خلية شيخ العرب.. عندما كان السلاح متاحا للمغاربة
«هذا الأسبوع تمر الذكرى الحادية والخمسون لأشهر عملية أمنية لاغتيال شيخ العرب وبعض أصدقائه في مدينة الدار البيضاء، بعد وشاية أوصلت الشرطة إلى مكان اختبائهم. منشورات ملأت جنبات الدار البيضاء سنة 1964 تحمل مواصفات «المجرم الخطير».. هذه قصة أشهر تمرد أمني في المغرب..».
خلال أواسط شهر غشت من كل سنة، يغمض الكثيرون أعينهم استرجاعا لذكريات أليمة جمعتهم بشيخ العرب، حتى أن بعضهم لا يزالون يناصرون «قضيته»، ولو بعد مرور 51 سنة على مقتله على يد الأمن في الدار البيضاء، باعتباره شخصا خطيرا ومسلحا..
رأى فيه الكثيرون، بدون تحفظ، شخصا منفلتا ومثيرا للفوضى والقلاقل.. لذلك لم يعلقوا على خبر مقتله بعد تبادل لإطلاق النار بينه وبين رجال الشرطة، بحضور كبار رجال الأمن في المغرب سنة 1964. بل كان آخرون رغم أن صفوف المقاومة جمعتهم بشيخ العرب قبل الاستقلال، يتبرؤون منه مباشرة بعد مواقفه الرافضة لوضع السلاح بعد الاستقلال.
لكن الذين كانوا قريبين منه أكدوا أنه كان وطنيا غيورا، لكنه لم يستسغ النهاية التي آلت إليها الأمور بعد الاستقلال، ولم يكن يخفي صدمته من وصول أسماء كانت تتعاون مع فرنسا إلى السلطة، بعد الاستقلال مباشرة.
بدأ كل شيء في الدار البيضاء، عندما لاحظت أعين الأمن ومخبرو الأجهزة السرية، أن حركة غير عادية تجري في أوساط بعض المنتسبين إلى المقاومة.
مرت في ذلك الوقت سنوات قليلة على حصول المغرب على الاستقلال. ولم يكن من السهل التنبؤ بما كان يخطط له بعض قدماء المقاومة، ممن حملوا السلاح ضد فرنسا ولم ينصاعوا لأوامر تسليم أسلحتهم بعد الاستقلال. لكن التعليمات الأمنية كانت تقضي بضرورة تجريد الجميع من الأسلحة.
ما وقع أن الأمن وقتها، بداية الستينات، استعان ببعض قدماء المقاومة واستعان بمعارفهم السابقين لتكوين فكرة عن أولئك المتمردين الذي لم يوافقوا على تعليمات اللعبة الجديدة. لهؤلاء أسباب مقنعة، حسب البعض، تجعلهم يمتنعون عن تسليم أسلحتهم، أشهرها الاعتقالات التي طالت بعض الأسماء المشهود لها بالنزاهة كالمقاوم بونعيلات وآخرين، يوم تم جرهم جميعا إلى السجن المركزي بالقنيطرة ذات فبراير بداية الستينات. كان الملك محمد الخامس وقتها في زيارة رسمية خارج المغرب، فاستغل البعض خيوطا لتحريك القضاء والحصول على أمر بإلقاء القبض على بعض الأسماء من بينها بونعيلات، والتهمة كانت وقوفهم وراء تدبير مخطط لقلب النظام في البلاد.
لم يستسغ المقربون والمنتمون إلى المقاومة وجيش التحرير هذا المستجد في حياة المقاومة سنوات قليلة بعد الاستقلال. ما كان يذهب إليه شيخ العرب، هو أن هناك أيادي في الدولة تحرك البلاد نحو اتجاه غير ذلك الذي حملوا هم من أجله السلاح. ولم يستسغ، حسب شهادات المقربين منه، أن يتم اتهام أسماء مشهود لها بالوطنية، بالضلوع في محاولات لقلب النظام.
كان شيخ العرب، وآخرون غيره بطبيعة الحال، يرون في المقربين من السلطة، خصوصا بعض الوزراء المشهود لهم بالتعاون مع فرنسا، وضباط في الجيش وجنرالات كانوا تحت ظل فرنسا، خونة يوجهون البلاد بتعليمات فرنسية، وهو ما جعلهم يتمسكون بخيار الإبقاء على سلاحهم.
لكن آخرين رأوا في موقف أصدقائهم الذين لم يعودوا كذلك للأسف، نوعا من التمرد على النظام العام ومحاولة لإدخال البلاد في فترة جديدة من المواجهات التي سيكون فيها السلاح حاضرا بطبيعة الحال.
ما لا يعلمه الكثيرون، أن الدولة دخلت منعطفا خطيرا، بالضبط يوم إلقاء القبض على مجموعة من المقاومين سنة 1959 واتهامهم باتهامات خطيرة، لا تتوفر أدلة كافية لإثبات ضلوعهم فيها. هذا الأمر جعل المواجهة تبدأ بين الخلايا الغاضبة والدواليب التي توجه الدولة نحو الاتجاه الذي تذهب إليه الأغلبية المحيطة بالحكم في المغرب.
متنكرا ومتخفيا، حاول شيخ العرب أن ينسج خيوط تنظيم جديد في الدار البيضاء، لكنه لم يفلح في الأمر، بل وفشل فيه فشلا ذريعا. لن نكون هنا منحازين لشيخ العرب، فشخصيته لا تحتاج إلى مزيد من لمسات استكمال الأسطورة التي نسجت حوله بإحكام. فالتاريخ وواقع الأمر يشهدان أن شيخ العرب لم يختر التخفي اعتباطا، وإنما كان مجبرا على الاختباء عن الأعين لأنه لم ينجح في تكوين نواة تنظيم سري في دولة حديثة الإنشاء وجهازها الأمني بمختلف تخصصاته وانتماءاته لم يكون مناعة بعد ضد ما قد يقع في الشارع، ورغم ذلك فإن شيخ العرب لم ينجح في إحكام سيطرته على قوة بشرية في الدار البيضاء التي اختبأ بها، رغم أن علاقاته كانت واسعة، وأغلب معارفه من الذين كانوا لا يترددون في الجهر بمشاعر الغضب ضد الواقع الذي أصبحت تعيشه البلاد..
هل كان شيخ العرب ومن معه عناصر خطيرة على أمن المغاربة واستقرارهم؟ في هذا الملف نحاول تسليط الضوء على واحدة من أقرب الروايات التي سيرويها لنا رجل جمعته بشيخ العرب صداقة ذات تقاطع أصبح عابرا، لكنه أثر في ما تبقى من حياته حتى بعد رحيل شيخ العرب بسنوات طويلة. آخرون رفضوا الحديث إلينا في الموضوع، وكان واضحا من نبرة أصواتهم أنهم ما زالوا يحملون خوفا من تراكمات ماض كانوا فيه على علاقة بهذا الرجل. إلى درجة أن أحدهم، على الطرف الآخر من السماعة صاح قائلا: «لا يمكنني أن أخبرك أي شيء عن شيخ العرب. لا أعلم إلا أنه مات مقتولا بالرصاص لأنه استقوى وهدد الأمن العام بالمغرب، ولا أنكر أنني كنت صديقه، أرجوك لا تكتب هذا الكلام، لكني ندمت كثيرا على تلك الصداقة، وطويتها قبل حتى أن أعلم بخبر مقتله.. كان يريد أن ينتقم لكافة المقاومين الذين طالهم النسيان بعد الاستقلال، وقال لي مرارا في مقهى بحي درب السلطان، مستنكرا: «هل هذا ما حملنا من أجله السلاح؟ هل نترك البلاد في يد الذين لم يناضلوا من أجل استقلالها؟»».
انتهى شيخ العرب، وانتهت تساؤلات كثيرة مماثلة بانتهاء أصدقائه أنفسهم. وبدل أن تطوى القصة مرة واحدة، أصبحت تطوى مرات كثيرة كلما سمعنا خبرا عن رحيل أحد قدماء المقاومة وجيش التحرير في ظروف مزرية يتأسف لها الجميع.. بمن فيهم الذين تحمسوا، وصفقوا لخبر اغتيال شيخ العرب.
قصة متمرد على القانون وأخطر المسلحين بعد الاستقلال
هذا الرجل الذي سيتحدث اليوم عن شيخ العرب وثلة من رفاقه، يعد واحدا من الذين طالتهم لعنة التعاطف معه ما بين 1956 و1964. حتى أنه بقي محاصرا في قرية صغيرة مطلة على الصحراء، ولم ينجح في ربط الاتصال بمندوبية المقاومة إلا متأخرا، لإمدادها ببعض الوثائق التاريخية النادرة المتعلقة بأصول المقاومة في الصحراء، وخطوات إنشاء فرع جيش التحرير في الأقاليم الجنوبية، وهو الأمر الذي أشرف عليه الملك الراحل الحسن الثاني شخصيا، أيام كان وليا للعهد.
اسمه إبراهيم نوحي، سبق له أن التقى شيخ العرب في الرباط، لكن بداية علاقته به تعود إلى أيام الشباب في الجنوب. الوضعية الصحية لإبراهيم نوحي لا تساعده على تأبط ملفاته ليطوف بها بين من يهمهم الأمر في الرباط، أو من يُفترض أنهم كذلك على حد قوله في اتصال له مع «الأخبار».
يعتبر نفسه واحدا من أقدم الذين مارسوا العمل الصحفي على صفحات جريدة «العلم»، قبل أن تنقلب الأمور، بسبب علاقته بشخصيات من محيط شيخ العرب، وبشيخ العرب نفسه، ويقرر العودة إلى الجنوب الهادئ بعيدا عن العواصف التي خلفها التطاحن بين قطبي المقاومة المغربية بعد الاستقلال. بعد أن صدر ضده حكم سنوات الرصاص، يقضي بإبقائه محاصرا في قريته. يقول: «أعتبر أن شخصية شيخ العرب شخصية أسطورية بكل المقاييس. فقد ظهرت بسرعة، وانتهت بسرعة.
على العموم، فشيخ العرب يتحدر من دوار أكوليز بإقليم طاطا. وكان يقال بيننا إن دار شيخ العرب لا تصلها الشمس إلا على الساعة الحادية عشرة. لأنها كانت موجودة بين جبال «باني» الشاهقة. وقد عرفت قبيلة أكوليز كلها بكونها قبيلة ثائرة ومقاومة. والجبال الشاهقة التي أشرت إليها تطل على حمادة تندوف مباشرة. كان شيخ العرب، رحمه الله، من الملتحقين بصفوف جيش التحرير بالجنوب المغربي في سنة 1956، ولم تكن له مهمة عليا في قيادة جيش التحرير (كقائد الرحى أو قائد المائة)، كما ما لم تكن له علاقات بالهجمات داخل عمق الصحراء.
كل ما كنا نعرفه عنه أنه كان مكلفا بالاتصال (يربط الاتصال بين القيادة والجيش)، يجول في المدن المجاورة، وأبرزها أكادير وجبال جزولة. من بين الأدوار أو المهمات التي قام بها، أنه كان يتفقد المساجين من الأسرى الإسبان والفرنسيين والخونة من تلقاء نفسه، ولم تكلفه القيادة بذلك.
أريد أن أشير هنا إلى أنه لم يتجاوزها، أي أوامر القيادة، في ذلك وإنما كان كلامه مسموعا من قبل القيادة في تلك الظروف التي كانت تمر منها البلاد. وأحيانا كان يجتهد من تلقاء نفسه للقيام ببعض الأمور دون أن تطلب منه، لكنها لم تكن لتلقى أي اعتراض من القيادة على كل حال. كان هذا قبل الاستقلال.
وأذكر أن منطقة طاطا شهدت لقاء ثلاث شخصيات في هذه الفترة: الأول هو محمد بن موسى الرضا، وقد وافته المنية، أخيرا، بأكادير رحمه الله، وقد كان قائدا إداريا على طاطا، باقتراح من المقاومة وموافقة الملك محمد الخامس رحمه الله، والثاني هو محمد بولحية آيت إلياس المزداد بتكموت، والثالث هو شيخ العرب وهو كما أسلفت من دوار أكوليز بإقليم طاطا. وأشبه هؤلاء بالقواعد الثلاث التي تستوي عليها القِدر لتبدأ في الغليان وتحتها النار. فقد كانوا ثلاثتهم جبهة قوية في المنطقة عموما.
وعندما اعتقل بن موسى بتهمة الانخراط في العمل المسلح وحكم عليه، بعد حصول المغرب على الاستقلال بقي شيخ العرب صحبة بولحية يتحركان بحذر، لكن حادثة صراع شيخ العرب مع أحد شيوخ قيادة منطقة «إسافن» وما ترتب عنها، كانت منعطفا حقيقيا في حياته. فقد قتل شيخ العرب شيخ «إسافن» بإقليم طاطا، وأحد أفراد القوات المساعدة (مخزني)، وحكم عليه غيابيا..
هنا سيدخل شيخ العرب مرحلة السرية، وستجند الدولة كل إمكانياتها لإلقاء القبض عليه. وتبدأ مطاردته في كل البلاد».
لا يحتاج إبراهيم نوحي هنا للقول بأن علاقته بشيخ العرب، أو أحمد أكوليز، كما تقول بطاقة تعريفه، جرت عليه لعنة معرفة الرجل خلال بداية الستينات. فالأمن الوطني وقتها لم يتعامل مع الأمر بتساهل، وإنما صدرت الأوامر، من أعلى المستويات، للتشديد في الإجراءات الأمنية في كل المعابر، مخارج ومداخل المدن المغربية، وحتى الأسواق الأسبوعية والقرى والمداشر.
من نبرة إبراهيم نوحي المتهالكة، والتي كان سببها اعتصامه الأخير لإسماع صوته بعد كل هذه السنوات كما يقول، تلمس احتراما كبيرا لشخصية شيخ العرب. رغم أن نوحي، على عكس الكثيرين، يعترف على الأقل بأن شيخ العرب لم يكن يوما قياديا في جيش التحرير قبل الاستقلال، وإنما أصبح واحدا من الحراب النشيطة في منطقة الصحراء، بفضل العمليات التي كانت تفوت إليه من طرف رؤسائه، لكن طباعه المتمردة جعلته يجتهد في تنفيذ مخططات أخرى بدون توجيهات من رؤسائه، وهو ما كان يعكس، على الأقل، ميولاته المتمردة قبل الاستقلال، لتظهر جلية على السطح، بعد أن أصبحت المقاومة المغربية، في إطار جيش التحرير، مطالبة بتسليم أسلحتها والاندماج السلس، الذي لم يكن سلسا كما خُطط له، بسبب الخروقات، مع الجيش الملكي.
هنا ستظهر بوادر التفرقة. وما عملية مقتل عون السلطة على خلفية صراع، بدا للكثيرين تافها، فيما رأى فيه أنصار أكوليز، انتصارا لهم على أعوان السلطة الذين اعتبروهم وقتها أذنابا لبقايا فرنسا في المغرب.
كان كل شيء ثوريا، وهؤلاء الذين أصبحوا اليوم شيوخا على الحافة الأخيرة من العمر، كانوا وقتها شبابا ينبضون اندفاعا، واعتبروا استعمال أكوليز لمسدسه في منطقة صغيرة لتصفية عون سلطة، عملا بطوليا، استحق معه أن يحاط بهالة من الاحترام، ويفر إلى العاصمة ومنها إلى الدار البيضاء، ويتجول بسرية بين الشوارع، ويرى بعينيه كيف أن صورته أصبحت معلقة في كل مكان.. وأن الدولة ترصد مكافأة لمن يدل عليه.. فبدأت المشاكل قبل الوصول إليه، لكنها لم تنته بعد ذلك!
هؤلاء هم العناصر الأكثر خطورة على الأمن العام خلال 1964
في الدار البيضاء، والرباط، ومدن أخرى، ولو بحدة أقل من المركز، كانت الشوارع تغلي غليانا حقيقيا بحثا عن مقاومين فضلوا عدم التخلي عن جبة المقاوم، رغم أن الدولة حاولت طي الصفحة منذ سنة 1956. لم يكن هناك ضرورة للإبقاء على السلاح لدى المواطنين، لكن بعض الذين مارسوا العمل المسلح أيام فرنسا، لم يصدقوا أن كل شيء قد انتهى وأن عليهم أن يعودوا إلى الأصل، أي مواطنين عاديين.
بعض هؤلاء، آمنوا أنهم أصبحوا أبطالا خارقين، وأن ما يميزهم عن المواطنين العاديين، هي قطعة السلاح التي كانوا يحملونها معهم، حتى أن الكثيرين منهم، غامروا بحياتهم أيام فرنسا، للاحتفاظ بمسدس والمرور به من نقط التفتيش دون انكشاف أمرهم.. هؤلاء لم يتقبلوا أن يتخلوا عن مسدساتهم ورشاشاتهم الصغيرة لصالح السلطات المغربية، رغم أن الحسن الثاني سهر على الأمر شخصيا، ودعا في خطابات مباشرة وزيارات إلى أبعد المناطق النائية، الجميع لكي يسلموا أسلحتهم إلى الدولة.
شيخ العرب، يعتبر واحدا من الذين ذهبوا في اتجاه الإصرار على عدم تسليم أسلحتهم، ووصلت المواجهة بينهم وبين الدولة إلى مستوى غير مسبوق. المتعاطفون معه، جروا على أنفسهم لعنة الملاحقة فقط، وبعد مقتله على يد الأمن الوطني، يوم 7 غشت 1964، على خلفية محاصرة أمنية محكمة تبادل فيها الطرفان إطلاق النار وكان الحدث حديث سكان الدار البيضاء لأشهر، أصبح أصدقاؤه، أو الذين جاهروا بالتعاطف معه، أو جمعته بهم المقاومة سنوات الخمسينات، غير مرغوب فيهم من طرف أغلب المنتمين إلى المقاومة وجيش التحرير، فيما طالت آخرين منهم اعتقالات واعتبروا خطرا على الأمن العام..
الحقيقة أن بعضهم ظلوا يحملون أفكارا ثائرة ضد الدولة حتى بعد رحيل شيخ العرب بتلك الطريقة، لذلك بقيت اللعنة تلاحق أغلب الذين عرفوه من قرب، ولم يتحرروا منها إلا بعد الرحيل النهائي لأغلب الرموز الأمنية التي واكبت القضية، وآخرهم الجنرال الدليمي.
هكذا عجزت البلاغات عن الإطاحة بأسطورة شيخ العرب
يروي إبراهيم الذي أورد لنا معلومات حول نشأة أسطورة شيخ العرب، كيف أن الأخير نجا لأشهر طويلة من الاعتقال، رغم أن صوره كانت تزين الشوارع، ورغم التعبئة الإعلامية التي خاضتها الدولة المغربية لتوسيع حظوظها في إلقاء القبض على واحد من أكثر العناصر المسلحة التي تهدد الأمن العام بالمغرب.
يقولون إن له رهبة القديسين، رغم أنه كان طرفا ضعيفا في معادلة السلطة وجيش التحرير أيام الحماية الفرنسية والاستعمار الإسباني للصحراء. لكن الذين كانوا يتحدثون إليه في الأزقة المظلمة وحتى في وضح النهار، بعد أن يُحسن التخفي عن أعين أعوان السلطة والمواطنين الراغبين في الحصول على المكافأة، يقولون إنهم شعروا بتوتر كبير أثناء الحديث معه، وهو ما أعطى لشيخ العرب حظوظا أكبر في نسج أسطورة حول شخصيته، بقيت لصيقة به حتى بعد رحيله عن الحياة.
لفهم هذه الصورة أكثر، دعونا نسمع لإبراهيم نوحي، وهو يروي لـ«الأخبار» عن أول لقاء سري له مع شيخ العرب في الدار البيضاء بعد صدور مذكرات البحث عنه، واعتباره قاتلا وشخصا خطيرا على الأمن العام للمواطنين. إبراهيم نوحي كان وقتها قد غادر صفوف النضال الحزبي الصحفي، وعاد من الرباط ليقيم في الدار البيضاء ويختار العمل في مشروع صغير لتوفير لقمة العيش كما يقول، ويتخلى عن كل شيء عندما تأزمت أوضاع المواجهة بين الدولة وشيخ العرب، ويختار العودة إلى مسقط رأسه، قبل أن يبلغه الكثيرون أن رأسه مطلوبة حتى بعد انتهاء أسطورة شيخ العرب، ليختار البقاء في قريته التي لم يغادرها لعقود، إلا بعد أن أصبحت هذه القصص كلها مجرد مغامرات.. يقول: «ذات يوم، وبعد أن انتهيت من العمل في ورشتي، ركبت حافلة قاصدا بعض الأقارب في إطار زيارة عائلية بالدار البيضاء دائما. ولتفادي الازدحام رجعت إلى المقاعد الخلفية لأنعم بقسط من الراحة. وبينما أنا كذلك، انتابني إحساس غريب أن شخصا يراقبني، ثم بدأ في الاقتراب مني. اعتبرت الأمر عاديا في البداية ولا يعدو أن يكون ظنا عابرا. لكن تبدد الشك وقطع باليقين عندما سمعته يناديني باسمي «إبراهيم». التفت في اتجاه الصوت، وإذا بي أجد نفسي أمام شيخ العرب شخصيا، ولم تكن تفصلني عنه إلا سنتيمترات قليلة.
في الحقيقة، رؤيته كانت مفاجأة بالنسبة إلي. لم أتوقع أن أقابله في تلك الظروف، ولم أكن أتوفر على أي معلومات بشأن وجوده في الدار البيضاء، أو في الصحراء، أو في الرباط. كنت أرى الملصقات التي تحذر الناس منه وتطالب بتقديم أي معلومات تتوفر عنه وعن مكان تخفيه، لكني لم أكن أعلم أي شيء عنه.
بدأ جسمي يتصبب عرقا. ولم أدر ما أقول له في الحافلة. سألني عن مكان إقامتي، فأجبته أنني أشتغل في ورشة بشارع الفداء.
صمت ولم يطرح أي سؤال إضافي. بقي ينظر إلي وبينما كان يهم بالنزول من الحافلة، كنت أتابع حركته السريعة وأقول في نفسي، هل هؤلاء الناس الذين يركبون هذه الحافلة معي الآن يعرفون من يشاركهم حافلتهم؟ لقد كان شيخ العرب مطاردا حينها والدولة تلاحقه. والصور موزعة على المقاهي و«الطاكسيات» وفي كل مكان. بل إن دور السينما كانت تبث صورته بعد شريط الإخبار قبل بث الفيلم السينمائي المبرمج، وتذكر الناس بخطورته، وتؤكد على ضرورة التبليغ عنه إذا ظهر في أي مكان. كنت أتوقع أن يعود لزيارتي ما دمت قد أخبرته بمكان عملي ولم يعلق. كنت أعلم أيضا أنه يثق بي ويعلم أنني لن أشي به. لذلك لم أتفاجأ بعد أسبوع من لقائي به في الحافلة، بشخص غريب يقف أمام باب الورشة بشارع الفداء، وينظر إلي وعرفته رغم تنكره. كان يرتدي جلبابا ويضع لحية ونظارات شمسية. لكن ملاحمه لم تخف عليّ لأنني أعرفه جيدا وعاشرته لسنوات. الناس العاديون لن يتعرفوا عليه بسبب التنكر لأنهم يعرفونه من صور الملصقات فقط، أما نحن فكنا نعرف ملامحه بوضوح رغم التنكر. تساءلت عن سبب تلك الزيارة لكني لم أقو على سؤاله بشكل مباشر، وكانت تلك من المرات القليلة التي جاء فيها إلي ليسأل عن بعض الإخوان، يعرف مني بعض الأخبار قبل أن يختفي، وكانت تلك من بين آخر لقاءاتي به قبل أن أقرأ خبر مقتله بعد تبادل إطلاق النار مع الشرطة، التي طوقت مخبأه بعد وشاية من أحد الذين كانوا يختفون معه. في ما بعد روى لي الأصدقاء كيف أن الطمع في الحصول على المكافأة التي رصدتها الدولة أعمى بصيرة أحد مرافقيه في المكان الذي تخفوا فيه، فقام بالوشاية به، وطوق المكان برجال الأمن ووقع تبادل إطلاق النار.. من خلال معرفتي القريبة بشيخ العرب، أؤكد أنه لولا الوشاية لما سقط في يد الأمن، لأنهم أمضوا وقتا طويلا في قيادة حملة إعلامية كبيرة ضده ولم يفلحوا في الوصول إليه لولا الوشاية. وبعد مقتله بقي يحظى باحترام الكثيرين لمواقفه النبيلة حقيقة تجاه عدد من قدماء المقاومة، الذين ساءت وضعيتهم الصحية بعد الاستقلال، ولم يجدوا ما يأكلونه، في مقابل آخرين متطفلين لم يحملوا السلاح يوما، وحصدوا الغلة واستفادوا من امتيازات باسم المقاومة المسلحة».
هنا يستدعي الأمر وقفة مع هذه الرواية، ما طبيعة العلاقة التي جمعت هذا الرجل بشيخ العرب، خصوصا وأنه لم يقم بالتبليغ عنه، رغم أنه يعلم أن الدنيا قامت ولم تقعد بحثا عن إشارة أو خيط يوصل الأمن إليه؟ الجواب جاء كالآتي: «في الحقيقة علاقتي به تعود إلى ما قبل دخوله العمل السري المسلح. ولم تكن علاقتي به أنا وآخرين إلا علاقة جنود في ما بينهم. كنا جميعا وهو معنا منضبطين لقائدنا في المنطقة الجنوبية، ولا علم لي، ولا لعدد من أصدقائنا المشتركين أبدا بالأهداف السرية التي ربما كانت تشغله أو يفكر فيها أثناء لقاءاتنا به. بالتالي لا أستطيع التأكيد على أنه كان فعلا عنصرا خطيرا على المواطنين..».
عندما أراد حاملو السلاح السابقون حكم المغرب ضدا في الحكومة
يقال إن مواقف شيخ العرب، هي التي جرت عليه المصير الذي لاقاه. آخرون يؤكدون أنه لم يكن ذكيا بالقدر الذي كان ليمكنه من المفاوضة والحصول كما حصل آخرون على رخص لفتح المحلات التجارية ومأذونيات النقل واستغلال المرافق العمومية مقابل مبالغ صغيرة للدولة، امتنع أغلبهم عن أدائها رغم أنهم راكموا الملايين في أزمنة قياسية.
ما يتناغم فيه إبراهيم نوحي، مع الرواية الأمنية، هو أن شيخ العرب لم يكن عنصرا فاعلا أثناء المقاومة، ولم يكن قياديا أيام الحماية الفرنسية، أي أنه كان نكرة تقريبا قبل سنة 1956. مواقفه المتمردة هي التي ساعدت على إبراز اسمه في الساحة، ما بعد حصول المغرب على الاستقلال وبدء عمليات سحب السلاح من عناصر المقاومة.
يسجل التاريخ المغربي أن أغلب المغاربة تطوعوا لتسليم ما بحوزتهم من الأسلحة إلى الدولة المغربية، وقدموا معها لوائح بأسمائهم، لضمان ضمهم إلى صفوف الجيش الملكي. لكن لا أحد الآن، بعد كل هذه السنوات الفاصلة بيننا وبين 1956، يستطيع أن يُكذب أن لوائح المقاومين طالتها تعديلات، أو تلاعبات على الأصح. لا أحد، بما في ذلك أعضاء جيش التحرير وزعماء مندوبية المقاومين، ينكر أن تلاعبات كثيرة طالت لوائح المقاومين التي تم تسجيلها بعد سنة 1956.
شيخ العرب، لم يكن واحدا من الذين انزووا في الهامش للتذمر من الوضع القائم، وإنما كان واحدا من الذين اندفعوا في رد فعل عنيف، للثأر بأيديهم.
ماضيه، وبالضبط حادثة اغتياله بسلاح ناري، لأحد أعوان السلطة بمنطقة إسافن، بالجنوب، هي ما جعلت بعض الذين يعرفونه يحسمون في أمر خطورته. منهم من اتخذ مسافة منه، فيما تعاطف معه آخرون على اعتبار أنه «ثائر» مثلهم على واقع الحال، وما ملاحقة الأمن له إلا دسيسة يحركها الغاضبون منه، وأغلبهم يربطون علاقات وطيدة مع السلطة. تبقى قصته، رغم كل ما قيل، أخطر عملية تطويق أمنية في تاريخ المغرب، وأكثر قصص التأهب الأمني بالمغرب، إلى درجة أن العارفين بخبايا الأمور، اعتبروا أن أغلب الترقيات الأمنية وأكثرها أهمية على عهد الجنرال أوفقير والدليمي الذي لم يكن جنرالا وقتها بعدُ، تعود بالضبط إلى ما بعد عملية قتل شيخ العرب برصاص الشرطة، صبيحة السابع من غشت 1964.