أن يكون الذباب مزعجا وناقلا للمرض فهو شيء متفق عليه، ولكن أن يستخدم سلاحا في يد الأطباء لمقارعة أمراض مستعصية، فهو الأمر الغريب الذي نسمعه الآن، بعد أن طبق بنجاح في ألمانيا وبريطانيا وكندا وأمريكا.
ويجب أن نوضح بسرعة للقارئ أن المعالجة بالذباب وهو بكلمة أدق يرقات الذباب، فهي تأكل بشراهة الأنسجة المتنخرة وتلتهم بشغف البكتيريا وترشف القيح وما حوى، فإذا بالجرح المعند الذي لا يشفى لمدة سنوات قد التأم في عشرة أيام، والرائحة القبيحة قد اختفت، والدودة التي لا يزيد طولها على مليمترين قد تضاعف حجمها خمس مرات، بفعل الأكل الشره من مخلفات الجرح. والذي فعل هذا السحر هي يرقات الذباب الذي تعافه النفس ويلاحقه الناس لإزعاجه، فيقضوا عليه ضربا باليمين بكشاشات الذباب. أي الدود الذي يفقس من بيوضه، قبل أن يتحول إلى ذباب يطير. فلقد عرف عن خاصية هذه الديدان المتحركة أنها تعمل بشكل رائع في التهام الأنسجة المتموتة، وارتشاف القيح وإفراز عصارت هاضمة فيها هورمون نمو وكاسح للبكتيريا بأشد من أغلى صاد حيوي في العالم. وبإمكانها أن تحول الجرح الذي عجزت عن شفائه العقاقير العادية والمطهرات في القرحات السكرية، أو التهاب العظم والنقي المزمن، أن يتحسن في عشرة أيام وتضيق مساحته، ويبدأ قاعه في إنتاج اللحم الأحمر الحي النظيف. هذا إذا كانت تروية الأطراف الدموية عادية، فلا تنفع هذه الطريقة مع الأطراف المتعفنة بقصور التروية الدموية. ومن خلال الدراسة الأكاديمية تبين أن هذه الديدان التي توضع في الجرح تقوم بحذق في حركة ناشطة في الجرح المتقيح، وتفعل أفضل من سكين الجراح، حيث تأكل الأنسجة المتعفنة، أما الخلايا الحية فلا تقربها.
وقد عرضت تجارب الدكتور فيم فلايشمانWim Fleischmann) ، رئيس قسم جراحة الحوادث من مشفى بيتيجهايم Bietigheim في ألمانيا، الذي قام بدراسة استغرقت أكثر من ثلاث سنوات، كانت نسبة الشفاء فيها تزيد على 90 في المائة، وهذه الطريقة من حقن الجروح بهذه الفرقة المدرعة لمقارعة نازلة الجراثيم تقوم على وضع الديدان في الجرح وتغطيته، وترك الديدان تعيش على أكل مخلفات الجرح، فهي تعيش والجرح يبرأ. وهي اليوم تطبق في أكثر من 100 مشفى في ألمانيا و60 عيادة خارجية وما يزيد على 6 مشاف جامعية، وطبقت بنجاح يفوق 90 في المائة لـ3500 مريض. تعتبر القرحات المزمنة مشكلة مستعصية في وجه الجراحين، ويبتكرون طرقا جديدة لحل إشكاليتها، ومما وصل إليه الأطباء يعتبر خاصية مذهلة لعمل ديدان الذباب الذهبيLucilia Sericata) )، ويجب استخراجها من الجرح بعد عدة أيام، وإلا فوجئ الطبيب بخروج سرب كامل يطير من الذباب في وجهه. كذلك طبقت هذه الطريقة منذ منتصف التسعينيات، في أكثر من 400 مركز طبي في بريطانيا بنجاح، خاصة في الجروح المعندة التي تعشعش فيها جراثيم MRSA (Methicillin – resistant -Staphylococcus – aureus) ، المعروفة بمقاومتها لكل صاد حيوي، واليوم تخصصت شركة (بيو موند Biomonde ) فهي تبيع اليرقات. وهذا النوع من العلاجات معروف منذ زمن، حيث كان يطبق العلق لمص الدم من الجلد، كما أن أمراض (كرون) أو (التهاب الكولون) عولجت بطريقة غريبة بإدخال بعض أنواع الديدان إلى الجهاز الهضمي، قديما كذلك كانت الجروح المقيحة تعامل بالديدان بشيء من النجاح.
بقي أن نذكر أمرين، فيجب أن تكون هذه الديدان معقمة وهو ما برعت فيه الشركة، والأمر الأهم يجب أن تكون الديدان من نوع الذباب الذهبي (لوسيليا سيريكاتا)، وإلا حفرت الجرح ودخلت الجسم وفتكت بالأعضاء النبيلة، فلا مزح في التلاعب والخلط بين أنواع الذباب. وبالطبع فقد راسلني الكثير من جماعة الإزعاج العلمي (عفوا الإعجاز العلمي في القرآن والسنة)، أن ثمة حديثا يفيد (وهو صحيح) بأن علينا إذا وقع الذباب في إناء أحدنا أن يغمسه، لأن في جناحه داء وفي الجناح الآخر دواء، فخيل إليهم أننا اكتشفنا منجما للصادات الحيوية، وهذا كذب على الإله ورسوله، ومنه جاء الحديث في الوعيد أن من كذب عليه متعمدا فجزاؤه النار. من هذه الواقعة العلمية نعرف أن في الطبيعة جنود لا يعلمها إلا الله.
ولقد راسلني البعض وأن هناك أبحاثا علمية تفيد بأنهم درسوا الذباب أياما وليالي، ليكتشفوا أن الجناح الأيمن ضار والأيسر شاف، بل ذهب البعض إلى كتابة رسالة كاملة بعنوان «الإصابة في حديث الذبابة». والجنون الديني مثله مثل مرض الوسواس القهري، فهو يسيطر على صاحبه ويظن من حيث لا يعلم أنه يخدم الإسلام والقرآن، والقصة وما فيها أن الذباب كما أشار إلى ذلك الجاحظ في كتابه «الحيوان»، أنه ينقل المرض والقيح ويحط على البراز والمخلفات ويبصق فيها كما يفعل لأجسادنا حين يلحسها، ولكن الجاحظ يشير إلى البعوض الخبيث فهو أخطر الكائنات، ويموت من وراء نقله للمرض ثمانية ملايين إنسان في الأرض، ومن الذباب الله أعلم كم يمرض ويهلك.
ولذا فإن ما أوردناه من كشف أثر يرقات الذباب محصور بنوع محدد ويجب أن يعقم، وليس أن يغطس في الشوربة والطعام بزعمهم، وأن تأثير اليرقات في أيام ومن نوع خاص كما ذكرنا. ويا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب. ما قدروا الله حق قدره.
خالص جلبي