المعجزات في عالم السياسة
أرسلت لي الدكتورة (منال الكوثر) تقول أنه ليس أمام الشعب السوري إلا المعجزة كي يتخلص من براميل بشار الأسد. وكتبت بلطف تقول «مثلنا مثل الحشرة التي وقعت في شباك العنكبوت، كلما تحركت تريد خلاصا ازدادت التصاقا»، وهذا يذكر أيضا بـ (الرمال المتحركة) التي وقع فيها يوما (ليوبولد فايس) الذي زار المملكة يوم نشأتها، وكان يهوديا فاعتنق الإسلام وكتب كتابه الرائع (الطريق إلى مكة)، وكيف عاش فيها أسعد اللحظات، هذا قبل قدوم البترول فقد كان البترول في قسم منه فتنة وحزنا.
في القرآن الكريم يذكر البلاء على صورتين بالخير والشر (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون). بالشر قد يفهم، ولكن أن يكون الخير فتنة فهو أمر لا ينتبه له عباد الله. عفوا لعل الفقر الموجود في المغرب يهذب طباع الناس ويعلمهم التواضع أكثر، أما الغنى فيورث الاستكبار كما رأينا في أفراد في دول النفط الغنية؛ فكان البترول نقمة ولعنة في بعض جوانبه، وهو ما دفع المفكر مالك بن نبي أن يقول إن البترول أحرق الحركة الإصلاحية.
إنها فاجعة ولكن القول فيها صادم مؤلم ولكنه حق. ويستنبئونك أحق هو؟ قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين. إن الاعتراف فضيلة ولكن الحقائق دوما صادمة مؤلمة، ومن يغفل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه. تأملوا ما جاء في القرآن في آخر سورة الشورى ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير (الآية 27).
علينا أن نستوعب أنه ليس ثمة معجزات بل قوانين، منها ماعرفنا مثل تمدد المعادن بالحرارة، وموت الإنسان بتدمير بروتينات الدماغ بالبرودة والحرارة، كما سمعنا عن موت 110 أشخاص في مصر في موجة حر عام 2015م، أو الناس الذين غرقوا في مجرى تصريف صحي في المغرب.
ومنها ما جهلناه من قوانين تسيير المجتمعات، وتغيير الإنسان فيصبح فعالا بعد أن كان كلاً على مولاه، أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم؟
وحين كان يطلب جماعة قريش من نبي الرحمة (ص) أن يأتيهم بآية كان الجواب إنما أنت منذر ولكل قوم هاد، أو قل: إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب، ثم يمضي القرآن في شرح عجائب الوجود المحيطة بنا، أنها كلها آيات لمن فتح عينيه أو ألقى السمع وهو شهيد.
البارحة وأنا نائم في مدينة الجديدة المغربية، حيث الجو يذكر بالجنة لا شمسا ولا زمهريرا، في درجة حرارة لا تزيد عن عشرين أيقظني من النوم صرصار الليل! حاولت أن أبعده برش غازات شتى بدون فائدة؟ قلت له مخاطبا أنت جدير بأن تنال شهادة في الحذر والتربص.
كان الصرصار يوقف صوته بمجرد أن أنهض من فراشي، ثم يسكت حتى أمل وأعجز وأتركه؛ فيبدأ لحنه الليلي بمتعة وغرام، كيف لا وهو يسبح الله؟ كل قد علم صلاته وتسبيحه.
نحن في الواقع عميان صم بكم كما يكرر القرآن هذا المعنى في العديد من الآيات، فالكون حولنا روعة من الروعات، تتناثر فيه المعجزات لمن رأى، فكثير من الآيات نمر عليها ونحن عنها معرضون.
وفي ما يخص المعجزة في العمل السياسي وعلاقة ذلك بالكارثة السورية، كما جاء في سورة الإنعام عن ثلاث كوارث تحل بالمجتمع فإما كان من فوقهم أو من تحت أرجلهم أو (يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض؟).
إن ما فعل الشعب السوري حتى اليوم معجزة. الكثير من المغاربة لا يتصورون أن الإنسان السوري بلغ به الخوف، أنه إذا اجتمع ثلاثة في تورنتو في كندا بدأوا يتهامسون، وإذا جاء ذكر الرفيق القائد الأبدي خشعوا من الذل، وفي هذا ينصح بالاطلاع على كتاب (القوقعة) للمسيحي خليفة الذي ألقي القبض عليه في مطار دمشق، وهو قادم من باريس فمكث في السجن 13 سنة و3 أشهر و13 يوما! بسبب أنه سخر من الرفيق القائد الأبدي، ولا أبدية إلا لله الكبير المتعال. لقد وصف رحلته بما أمرضني أياما وأنا أقرأها، وكتبت عنها في مقالة مطولة نشرت في موقع إيلاف الإلكتروني لمن شاء قراءتها بالكامل؛ فهذا كان حال الشعب السوري المنكوب المنكود؛ لذا فأعظم معجزة هي كسر هذه القيود الثقيلة والأغلال التي طوق بها نصف قرن في سجن البعث الأسدي المسخوط.
كانت أخبار الفظاعات والمقاصل تنقل للفيلسوف الألماني (إيمانويل كانط) عن رؤوس تتطاير، وطبقة نبيلة تسحق بالكامل، فكان يردد: يوم استبداد واحد، أفظع من كل هذه الفظاعات. السبب أن الاستبداد هو سرطان. تصوري دكتورة منال أن الفرنسيين الذين يمثلهم منافقو دمشق هذه الأيام بمسلسل الحارة، أو المنافق الأكبر دريد اللحام الذي مثل يوما مسرحية غربة، كيف كشف اللثام عن حقيقته مع الثورة السورية (الكاشفة الفاضحة) فذهب إلى يوم الجيش يحيي الجيش الإنكشاري الطائفي البغيض، الذي كشف القناع عن وجهه، أنه لقتل الأطفال وتجويعهم في الغوطة، وقتل 1426 إنسانا بالكيماوي يوم 21 غشت 2013 م منهم 426 طفلا، وهو ما لم يفعله النازيون والفاشيون. أذكرك بكلمات (العجي) الذي ركبوه على كرسي الحكم بعشرين دقيقة من التصفيق، لينهض قرد في مجلس القرود (عفوا مجلس الشعب) فيقول أنت تصلح أن تحكم الإنسانية؟!
إنها صور بئيسة لحياة مقرفة مملة بئيسة من الحياة في سوريا، التي سلبوا منها كل حياة، فعاشت على الفقر والذل والبؤس والوسخ والفوضى والتخلف والقوادة والتسيب والرشوة والفساد والنخر والموت اليومي.
إنهم قتلوا أعظم ما في سوريا: قتلوا الإنسان. فهرب منها كل عقل وعاقل، وسلموها للصفويين الطائفيين الحاقدين المتوقفين في مربع الزمن، قبل ألف عام ويزيد، في معارك وأحقاد ونزاعات لسنا مسؤولين عنها، تتحرك كل عام بقرع الصدور بالقبضات وضرب الرؤوس بالزناجير والسلاسل والسواطير ليسيل الدم، وتتحرك غرائز الحقد والكراهية، وتتمكن المؤسسة الدينية من مسك عقول وجيوب المغفلين، مذكرة بنزاعات لسنا مسؤلين عنها، وإن كان ثمة فائدة منها؛ فهي أن نضحك على عقول أولئك وأولئك. وكيف أفلسوا أخلاقيا وعقليا؛ فتوقف الزمن عندنا، وفك الغربيون السحر؛ فأنتجوا مع الطيارة والكمبيوتر الديمقراطية وحرية الصحافة والبرلمانات الحية، وبقينا نحن نتجرع السموم الثقافية، ونرقص الأفاعي في ساحة الفنا في مراكش، أو نضرب السفود في الصدور والفك والخدود في العراق، بدعوى المعجزة والأساطير؛ فهذه هي قصة المعجزة التي عنها يبحثون، وهي ليست بمعجزة، ومعها قصة الخلاص من بشار البراميلي وأسياده في عبدان وطهران.
العمل السياسي يخضع لقوانينه في عالم الاجتماع ولكن بيننا وبين هذا الفهم قطر مجرة الأندروميديا.
سأروي لكم هذه القصة في نهاية المقالة عن تعزية جرت في جنوب لبنان حيث يقرع أتباع نصر الله صدورهم وهم يزعقون يا حسين يا رقية يا زينب جئناك. فقد اعتاد الحزب أن يرسل وفدا عنه إلى أهل القتلى ويسمون هذا مباركة لهم؛ لأن أبناءهم قتلوا فداء لآل البيت، وفي أحد المرات ذهب وفد بحماس إلى أسرة مكلومة في البقاع، وهم يهنئون الوالدة على فقدان فلذة كبدها؛ فقال رئيس الوفد بحماس لأم القتيل: نهنئك بشهادة ابنك! فأجابته على الفور عقبال ابنك يا ولدي. صعق رئيس الوفد فبهت عن كل جواب وحزموا أنفسهم وولوا الأدبار، بدون أن يضيفوا أي كلمة جديدة.