلطة عندما حضر إدريس البصري شخصيا وفي عنفوان تسلطه إلى بيت اليازغي بمناسبة عقيقة ابنه عمر، المدير الكبير حاليا في صندوق الإيداع والتدبير.
وتبقى سنة 1983 سنة المؤامرة الكبرى ضد رفاق الشهداء، الذين تم إلقاؤهم بين فكي السلطة من طرف اليازغي وبوعبيد، عندما اتصلوا بالشرطة لمنع أعضاء هذا التيار الأغلبي من ولوج مقر الحزب المحروس ذات 8 ماي بسلاسل إدريس لشكر وجمال أغماني وفرتات، الذين كانوا يتحركون بتعليمات مباشرة من اليازغي.
ساعتها جاء العامل بنشمسي وطرش بنعمرو، الذي التحق برفاق الشهداء سنة 1977، بعدما كان مستشارا في بلدية الرباط وفشل في الوصول إلى رئاسة المجلس ضد ملين، قبل الحكم عليه بثلاث سنوات سجنا وبسنة على أحمد بنجلون وسنة لليزيد بركة وسنوات أخرى للباقين.
وفي الوقت الذي ذهب فيه هؤلاء إلى السجن، ذهب تيار بوعبيد للمشاركة في انتخابات 1984 وحصلوا على 38 مقعدا في البرلمان مقابل 38 معتقلا في صفوف تيار رفاق الشهداء، فكانت تلك سنة دخول أحمد الريح والحبابي واليازغي والراضي وفتح الله والعلو إلى البرلمان.
الفرق بين ما حدث في فرنسا وما حدث في المغرب مع الحزب الاشتراكي هو أنهم في فرنسا قتلوا حزب SFIO وأسسوا على أنقاضه حركة يسارية تقدمية سنة 1972، أما عندنا في المغرب فقد صوب المغادرون للاتحاد، الطليعة سنة 1983 والمؤتمر الوطني الاتحادي سنة 2001 والوفاء للديمقراطية، الرصاص نحو الحزب الأم لكنهم أصابوه في أماكن غير قاتلة فظل يعيش محتضرا طوال كل هذه السنوات، إلى أن مات ونسي أهله إكرامه بالدفن.
لذلك فنهضة اليسار الحقيقي في المغرب، الطامح لتحقيق العدالة الاجتماعية دون استعمال للدين أو الأيديولوجيا، تبدأ أولا بالمشاركة، عكس المقاطعة التي كان يدعو إليها محمد الساسي في نادي المحامين في 18 أكتوبر 2011 غداة حراك الشارع، ثم ثانيا بعملية «الفرز»، أي الغربلة وتقديم مرشحين مؤهلين للتسيير الجماعي يلتحقون بـ453 مستشارا ينتمون لتحالف اليسار الديمقراطي في كل جماعات المغرب، ليس لأنهم أبناء عائلات اتحادية عريقة، كآل بلافريج وآل بنعمرو، بل لأنهم مناضلون حقيقيون متشبعون بمبادئ اليسار وليس فقط بتنظيرات ضيوف صالوناته الدافئة.