بيار عقيقي
لم يكن خطاب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي أعلن في ختامه اعتراف بلاده باستقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك عن أوكرانيا، عاديا. تحدث الرجل كما لم يفعل سابقا، حتى أن خطاب إعلانه ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية في عام 2014 لم يتضمن تفاصيل «تاريخية»، مثلما فعل مع أوكرانيا أخيرا. لخص بوتين، في كلمته، عمليا سر وجوده في الكرملين منذ عام 2000، عنصرا وفيا لعقيدة سوفياتية بعناوين روسية. ولم يكن غريبا تطرقه في خطابه إلى أفعال الزعيمين السوفياتيين، فلاديمير لينين وجوزيف ستالين، لتبرير حقيقة «وجود» أوكرانيا من عدمه، معتبرا أنها جزء من روسيا «الطبيعية». استعان بوتين بالتاريخ لتبرير الحركية الجغرافية، عبر غزو جيشه جارته الغربية، في سياق مبدأ «مواجهة الأمريكيين». وهذا التاريخ يشكل نقطة انطلاق للرئيس الروسي في أي حراك مستقبلي، قد يطاول دولا سوفياتية سابقة، عكس ما يوحي. إقليم السوديت في تشيكوسلوفاكيا السابقة، الذي ضمته ألمانيا النازية عام 1938، شاهد على ذلك. وفي وصفه حكام كييف بـ«النازيين»، أعاد بوتين التذكير بفكرة راسخة في عقل الروس، الذين يعدون ألمانيا النازية عدوهم التاريخي الأكبر، ودفعوا أثمانا باهظة لتحرير بلادهم منها. بعدها، باشر غزوا كان متوقعا منذ فترة طويلة، معتبرا أن «لا بديل عنه لحماية روسيا».
ما الذي تعنيه الاستعانة بالتاريخ عموما؟ عادة، من يستعين به لإسباغ المشروعية على عمل ما يهدف، بالدرجة الأولى، إلى إزالة الشعور بالذنب الذي يرافق هذا العمل. يعلم بوتين أنه أخطأ، إذ تكفي إشارته، في اليومين التاليين لخطابه، إلى «حق الدول السوفياتية السابقة بالاستقلال، لكن أوكرانيا هي استثناء»، فضلا عن أنه تحدث مرارا عن الأمريكيين الذين باتوا على عتبة بابه. طبعا، يثير تمدد حلف شمال الأطلسي مخاوف روسيا. في المقابل، «يمكن» لبوتين الإشارة إلى هذا التمدد، من أجل تكريس توجه النظام الروسي إلى مسار أكثر حدة ضد المعارضين في الداخل، في ظل تدهور اقتصادي غير مسبوق.
ليس التاريخ مقدسا، وثباته متأت من حركيته، على قاعدة أن الجمود في مساره يؤدي إلى موته، ونشوء فراغات ستملؤها أطراف قوية. وفي حالة ما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي في عام 1991، أدت هذه الفراغات إلى استقلال 15 دولة عنه. كما أن التاريخ ليس «سوى وجهة نظر»، إذا ما كُتِبَ بأقلام المنتصرين، الذين في وسعهم توظيف آلاف المؤرخين لترسيخ أحقيتهم بأراض وشعوب، وطمس حقائق معاكسة لنواياهم. الآن، كيف يمكن تجاوز جمود التاريخ وعدم إفساح المجال أمام نزاعات مستقبلية تراق فيها الدماء، في ظل التمسك بمبدأ «حق الشعوب في تقرير مصيرها»؟ يبدأ كل شيء بالفرد ثم المجتمع، فإذا أرادت مجموعة ما نيل الاستقلال عن بلد ما، لأسباب غير متعلقة بتدخلات خارجية، يمكن فعل ذلك بحوار مع الحكم المركزي وإجراء استفتاء شعبي لهذا الغرض، أو أقله الاتفاق على حكم ذاتي في سياق بلد فيدرالي. أما غير ذلك، فإن الحروب ستتناسل، وستؤدي إلى مزيد من التفكك المجتمعي والإنساني، ناهيك عن لجم التطور الفكري بناء على أدوات تفكير منطقية حسب ما يُفترض، والافتراض غير حتمي، طالما يجري استغلال تلك الأدوات وتحريفها، أن يقرب الشعوب من بعضها بعضا على قاعدة «حق الإنسان أولا»، لا «حق استعباد إنسان من أجل حكم آخر».