حرية العقيدة (1)
د. محمد ديـرا
يقصد بحرية العقيدة اختيار الإنسان للدين الذي يؤمن به ويعتقد أنه الصواب دون إكراه ولا إجبار، يقول محمد أبو زهرة: «احترم الإسلام حرية الاعتقاد، وجعل الأساس في الاعتقاد أن يختار الإنسان الذي يرتضيه من غير إكراه ولا حمل، وأن يجعل أساس اختياره التفكير السليم، وأن يحمي دينه الذي ارتضاه، فلا يكره على خلاف ما يقتضيه، وبذلك تتكون حرية الاعتقاد من عناصر ثلاثة، أولها: تفكير حر غير مأسور بشيء سابق من جنسية أو تقليد، وثانيها: منع الإكراه على عقيدة معينة، فلا يُكره بتهديدٍ من قتل أو نحوه، وثالثها: العمل على مقتضى ما يعتقد ويتدين به» (محمد أبو زهرة، تنظيم الإسلام للمجتمع، دار الفكر العربي، القاهرة، ص: 182).
وإذا كانت الحرية بشكل عام منحة إلهية أوجدها الله تعالى مع خلق الإنسان، فَلِحرية العقيدة بشكل خاص مكانة كبيرة وقيمة عالية، بل إن الإسلام لا يقف عند إقرار هذه الحرية فحسب، بل يدعو إلى التسامح الإنساني بشكل عام بغض النظر عن الدين أو المعتقد، يقول سيد قطب رحمه الله مفسرا قوله تعالى: «ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء»… «ومن هنا نَطَّلِع على بعض الآفاق السامية السمحة الوضيئة التي يرفع الإسلام قلوب المسلمين إليها ويُرَوِّضُهم عليها، إن الإسلام لا يقرر مبدأ الحرية الدينية وحده، ولا ينهى عن الإكراه على الدين فحسب، إنما يقرر ما هو أبعد من ذلك كله، يقرر السماحة الإنسانية المستمدة من توجيه الله سبحانه، يقرر حق المحتاجين جميعا في أن ينالوا العون والمساعدة دون نظر إلى عقيدتهم، ويقرر أن ثواب المعطين محفوظ عند الله على كل حال، ما دام الإنفاق ابتغاء وجه الله، وهي وثبة بالبشرية لا ينهض بها إلا الإسلام، ولا يعرفها على حقيقتها إلا أهل الإسلام، «وما تنفقوا من خير فلأنفسكم» (سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، 1/315). ولقد قرر القرآن الكريم بوضوح تام لا يحتمل التأويل أن حرية اختيار الدين مكفولة للبشر، فقال سبحانه وتعالى: «لا إكراه في الدين» (البقرة: 256)، وقال عز من قائل: «فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر» (الكهف: 29)، وقال: «أَفَأَنْتَ تُكره الناس حتى يكونوا مومنين» (يونس: 99)، وقال: «لستَ عليهم بمصيطر» (الغاشية: 22)، وقال عز وجل: «وما أنت عليهم بجبار» (ق: 45)، وقال سبحانه: «وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل» (الأنعام: 107)، ، وقال: «إن أنت إلا نذير» (فاطر: 23)، وقال نوح عليه السلام لقومه: «أرأيتم إن كنت على بينه من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أَنُلْزِمُكُمُوهَا وأنتم لها كارهون» (هود: 28)… إلخ. فهذه الآيات وغيرها تنص صراحة على أن الأنبياء لم يُرْسَلوا لكي يلزموا الناس بتعاليم دينهم، أو يُكْرِهُوهُم على شيء لا يعتقدون صحته، لأن ذلك مناقض لفلسفة الامتحان والابتلاء والحرية التي هي شرط لازم لبناء التكاليف وقبول الالتزامات وترتب الأحكام الدينية والدنيوية.
وتنفيذا لتلك الأوامر الإلهية نجد الرسول صلى الله عليه وسلم أقر حرية العقيدة في أول دستور بالمدينة المنورة التي كانت متنوعة الأديان والأعراق، فبدأ في تنظيم العلاقة مع الآخر اليهودي والوثني، ووضع لتحقيق ذلك دستورا سماه «الصحيفة» (تعد الصحيفة/دستور المدينة أول دستور مكتوب يحدد علاقات المسلمين ببعضهم وعلاقاتهم بغيرهم)، وكان من أبرز بنودها: «… وأَنَّ يهود بني عوف أمة مع المومنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مَوَاليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ (يهلك) إلا نفسه وأهل بيته… وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم… وأن النصر للمظلوم… وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة (أي أن المدينة أصبحت بموجب هذه الوثيقة حرما آمنا يتعايش فيه الجميع دون استثناء مسلمين ويهود ووثنيين)…».
بهذا الوضوح إذن في التعامل مع الآخر المخالف أقرت وثيقة المدينة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنا حرية العقيدة، وحرية الرأي، وحرمة المدينة لجميع مكوناتها، كما نقلت أهل المدينة من أجواء الحقد، والعنصرية، والعصبية القبلية إلى أجواء الاحترام المتبادل، والتسامح الديني، والتعايش السلمي، والتعاون، والمساواة بين أبناء الوطن الواحد، وذلك حتى مع الوثنيين.