شوف تشوف

الرأي

تركيا.. روسيا والناتو

خالد فتحي

 

ليس من بلد محرج كتركيا في الأزمة الروسية الأوكرانية. فهي دولة مجاورة للبلدين معا، ولها علاقات اقتصادية وديبلوماسية متميزة معهما، ثم هي العضو المثير للجدل من جهة أخرى في حلف الناتو، الذي يسمح له «العم سام» بأن يغازل موسكو، بل ربما يعظم هذا السماح، لحد غض الطرف عن اقتراب هذا الغزل إلى ما يشبه العلاقة الحميمية بينهما، كما جرى حين اشترت أنقرة منظومة صواريخ «إس- 400» الروسية الصنع، في جرأة غير مسبوقة على تحدي دونالد ترامب، مستغلة الود غير الخفي الذي كان يجمع بين هذا الرئيس الأمريكي المتهور، الذي فضل أن يركز على الصين والرئيس فلاديمير بوتين .

هناك نقاط تعاطف كبيرة تجمع أردوغان ببوتين، أهمها أنهما زعيمان لدولتين شرقيتين، ووريثان لإمبراطوريتين عظيمتين تحاولان الانبعاث من جديد، وكلاهما يعتقد أنه مكلف برسالة، ويتشابهان أيضا بتبني أفكار محافظة في الثقافة، والمجتمع، ودور الدين والمرأة، وشكل الأسرة. كما كانت لهما المعاناة نفسها في التقرب إلى الغرب الذي يرفضهما بشكل قاطع، فتركيا غير مقبولة داخل الاتحاد الأوروبي رغم بلائها ضمن حلف الناتو، كونها دولة مسلمة لا تنهل من نفس المشرب الحضاري للغرب، فيما يعترف المحللون السياسيون النزهاء بأوروبا الآن، وبعدما وقعت الكارثة، بأن الغرب ارتكب عددا من الأخطاء بحق موسكو، وحرم روسيا من فرصة الانضمام إليه، كونه يشك في ديمقراطيتها وليبراليتها، ويمتعض من معارضتها المعلنة لمفهومه المنفتح لحقوق الإنسان، ومن هذه المسيحية الأرثوذكسية التي تتباهى بها عليه، ويجعلها تحسب نفسها روما الثالثة .

في كل من قلب أردوغان وبوتين شيء من هذا الغرب السخي مع الأخريات من ضعاف الدول، الحذر جدا من الدول ذات التاريخ التليد العريق، حين يعد دولة صغيرة كجورجيا بعضوية الناتو، ودولة توجد تحت ضرس الدب الروسي كأوكرانيا بعضوية الاتحاد الأوروبي، وفوق ذلك يتجند لتحقيق أمنيتها في أقرب الآجال.

هناك أيضا مصالح تزيد في ترصيد هذا التعاطف وترسيخ هذا التخاطر بين الرئيسين، تركيا تحتاج أكثر من عديد الدول الأوروبية إلى جلب الطاقة من روسيا، كما أنها لا تستغني عن السياح الروس. روسيا وتركيا هما في الحقيقة ذئب ودب تدربا كيف يوزعان الفرائس بينهما، وكيف يجوبان ويجوسان في الغابة نفسها دون أن يتهارشا أو يتعاركا، لقد فعلا ذلك في سوريا، وفي ليبيا، وبلاد القوقاز، وفي البحار التي يمخران عبابها. فهل يتركان أوكرانيا تفسد عليهما كل هذا التواطؤ الاستراتيجي، وتعصف بكل هذا الذي يغنمانه هنا وهناك؟

المؤكد أن تركيا وروسيا تعرفان تمام المعرفة حدود الخصومة والتماس والاشتباك بينهما، وكلتاهما تقدر ظروف الأخرى، وتتفهمها وتتمنى لها الخلاص، كلتاهما تدري إكراهات الأخرى وتتصرف على أساسها، لأنهما قدمتا من الطينة نفسها، ولهما الطموحات والأهداف ذاتها: التوسع والتمدد، وإحياء حكم السلطان والخليفة بأنقرة، وحكم القيصر بموسكو.

لتركيا أيضا فائدة عظمى من أوكرانيا التي شكلت لها دولة عازلة تحميها من الاحتكاك المباشر مع القوة العسكرية الروسية، كما أنها تبيعها طائراتها المسيرة «بيرقدار»، التي تفيدها اليوم في صد الهجوم الروسي، فيما تعتبر تركيا هذه الطائرات صفقة تجارية سابقة على الحرب ليس إلا.

إنه لمن حسن طالع تركيا أردوغان، البراغماتية حتى النخاع، أن ملابسات الحرب تخدمها لأجل أن لا تكون معادية بوضوح لروسيا، وفي أن تحافظ على سياسة التوازن التي تنهجها تجاه الغريمين، فهي لم تصل إلى حد الأزمة في تدبيرها لموقفها من هذه الأزمة التي تصادم روسيا بحلف الناتو إلى اليوم. وما زال أمامها هامش كبير للمناورة، بحكم أن حلف الناتو بدوره يردد إلى الآن أنه لن يدخل الحرب بشكل مباشر ضد الجيش الروسي، ولن يدافع عن أوكرانيا، لأنه ليس مضطرا إلى ذلك، ما دامت هاته الأخيرة لم تنتزع العضوية ولا ينطبق عليها البند الخامس الشهير. هذا السلوك يبيح لتركيا أن تنسج على منواله، وأن لا تتشدد في عداوة موسكو، وقد سمح لها بالخصوص بأن تعرض وساطتها وهي مستوثقة إلى أن الجانبين سيستجيبان لها، فأوكرانيا تريد أن تستقطب تركيا لصفها، وروسيا لا تريد أن تمنحها مسوغا أو مبررا للتشدد ضدها، تلبية لطلبات الناتو.

اجتماع أنطاليا بين وزيري الخارجية الروسي والأوكراني لم يكن وساطة، وإنما كان مجرد جولة بين الأشقاء الأعداء، كان الهدف منها كسب الجانب التركي، بينما كانت تركيا العارفة بأن لا حظوظ لنجاح وساطتها، ترسخ فقط حيادها، حفاظا على مستقبل العلاقات الاقتصادية. كانت فقط تقرض البلدين معا مواقف ستجني أرباحها لاحقا، إذ يستحيل أن يضع تاجر البازار التركي كل بيضه في سلة الغرب، ولذلك ستقاوم تركيا ضغوط الغرب، ولسوف تتصنع مجاراته، وفي النهاية لن تطبق إلا وصية أردوغان لديبلوماسيته: لا تفرطوا، لا في موسكو، ولا في كييف، ولا تساوموا على المصالح التركية.

نافذة:

من حسن طالع تركيا أردوغان البراغماتية حتى النخاع أن ملابسات الحرب تخدمها لأجل أن لا تكون معادية بوضوح لروسيا وفي أن تحافظ على سياسة التوازن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى