تفسير سورة الفاتحة
د. عبد الجليل العبادلة
فاتحة الكتاب الكريم هي رأس القرآن وعموده وجوهر كنزه المصون وروح أمره المكنون الذي قام في الصدور آيات بينات تُجلي مظاهر عظمة الذات وجلال قدس الإرادة بالرحمة لكل الكائنات. وإذا ما أردنا أن نكشف عن الموضوع الذي تناولته وتدور حوله فهو أعم الموضوعات وأشملها ويمكن القول بأنه الفتح الرباني والمدد الرحماني الجامع لكل ما به يتحقق الكمال الإنساني وهي بهذا تكون أم القرآن وأم الكتاب الجامعة لأنواره وأسراره الكاشفة عن حقائق آياته البينات.
نلمح هذا أولا من حيث عديد الأسماء والصفات ومعلوم أن أسماء السور كلها توقيتية لا مجال للرأي والاجتهاد فيها وإنما تعدد الأسماء للمسمى الواحد، فلأجل خواصه وأوصافه التي انفرد بها وتميز عما سواه، فإذا كان الاسم الواحد يكشف عن مزية من مزاياه فإنه يحتاج إلى أكثر من اسم لتتضح هذه المزايا والخصائص التي انفرد بها والبادية في مظاهر إبداعه وحكمته في صنعه وفنه، فقد سميت بالفاتحة وبسورة الكنز لأنها نزلت من كنز تحت العرش كما ورد، وبسورة الصلاة لما ورد أن اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: «الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ» قَالَ: «هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ». كما سميت بسورة الرقية والشفاء والشافية، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك فقالوا هل معكم من دواء أو راق؟ فقالوا إنكم لم تقرونا ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا لهم قطيعا من الشاء فجعل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ فأتوا بالشاء فقالوا لا نأخذه حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه فضحك وقال: وما أدراك أنها رقية خذوها واضربوا لي بسهم. كما سميت بالكافية لأنها تكفي عما سواها ولا يكفي عنها ما عداها.
هذا من وجهٍ، أما الأمر الثاني فهو ما تضمنته من بيان المنهج والثمار المترتبة عليه، ومن هنا كانت أم القرآن وأم الكتاب لأن الناظر المتدبر في مجمل آيات الكتاب الكريم يجدها أولاً مبينة للمنهج العملي الذي شرعه الله لعباده من خلال الأوامر والنواهي والتكاليف، وما أرشدهم إليه من الفضائل ومكارم الأخلاق والآداب وأوصاهم به من عمل الخير والمعروف، ونهاهم عنه من المنكر والسوء. والقسم الثاني الكشف عن الثمرات المترتبة عن الالتزام بالمنهج، فالأول متمثل بالكشف عن هذا الصراط المستقيم الموصل إلى ثمرات النعيم بكل ما تشمله النعم من طيبات الحياة الدنيا وزينتها والأمن والطمأنينة والسلامة، فضلا عن النعم الأخروية التي أنعم بها على عباده من النبيين والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين. أما بيان حقيقة الصراط المستقيم القائم على هداية رب العالمين فهو جليٌ وواضحٌ في سائر آياتها وكلماتها التي هي من أعظم جوامع الكلم ويتجلى هذا الأمر بوضوح تام في قول الله سبحانه «اهدنا الصراط المستقيم»، وبيان الثمرات بما أتبعه من قوله «صراط الذين أنعمت عليهم» وهذه النعم هي الشائعة في القرآن الكريم في سوره وآياته بما لا تتسع له المؤلفات. فكانت حقاً هي الفاتحة لأبواب العناية الربانية تربية وتسوية وتعليما ومعرفة كما أنها باب الفيوضات الرحمانية بكل ما حمله اسم الرحمن من أسرار وأنوار، ذي العزة والجلال حين يستوي على عرش قلب الإنسان، وباستوائه ينشر من مشكاته علم البيان لكل ما حواه القرآن كما أخبر سبحانه في قوله «الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان» فالرحمن هو المعلم للقرآن لا سواه وكل علم خارج إطار فيضه ومدده فهو محض ظنٍ ووهمٍ، لا يجوز أن يفسر به القرآن ولا أن يدّعي أحد أنه مراد الله من كلامه لأن التفسير إنما هو الوقوف على مراد الله، وإذا كان مراد الله قائماً في نفس الله لا يعلمه أحد من البشر إلا بما يعلّمه الله ويفهمه إياه كما أخبر على لسان عيسى عليه السلام: ”تعلم ما نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب “، لذلك جعل الله الذين اصطفاهم لإرث الكتاب هم وحدهم المعوّل عليهم في الكشف عن كل ما أشكل فهمه على عقول بني الإنسان كما أخبر سبحانه «إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا».
وإذ تبين لنا موضوع السورة صار لازما علينا أن نجلي هذه الحقيقة كشفا عن المنهج، منهج الاستقامة بأجلى صوره الموصل إلى أقصى الأماني، فيما بلغه المقربون من العلوم والمعارف الربانية والدرجات والمقامات السنية، نسأل الله تعالى أن يلحقنا بركبهم ويدخلنا في كنف معيتهم وإلى اللقاء في حلقة أخرى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.