ياسر عبد العزيز
مر عامان منذ شنت روسيا «عمليتها العسكرية الخاصة»- كما تسميها- ضد أوكرانيا، أو بدأت «غزوها»، كما يقول المناهضون والنقاد؛ وجلهم ينتمي إلى العالم الغربي، أو يتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية.
والشاهد أنه بعد خراب واستنزاف ومآس عديدة عاينها العالم على مدى 24 شهرا، لم يعلن أي من الطرفين النصر، ولم يكن بوسع أيهما ذلك حتى اللحظة الراهنة. وبالطبع، فإن كليهما لم يتزحزح عن موقفه؛ إذ ما زالت موسكو ترى أوكرانيا «بلدا غير قانوني»، وتصر على الإطاحة بنظامها الحاكم، فيما تؤكد كييف عزمها استعادة الأراضي التي احتلتها روسيا داخلها كافة، وإنهاء الوجود الروسي في البلاد.
ثمة الكثير من الخسائر التي مُني بها العالم جراء تلك الحرب، وربما يكون أكثر تلك الخسائر وضوحا ما يتعلق بالأمن والاستقرار الدوليين، وعودة أجواء المواجهة الأممية، ومخاطر توسع النزاع ليشمل دولا أخرى، وصولا إلى السيناريو الكارثي الأسود، الذي قد يحدث إذا اتسعت تلك المواجهة واتخذت طابعا عسكريا مباشرا بين الروس و«الناتو».
كما أن الخسائر الاقتصادية التي ضربت دولا عديدة في العالم جراء تضرر سلاسل التوريد، وانقطاع بعض الصادرات، خصوصا من دولتي المواجهة، فضلا عن الضغوط الاقتصادية المتولدة عن نفقات الحرب نفسها، والمساعدات التي اضطرت دول غربية إلى تقديمها لأوكرانيا في أوقات عسر أو اضطراب اقتصاديين؛ كلها عوامل فاقمت من آثار تلك الحرب وتكاليفها.
وإضافة إلى تلك الخسائر الموجعة كلها؛ فثمة خسارة فادحة أخرى يمكن رصدها في الضرر الذي لحق بمفهوم العولمة، باعتبارها حالة من «التدفق المتزايد للسلع والخدمات ورأس المال والتكنولوجيا والمعلومات والأفكار والأيدي العاملة، على الصعيد العالمي»، كما سبق أن عرّفتها الأمم المتحدة.
ويبدو أن الأزمة الأوكرانية التي تدخل عامها الثالث، والتي تُصدر إلى الجميع مشكلات وأزمات متفاوتة، وتَعِد بالمزيد من التكاليف والخسائر، كشفت عن جانب مغاير لما استقر عليه هذا المنظور الأممي الإيجابي تجاه العولمة؛ كما اتضح أن ذلك المفهوم كان عرضة للتلاعب والنكوص بامتياز.
فمن زاوية الأزمة الأوكرانية وما قادت إليه من تفاعلات على صعيد النزاع الروسي- الغربي، بدا أن العولمة تحولت إلى سلاح في الحملة التي يشنها الغرب ضد روسيا، من أجل عزلها وتطويع سياساتها بشكل يخدم الرؤية الغربية في النزاع الدائر حاليا.
ويمكن القول إن الجانب الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، سعى خلال محاولته لمواجهة السلوك الروسي العسكري حيال أوكرانيا إلى تسخير آليات عولمية في معركته، وهو في سعيه ذلك حقق نتائج صبت في تعزيز قدراته خلال النزاع، لكنها من جانب آخر تركت أضرارا جانبية خطيرة على الآليات العولمية من جانب، ووضعت فكرة العولمة نفسها على المحك من جانب آخر.
فمن بين أهم سمات العقوبات المفروضة على روسيا في أتون تلك المعركة أنها جاءت لتشمل قطاعات متنوعة سياسية، واقتصادية، وثقافية، وإعلامية؛ بل وحتى رياضية في محاولة لفرض «نوع من العزلة» على روسيا، لمعاقبتها على قرارها بشن «العملية العسكرية» ضد أوكرانيا.
لقد بات واضحا أن الخطة التي اعتمدها الغرب، وبنى قدرا لافتا من التوافق عليها بين دوله المؤثرة، تهدف إلى عزل روسيا وخنقها، بما يؤدي أولا إلى خسارتها معركتها العسكرية والسياسية ضد أوكرانيا، ويقود ثانيا إلى إضعافها استراتيجيا بالشكل الذي يُجردها من القدرة على تحدي الإرادة والمصالح الغربية في أي معترك أو محفل مستقبلي. واختار الغرب لتحقيق استراتيجيته تلك وسيلة العقوبات التي شملت جوانب اقتصادية، ومالية، ورياضية، وفنية، وثقافية، وإعلامية، إلى جانب الوسائل العسكرية والسياسية.
إن اتخاذ مواقف سياسية حادة ضد الغزو الروسي لأوكرانيا لا يقوض العولمة أو يضعف تأثيرها، بل قد يجد تفهما لدى كثيرين. كما أن الانخراط في معركة عسكرية ضد روسيا، أو تزويد الجانب الأوكراني بالأسلحة والمقاتلين والمساعدات لا يشكك في مفهوم العولمة. لكن اعتماد آلية العقوبات التي تمتد من نظم التحويل المالية العالمية، وتشمل المشاركة في المنافسات الرياضية، والمحافل الفنية، وتصل إلى حظر عمل وسائل الإعلام، وتوجيه عملها، هي إجراءات تضرب العولمة في ركائزها الحيوية.
وأهم من ذلك أن تلك الإجراءات لم تفقد زخمها وتأثيرها المادي في الأزمة الأوكرانية باطراد فقط، لكنها فقدت جزءا كبيرا من وجاهتها الأخلاقية أيضا، خصوصا عند معاينة مواقف الأطراف التي تقف بصلابة ضد «الغزو الإجرامي» الروسي لأوكرانيا، ولا ترى بأي عين ما تفعله إسرائيل في غزة منذ أكتوبر الماضي.
نافذة:
لقد بات واضحا أن الخطة التي اعتمدها الغرب وبنى قدرا لافتا من التوافق عليها بين دوله المؤثرة تهدف إلى عزل روسيا وخنقها