جذور الجنون.. فتح علمي جديد في فهم مرض الفصام
حين اتصلت بي زوجة صديق لي قائلة إنها مريضة جدا، لم يخطر في بالي قط أن تكون في حالة انهيار نفسي. قالت لقد اتصلت بزوجي عبثا. ظننت في البدء أنها نزلة معوية لأنها كانت تشرب من علبة حليب في يدها، وفي الإسعاف فحصها الطبيب فلم يستدع ما يوجب عليه إدخالها المشفى بصورة مستعجلة. لم يخطر في باله قط إلا أنها نزلة معوية لا أكثر. وصف لها بعض الأدوية وأعادها إلى البيت واتصلنا بالزوج لنخبره بما حصل. لم تمض تلك الليلة على خير كما يقال بل رسا مصيرها في مصحة الأمراض النفسية تحت تشخيص غامض يسمونه الفصام.
أتذكر الواقعة جيدا ميدانيا، أما الزلزال الذي عاصرته فكان حين أخذنا أستاذنا في كلية الطب إلى القصير خارج دمشق حيث مشفى الأمراض العقلية. هناك رأيت حالات تركت آثارها في ذاكرتي كأنها البارحة. والمشهد الأول كان لرجل عسكري مصاب بالبارانويا (داء الزوّر) قال: لم أرد قتله خيانة بل واجهته وأرديته قتيلا.
كان يتحدث عن عسكري آخر شك أنه يتآمر عليه. قال الأستاذ يشرح: هي حالة تصيب البعض فيظن كل اثنين يتكلمان أن حديثهما هو ضده بلون من التآمر والكيد.
قال لي الطبيب النفساني (شريف) إن بعضهم يتسلح خفية للمواجهة ويطلق النار، لا يستبعد أيضا أن يكون بعض من أفراد داعش من هذا النموذج العصابي.
أذكر بعضا من هذه الذكريات لأن مرض الفصام (الشيزوفرينيا) يعتبر غابة صعبة الولوج للتشخيص والفهم، فضلا عن العلاج. ولكن أمثال هذه السدود يمكن أن تخرق بجهود علماء صابرين. هذا ما جاء في مقالة نشرتها مجلة دير شبيجل الألمانية (5/2016) صفحة 122 بعنوان (جذور الجنون) عن بحث نشره رئيس فريق علمي هو (ستيفن مك كارول) والسيدة (بيث ستيفنسن) في مجلة الطبيعة العلمية في يناير من عام 2016م من معهد ستانلي للأبحاث النفسية (Stanley Center for Psychiatric Research) في مدينة بوسطن.
هذه المقالة فتحت الطريق إلى فهم جديد لمرض الفصام (الشيزوفرينيا) فقد كان الطريق لربط هذه المرض بالمورثات الجينية أقرب للمستحيل، حتى فك السحر رئيس الفريق العلمي في معهد ستانلي.
وقصة هذا المعهد تعود إلى الشاب الجامعي (جوناثان ستانلي) الذي شرد لعدة أيام في نيويورك بدون طعام وشراب ومال، حتى آوى إلى متجر صغير، وهناك فقد عقله نهائيا حين خلع ملابسه بالكامل، وبدأ يدور بين الناس عريانا يضحك ويتكلم مع نفسه.
اتصل صاحب المحل بالشرطة فألقت القبض عليه لتكتشف أن هذا الشاب يعود إلى عائلة مرموقة فأبوه (تيد ستانلي) الملياردير المعروف. حين رجع الشاب إلى أبيه عانقه بحنان وأقسم أن يوجد حلا لمرض ابنه.
كان الأب يردد بدون ملل: كيف أصبح ابني بهذه الحالة؟ كيف يمارس (التليباثي) فيتكلم مع آخرين ـ بزعمه ـ عن بعد؟ أو أن جهاز المخابرات المركزية يتعقبه لمعرفته بأسرار خطيرة؟
قام الوالد بخطوة نادرة في تاريخ العلم فكرس مبلغ 825 مليون دولار للبحث في ظاهرة الفصام وأسبابه والبحث في علة ولده بالدرجة الأولى.
في الواقع إن أمثال هذه الهبات المالية نادرا ما تحصل ومن شخص بعينه، وهذا الذي قاد حاليا إلى خرق معرفي هام في معرفة سر المرض، ومن بوابة الجينات.
أول شيء فعله رئيس الفريق العلمي في معهد ستانلي هو فصل المرض عن قواعد ميندل في الوراثة. قال إن هذا المرض لن يخضع لقانون المورثات المسيطرة والمتنحية، ولكنه أكبر من ذلك بكثير. الأمر الثاني يجب الدخول إلى خارطة الجينات لمعرفة أين يضرب الدماغ وكيف؟
حسب المعلومات الطبية فالتكهنات أكثر من رمال صحراء كالهاري في بوتسوانا. توكسوبلاسموز؟ فيروس هربس؟ فيروس بورنا؟؟ أما الجينات فالأبحاث التي أجريت هي من القلة بحيث لم تصل لشيء ذي بال؟
قال ستيفن مك كارول (Steven Mc Carroll) إذا كان البحث يتطلب المزيد من الدراسات الجينية فلنذهب باتجاه سحر الأرقام؟ كيف؟ إذا لم نعثر على أثر المرض في مائة شخص فلنضاعف الرقم إلى ألف بل مائة ألف؟ وهكذا وبفضل ملايين ستانلي في البحث فقد طبقوا هذه الطريقة الجبارة على مائة وخمسين ألف شخص في دراسة نظام الجينات عندهم، منهم 37 ألفا شخص عندهم الفصام، وهكذا ومن خلال بحث دؤوب ولسنوات أمكن بعد موت صاحب المشروع بثلاثة أسابيع (مات رب المشروع ومؤسس المعهد تيد ستانلي في 4 يناير من عام 2016م عن عمر 84 عاما). ومن خلال دراسات المورثات المقارنة كانت المفاجأة أكبر من التوقع حيث عثروا وبمقارنة الجينوم السليم منه عند أصحاب الفصام أن هناك حوالي 108 أمكنة تعاني من خلل في بنائها. وهذه المناطق المائة تتوضع بشكل خاص في الكروموسوم السادس. هذه المنطقة المكتشفة والمسؤولة على ما يبدو عن خلل الدماغ عند مرضى الفصام تتوضع في مكان معروف جدا لعلماء الجينات: إنه المكان المفضل لجينات الجهاز المناعي.
ومن لب هذه المنطقة عثروا على بروتين خاص أعطي اسم سي أربعة (C4) يقوم بوظيفة مهمة للغاية في لعبة الجهاز المناعي: يطلق عليه كلمة (افترس) كيف؟ قال العلماء إنه يحرض الخلايا البالعة في الجهاز المناعي على الانتباه إلى الخلايا المشوهة الضارة (شبيحة الجسم) فيهاجمها الجهاز المناعي بخلايا اسمها البالعات، وهي جند رائعة من الكريات البيض تطوق الخلايا المشبوهة مثل أذرع الأخطبوط فلا تزال في عصرها وفتكها حتى تتخلص منها فترميها خارج الجسم.
حسنا ولكن ما علاقة هذه بمرض الفصام والأخير في الدماغ؟ فأين يضرب الجهاز المناعي منكوسا في الدماغ، وهو المخصص للحماية؟ هذا ما كشفت عنه سيدة دؤوبة أيضا من جامعة بوسطن من قسم طب الأطفال والأبحاث العصبية (بيث ستيفنسن) حيث عثرت على وظيفة جديدة يقوم بها البروتين سي الرباعي (C4) ولكن كيف؟
قالت في البحث الذي نشرته مع مك كارول إنه، أي هذا البروتين يحرض الخلايا البالعة هنا أيضا تحت قانون (افترس) فيهاجم الخلايا العصبية وفي المكان الحساس جدا المعروف بالسنابس (Synapse) نهايات الخلايا العصبية.
هنا علينا فهم ماذا تعني هذه الاستطالات العصبية؟ إن تركيب الخلايا العصبية (النورونات) ليس مثل بقية خلايا الجسم. فكل خلية تشبه النجم بأشعة من استطالات وأذرع تسمى الأكسونات وفي نهاية كل استطالة تبرز قدم تشبه قدم القط تلتصق مع الخلية المجاورة وتتفاهم كيماويا بحوالي أربعين حرفا من لغة كيماوية معقدة (للمقارنة اللغة العربية مكونة من 28 حرفا).
كذلك علينا أن نعرف أن عدد النورنات في رأس كل واحد منا من ذكر وأنثى هو مائة مليار خلية (بطارية) مثل الشجرة بما لا يقل عن عشرة آلاف ارتباط مع بقية الخلايا فهذه هي روعة الدماغ. قال السيد رصاص في كتابه عن الدماغ الإنساني إنه أكبر من كل جزيئات الكون البالغة عشرة قوة 83. في الدماغ يوجد أكثر من الجوجل (صاحب مشروع الجوجل سماه من هذه الفكرة) أي عشرة قوة مائة، وهي أكثر من كل جزيئات الوجود؛ فهذه هي قوة الدماغ.
الآن البروتين (سي الرباعي) حين يضرب النهايات العصبية الاستطالات أو ما سميناها السينابس فهو عمليا يحرق الدماغ بقطع اتصالاته، فيتفكك الدماغ ويقصر عن تفهم الأشياء مترابطة، وهو ما يسمى الوعي الإنساني، وهذا هو الجنون حين يقول تغذيت البارحة في المريخ. يقول عالم الاجتماع العراقي: الجنون هو الانفكاك عن الواقع والتصريح بذلك. فالغذاء عادي، والمريخ موجود، ولكن أن يوجد أحدنا على ظهر المريخ يتناول وجبته فهذا هو الجنون.
أكثر من ذلك كما يقول رائد البحث مك كارول إن الرحلة التطورية للدماغ تسم المرض أيضا؛ فالتطور يبدأ من الفص القفوي الخلفي قبل أن ينضج في الفصوص الصدغية والجبهية الأمامية حيث الشخصية والسلوك والمشاعر والحكمة. ومنه أيضا لاحظوا ضمور القشرة المخية في الأمكنة المذكورة.
ومنه ومنذ المراهقة حيث لم تكتمل عملية الإنضاج يبدأ المراهق في سماع هلوسات من أصوات عجائبية فيظنها حقيقة؛ وتبدأ عملية الانخلاع من الواقع. ومع هذا الكشف الجديد في علاقة المرض مع الجينات وتحديدا عند تخوم الكروموسوم السادس حيث البروتين سي الرباعي؛ فقد تفتحت شهوة شركات الأدوية من بفايزر وسنوفي ومرك ونوفارتيس، فكما ضربت بفايزر ضربتها في الكشف عن الفياجرا فحصدت مليارات الدولارات في حل أعظم مشكلة يعاني منها الرجال منذ أيام حمورابي في ضعف الانتصاب مما أعاد الشباب لشيوخ يجرون أقدامهم فيتمتعوا بلذة افتقدوها منذ سنين طوال، كذلك الحال في مرض الفصام الذي تحاول شركات الدواء عبثا الانفكاك منه.