درس في الحلاقة وتسريحة الشعر
لم يستوعب الوزير معنى أن يخبره حلاقه الذي لا تربطه علاقة مباشرة بعالم السياسة، أن حقيبة وزارية جديدة في قطاع غير الذي كان يشغله سترسو عليه في تعديل حكومي وشيك.
كان الحلاق إدريس الذي يعرفه صغار وكبار القوم في الرباط بحذاقته وأناقته وحلاقته، يداعب شعر الوزير بحنان كما يفعل مع كل الزبناء. وقال له: «ألا ترى أن تغيير المنصب الوزاري يحتم تغيير تصفيف الشعر؟». دهش الوزير وأدار وجهه يمنة ويسرة ليتأكد إن كان أحد غيره سمع تلك الكلمات، ثم طلب إلى الحلاق إدريس أن يتمهل في حركات يديه، ويقص عليه المزيد.
ضحك إدريس وقال بلهجة تمزج بين الجدية وبعض الخيال، إنه لا يشابه ذلك الحلاق الذي ضرب على رأس زبونه، عندما كان يحدثه عن معارك في الحرب العالمية الثانية، مضيفا أنه يتوفر على معلومات حقيقية بشأن المنصب الجديد للوزير الذي كان استسلم برأسه وعنقه أمام سلطة الحلاق.. فقط سأله إن كان سيظل مواظبا على زيارته في دكانه الذي احتل مكانا بارزا في الصف الخلفي لفندق شهير بالرباط، ترمقه العين بعد أن يعبق المكان بنسائم القهوة المنعشة في مقهى مجاور.
من لم يحلق عند إدريس الذي كان علامة مسجلة، لا يواكب تقليعة الشعر في تلك الفترة. ومن لم يحجز تذكرة الحلاقة قبل حلول موعدها، لابد أن يفوته الاسترخاء على كرسي إدريس الوثير.. فقد كان يحيل الحلاقة إلى ترويض أشبه باستراحة تُحلق بالزبائن بعيدا.
روى لي إدريس حكايته مع الوزير الذي قال إن عطاءه زاد منذ تلك اللحظة، لأنه اكتشف أنه لا يزور حلاقا، بل رجل علاقات عامة يدخل البيوت الكبيرة من أبوابها. قال أيضا إن في كل مرة تتناقل الألسن إشاعات أو أخبارا مؤكدة عن تعديل حكومي مرتقب، يقصده الوزير إياه، ليقرأ له في فنجانه إن كان مغضوبا عليه، أم سيواصل أداء مهمته.
قال، في معرض روايته، إنه كان في زيارة إلى فيلا مسؤول حكومي بارز، دأب على أن يحلق له رأسه في مقر إقامته، التقط مكالمة هاتفية تردد عبرها اسم الوزير، واقترح ذلك المسؤول توليه حقيبة جديدة لأنه رجل طيب وابن حلال، وأنه مثل الدواء المسكن يمكن وضع اسمه على أي قطاع، فهو يمتثل ولا يرفض أي طلب. وزاد ذلك المسؤول مشيدا بخصال الوزير، قائلا: إنه لا يفعل أي شيء بمبادرة شخصية، وبالتالي فلن تأتي منه أي مشاكل.
كل الأبواب كانت تنفتح أمام الحلاق إدريس، يضع محفظة صغيرة على المقعد الأمامي لسيارته، وينطلق في اتجاه البيوت الكبيرة، حيث أناس لا يزورون دكان الحلاق أو عامل «الماساج»، بل يأتي إليهم مقدمو هكذا خدمات في المواعد التي يختارونها. أردف إدريس أن كبار المسؤولين، بمن فيهم أولئك الذين لم يكونوا يفتحون أفواههم إلا عند أطباء الأسنان، يستلذون الكلام لحظة الحلاقة. وليست النساء وحدهن من ينجذبن إلى الحديث في صالونات الحلاقة، فالرجال أيضا تتملكهم الرغبة نفسها عند الاسترخاء.
عقب إدريس أنه سمع مرة من مسؤول متنفذ كان بصدد حلاقة ذقنه بالموسى، أن الثقة وحدها تجعله مطمئنا إلى وضع عنقه في مواجهة شفرة حلاقة حادة، من دون أي رعشة خوف. مع أن الاثنين إذا اجتمعا فالويل لمن تنطبق عليه مقولة: «احذف ما سبق». ورأى أن بعض العيوب التي تسترها تسريحة الشعر تصبح مستباحة أمام الحلاق. فهو يعرف مناطق تكاثرها وندرتها على الرأس، كما يعرف نوعيتها، إن كانت سهلة طيعة أو من النوع الذي يلتوي ويحدث بعض الأضرار الطفيفة عند الإجهاز عليه.
يهتم الرجال بتسريحة شعرهم كما الهندام، لكنها الأقدام نادرا ما تحظى بالعناية نفسها، وإن كان من معالم تقييم الشخصية أن الحذاء يحيل على بعض ملامحها. وقيل في توصيف نظرة الملك الراحل الحسن الثاني إلى وزرائه ومساعديه، أنها تبدأ من تحت إلى ما فوق، أي من الحذاء إلى الرأس، مع أن مخزون الرأس أهم وأجدى وأنفع. وظل الحلاق إدريس يعاند في أن الشعر مفتاح الشخصية، ولو أن الاعتزاز بالمهن سمة مشتركة بين جميع ممارسيها.
لذا احتل الحلاقون ومصممو الأزياء والأحذية ومبتكرو العطور صدارة الاهتمام، كناية بتأثير المظاهر التي تعكس ما يجول في الخواطر والنفوس. ومثل الأغاني والأفكار التي ترافق الأجيال، تكون تسريحة الشعر. لكن حلاقا متقاعدا في أكدال بالرباط، لازال يذكر كيف أن الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بنعلي دأب على التردد على دكانه. حدثني بهذا الصدد أن المحل كان في ملكية يهودي يتحدر من أصول مغربية، وأن زواره من أبناء الطائفة كثيرا ما نصحوا أصدقاءهم بالذهاب إلى ذلك الدكان.
خلال إقامته في المغرب، بصفته ملحقا عسكريا، كان زين العابدين بن علي يتردد على ذلك الحلاق، ومن رواياته أنه كان يرفض غزو الشيب الأبيض، مثل مسؤولين كثر، لكن الحرب الأخيرة على العراق كشفت سقوط تجربة صباغة الشعر لدى مسؤولين عراقيين سابقين.. وفي تغير الأحوال أنه يبدأ بالزحف على الرأس أولا.