تشاؤون وتشاء أمريكا
راتب شعبو
يحتدم النقاش بين السوريين اليوم حيال القانون الأمريكي المسمى «قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين». يبدو للوهلة الأولى أن من الممكن تنظيم النقاش بشأنه في صفوف المعارضين لنظام الأسد، من خلال السؤال: هل يساعد قانون قيصر في تخليص سوريا من نظام الأسد، أي هل يقود إلى حل سياسي يفك عقدة الاستبداد، ويرسي آلية مطردة وسلمية لإنتاج الشرعية السياسية ونزعها؟ غير أن القليل من التمعن يكشف أن تنظيم النقاش في هذا السؤال غير ممكن، لأنه يغفل حقيقة أن المعارضين لنظام الأسد اليوم لا يحملون معنى مشتركا لمفهوم «الحل السياسي» في سوريا، فضلا عن أن «المعارض» الخارجي الأساس للنظام، نقصد بذلك البلد الذي أصدر القانون وله القدرة على تنفيذه، له نظرته الخاصة أيضا لمعنى الحل السياسي في سوريا.
لا تتضمن النظرة الأمريكية للحل السياسي في سوريا تغيير نظام الأسد، بقدر ما يعني ذلك تغيير العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وترسيخ معايير ديمقراطية في إدارة البلد. لا يتضح هذا فقط من تصريحات المسؤول الأمريكي المعني، جيمس جيفري، بل من نص قانون قيصر الذي يدخل في تناقض مع نفسه جراء ذلك، فهو يطالب «الحكومة السورية» بمعاقبة مجرمي «النظام السوري»: «قيام الحكومة السورية باتخاذ خطوات قابلة للتحقق لإجراء محاسبة هادفة لمرتكبي جرائم الحرب في سوريا، ولإنصاف ضحايا جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد».
إذا تأملنا اللوحة السورية حيال القانون المذكور، نجد أن لدينا مجموعات سياسية معارضة مختلفة الغايات، لا يوحدها السعي إلى إسقاط نظام الأسد، ولا يقل عداؤها المتبادل عن عدائها للنظام. وقد يزيد. ومن هذه المجموعات من يعادي الديمقراطية أكثر من عدائه النظام. كل من هذه المجموعات تتصور أن قانون قيصر هو وسيلة لتحقيق غايتها، وفي الوقت نفسه، لا تمتلك أي منها أدنى قدرة على التحكم بهذا القانون.
لنفترض أن المعارضين السوريين من أنصار الحل الإسلامي علموا أن قانون قيصر أداة لإزاحة الأسد وفرض نظام ديمقراطي بمعايير غربية، فإنهم سيقفون ضده. ولو علم أنصار الإدارة الذاتية بشمال شرق سوريا، أن الحل السياسي الذي يراد فرضه عبر هذا القانون، ينتهي إلى تفكيك الإدارة الذاتية لرفضوه، ولو علم المعارضون الديمقراطيون لنظام الأسد، أن الحل السياسي الذي يتوسل قانون قيصر لا يزيد شيئا عن بقاء نظام الأسد، ولكن بدون إيران، أو بوجود أقل لإيران، لعارضوه. قانون قيصر ليس سوى وسيلة ضغط عامة، لا يتضمن بوضوح الوجهة السياسية التي يدفع باتجاهها، فهو يجيز للرئيس أن يعلق العقوبات كليا أو جزئيا، إذا رأى أن هناك معايير قد استوفيت. وهذه المعايير (على أهميتها) جزئية، ولا تنطوي على أي اتجاه إلى تغيير سياسي ديمقراطي.
السؤال الوحيد الذي يمكن أن يفيد النقاش بشأن القانون المذكور هو: ماذا تريد منه أمريكا صاحبة القانون، والقادرة على تنفيذه وتجميده، والتي تحشو القانون بعبارة «الأمن الوطني للولايات المتحدة»؟
لا خلاف على أن قانون قيصر وسيلة ضغط على نظام الأسد وحلفائه، ولكن لأي غاية؟ والواضح أنها تعكس واقعا ميدانيا تغيرت معالمه اليوم: عدم قصف المدنيين، فك العزلة عن المناطق المحاصرة (ما هي هذه المناطق بعد دخول النظام الغوطة الشرقية؟)، إطلاق سراح السجناء السياسيين، عدم استهداف المرافق الطبية والمدارس والأماكن السكنية (بعد أن ضرب من ضرب وهرب من هرب؟)، محاسبة مجرمي الحرب (من سيحاسبهم؟).
لا يشك أحد في أن فرض هذه البنود التي تلامس قلوب غالبية السوريين، لا يحتاج إلى سن قانون تطلب سنوات من الجهود والمحاولات المتكررة. لم يحتج إخراج القوات السورية من لبنان إلا إلى كلام أمريكي واضح وحازم، جعل القوات السورية تخرج قبل نهاية الموعد المحدد لخروجها.
الخراب الاقتصادي السوري ناجم عن سنوات من الفساد وغلبة ذهنية الطغمة المالية والعسكرية والسياسية على ذهنية الدولة. وقد تفاقم هذا الخراب مع تجيير نظام الأسد كل مقدرات البلاد والدولة، لمنع التغيير السياسي الذي أراده السوريون، حتى أوصل أكثر من 80 في المائة من السوريين إلى ما تحت خط الفقر. الحصار الذي سيفرضه قانون قيصر، سيضيف مزيدا من البؤس إلى بؤس السوريين. ومن المتوقع أن يحاول النظام السوري الاستثمار في الألم الإضافي الذي سيتكبده السوريون في الداخل، ليحمل الضغوط الخارجية سبب تجويع السوريين وبؤسهم، في مسعى إلى جعل البعد الإنساني يتقدم ليغطي البعد السياسي للقضية السورية.
الراجح أن الضغط الذي يشكله قانون قيصر سيكون بوابة الدخول إلى «الحل السياسي» الأمريكي، وهو ترسيم الوضع السياسي القائم، أي فرضه على الحلف الثلاثي (روسيا، إيران والأسد). ثلاث مناطق نفوذ (الجزيرة تحت سيطرة كردية أمريكية، إدلب تحت سيطرة إسلامية تركية، دمشق تحت سيطرة أسدية روسية)، ربما مع إدخال تعديلات شكلية في نظام الأسد تستوعب وجود منطقتين سوريتين بوضع خاص. وسيتضمن هذا «الحل»، إذا صح، «عقلنة» دور إيران وتحجيم وجودها في سوريا.