الموت الأسود (2)
خالص جلبي
بعد تفشي كارثة الطاعون في جيش نابليون على أسوار عكا (وصل بونابرت في 16 مارس 1799م إلى مدينة عكا)، وفي 20 ماي صدر الأمر بالانسحاب، ووصلوا إلى يافا مهزومين أمام عدو لا يرى في 24 منه؛ فكانت المستشفيات فيها تغص بالمرضى، حيث كانت الحمى الوبيلة تحصدهم حصدا، فعادهم القائد الأكبر متفقدا أحوالهم، وقد بلغ التأثر منه حين شاهد ما صاروا إليه وما كانوا يشعرون به من العذاب. وشاور بونابرت أصحابه في الأمر، فقالوا له إن كثيرين منهم يطلبون الموت بإلحاح، وإن مخالطتهم للجيش تكون وخيمة التبعة عليه، وإن الحكمة والمحبة تقضيان بتعجيل وفاتهم والإجهاز عليهم، وذكر بعضهم أنهم جرعوهم شرابا عجل بموتهم)، (كتاب «تاريخ نابوليون الأول»، تأليف طنوس الحويك، الجزء الأول منشورات دار ومكتبة الهلال، ص 131- 134).
كان الجندي من حملة نابوليون يتساقط من الضعف والإعياء، وهو الشاب القوي الجلد الذي دخل مع بونابرت معارك لا تحصى، يسقط من عدو مجهول لا يراه، ولكنه يشعر أنه دخل في دمه وعظامه وتمكن منه أيما تمكن! كان يسقط وبسرعة صريعا لليدين والجنب؛ يغلي من الحرارة، في حالة هذيان من التسمم الدموي الرهيب، زائغ النظرات، متشنج الأطراف، مربد الوجه، مكفهر القسمات، يزحف إليه الموت بسرعة، ينفث قشعا مملوءا بالدم، قد تغطى جلده بآفات نمشية وكدمات حولته إلى لون قاتم مسود، ومن هنا جاء وصف الطاعون بـ(الموت الأسود)، فكأن ملك الموت جاءه يصبغه بالقار قبل قبض روحه!
هكذا مات الملايين من البشر في أبأس وأشنع موتة عرفها الإنسان، وهذا يعلمنا حكمة الحياة: إن الحياة جميلة جدا، ولكن الطبيعة تسحق الفرد بدون أن تبالي بنفس القدر من الحرص على المحافظة على النوع.
إن هناك علاقة جدلية بين التاريخ والمرض، فكما تتفشى الأمراض مع الحملات العسكرية والحروب المجنونة، فإن انتشار الأمراض يصنع التاريخ بدوره، فيقود إلى النكسات العسكرية وتوقف الحملات الحربية (كان انتشار الطاعون في أوربا سببا في توقف حرب المائة عام بين بريطانيا وفرنسا، وسببا لاعتناق بريطانيا البروتستانتية من خلال زواج الملك هنري الثامن بزوجة جديدة غير زوجته ماريا، الحولاء المصابة بالداء الفرنسي والتي لم تنجب له أولادا) على النحو الذي رأينا في حملة نابوليون بونابرت، بل يقود إلى خلخلة الإمبراطوريات وتصدع الحضارات، وهو الذي لاحظه ابن خلدون حين كتب يؤرخ لسقوط الحضارة الإسلامية، وترافقه مع انتشار الطاعون، الذي نزل في منتصف المائة الثامنة؛ فتحيف الأمم، وذهب بأهل الجيل، وجاء للدول فقلص من ظلها وأوهن سلطانها وتداعت إلى التلاشي:
جاء في المقدمة: (هذا إلى ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف، الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها، وجاء إلى الدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها؛ فقلص من ظلالها، وفل من حدها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها، وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر؛ فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن، وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة، والله وارث الأرض ومن عليها. وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة، وعالم محدث)، (المقدمة ابن خلدون، ص 33).
كان المرض المرعب يأتي بهجمات مزلزلة عبر التاريخ، ويعشش لعشرات السنوات، فيمسح مدنا بكاملها من خريطة الوجود، ثم يغيب في بطن التاريخ مرة أخرى، فلا يعرف الناس كيف جاء؟ ولا كيف ولى وانقشع ظله الرهيب؟
جاء في كتاب «قصة الحضارة» لويل ديورانت تحت عنوان الموت الأسود ما يلي: (ووباء الطاعون حدث مألوف في تاريخ العصور الوسطى، فقد أزعج أوربا 32 سنة من القرن الرابع عشر، و41 سنة من القرن الخامس عشر، و30 سنة من القرن السادس عشر. وهكذا تعاونت الطبيعة وجهل الإنسان، ولعله جاء مباشرة من الشرق الأدنى بواسطة الجرذان الشرقية التي ترسي على مارسيليا، وذهبت رواية غير محققة في ناربون إلى أن 30 ألفا ماتوا في هذا الوباء، وفي باريس 50 ألفا، وفي أوربا 25 مليونا، وربما كان المجموع (ربع سكان العالم المتحضر). وعجزت مهنة الطب أمامه فلم تكن تعلم سبب المرض، وأضعفت شدة الألم والمأساة عقول الكثيرين فأدت إلى أمراض عصبية معدية، ويبدو أن جماعات بأسرها قد جُنت مثل (الفلاجلان)، الذين ساروا عام 1349م كما فعلوا في القرن الثالث عشر في طرقات المدينة عراة أو يكادون يضربون أنفسهم في ندم. واستمع أناس بانتباه أكثر من المألوف إلى قراء الأفكار ومفسري الأحلام والعرافين والدجالين وغيرهم من المشعوذين، وضعفت العقيدة الصحيحة وانتشرت الخرافة، وأرجع حدوث الطاعون إلى أسباب عجيبة، فنسبه بعضهم إلى اتصال في غير أوانه بين زحل والمشتري والمريخ، وآخرون إلى تسميم المجذومين أو اليهود للآبار فَقُتل اليهود في حوالي خمسين مدينة)، (قصة الحضارة – ويل ديورانت ـ مجلد 22 – ترجمة عبد الحميد يونس – الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، ص 122 و123 و124). ويبقى عام 1347 م هذا المرض في الذاكرة الجماعية للتاريخ الإنساني شيئا مخيفا حقا، عندما نتصور سكان أوربا في حدود 80 إلى 100 مليون نسمة فيقضي نحبهم حوالي الثلث أو الربع، وتتصحر أوربا عمليا، بل وتعاني من إمكانية نقل التراث المعرفي إلى الأجيال القادمة، وتحتاج إلى ما يزيد عن مائتي عام كي تسترد عافيتها وعددها السكاني! (عندما فاجأ أهل لندن عام 1665م، قضى على سبعين ألفا من سكان لندن البالغ عددهم 400 ألف نسمة! عن كتاب «الأمراض الإنتانية»، تأليف مدني الخيمي ـ فصل مرض الطاعون، ويراجع في هذا أيضا كتاب «عندما تغير العالم» سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية).
ولكن من أين جاء هذا الوباء المخيف؟ كيف تولد ونشأ؟ هل من حادثة أيقظته، أو حرب أثارت حفيظته فقام يفتك بالناس؟ كيف انتشر كل هذا الانتشار في المعمورة، يحصد أرواح الناس بمنجل لا يعرف الرحمة وكأن الناس في موعد مع حصاد هذا العالم!