القصة غير المروية لـ «الكيف» المغربي
يونس جنوحي
«منذ سنة 1919، عندما أصدرت الإقامة العامة الفرنسية قانونا ينظم هذه الزراعة، أصبحت الأخيرة أكثر نشاطا، خصوصا أن تلك المناطقة الفقيرة في صنهاجة الريف وجد الأهالي فيها بديلا عن الكساد الزراعي الذي كانوا يعيشونه لقرون بسبب آفة البرد الشديد الذي يتلف المحاصيل الزراعية.
كما أن صعوبة المسالك والتضاريس، كانت أكبر عائق أمام سكان هذه المناطق حتى لا يحترفوا فلاحة الحبوب، إذ كان مستحيلا بالنسبة لهم حصاد المحاصيل حتى وإن نجت من موجة برد الشتاء القاتل».
رغم اختلاف المصادر التاريخية التي تُؤصل لبداية زراعة القنب الهندي في شمال المغرب وبداية استهلاكه من طرف المغاربة، إلا أن بداياته الأولى يرجح أن تكون ما بعد سنة 1894. إذ أن علماء القرويين في هذا التاريخ كانوا يخططون لبداية ثورتهم ضد الاستعمار حيث أصدروا فتاوى دينية صارمة تحرم التعامل مع الأجانب، وبسببها انقلبوا على السلطان وطالبوا بسلطان جديد لا يجلس مع «النصارى» إلى طاولة واحدة.
إليكم القصة الكاملة للكيف المغربي.. من الزراعة إلى التقنين وما راج بين الفترتين من قصص و«مغامرات»..
جيمي هاندريكس وبراين جونز.. نجوم عالميون وشائعات إدمان «الكيف» بالمغرب
في صيف سنة 1969 زار جيمي هاندريكس المغرب، وكانت تلك الزيارة التي اكتشف خلالها موسيقى كناوة وقيل إنه تعرف على الصويرة ومناطق جنوبية في المحيط الأطلسي، سرت إشاعات في الصحافة الأمريكية والبريطانية على الخصوص تقول إن «هاندريكس» حل بالمغرب للبحث عن أجود أنواع الكيف في العالم، حيث اشتهر هذا الموسيقي العالمي الذي لا تزال أسطواناته مطلوبة رغم مضي أكثر من نصف قرن على وفاته، بتدخين لفافات الحشيش.
ورغم أن الصحافيين أصدقاء «هاندريكس» حاولوا التسويق لرحلة استكشافية وتوثيقية، إلا أن صحافيين أجانب أكدوا أن هاندريكس جاء إلى المغرب للبحث عن جنة الكيف.
وعلى كل حال، فقد كانت وقتها تلك «الموضة» رائجة جدا في أوساط الشباب من متابعي حركة «الهيبي». إذ أن الحاجة إلى التأمل والعزلة، اللتين تعتبران دعامتان لفكر هذا التيار، توفرت بقوة في مناطق معزولة من المغرب، حيث استهلاك الكيف المغربي كان رائجا في أوساط القرويين.
إذ أن سكان منطقة الديابات التي حل بها «هاندريكس» أكدوا لاحقا، خصوصا منهم الشبان المتعلمين الذين تعرفوا على هذا الفنان العالمي عندما زارهم نهاية الستينيات، أنه كان يبحث عن العزلة لتأليف موسيقى جديدة.
وتلك العزلة لم تكن لتتحقق إلا بتدخين «الكيف» الذي كان وقتها يعتبر شرطا أساسيا لدى مشاهير الموسيقى العالميين لكي يوفروا أجواء كتابة وتأليف الأغاني، قبل أن يأتي عهد آخر على المشاهير اتجهوا خلاله إلى استهلاك مواد أقوى بكثير من «الكيف»، حيث برزت أجيال أخرى من الموسيقيين أدمنوا مخدرات قوية مصدرها أمريكا اللاتينية.
لذلك بقي «الكيف» محببا لدى هذا الجيل من صناع الترفيه في عالم الستينيات والسبعينيات.
من أبرز من زاروا المغرب أيضا نجد مؤسس فرقة الـ «رولينغ ستونز» الشهيرة. يتعلق الأمر بأحد أعمدتها الكبار، براين جونز، الذي زار شمال المغرب خصوصا منطقة القصر الكبير وطنجة، حيث سرت إشاعات في الصحافة البريطانية أن هذا الأخير عندما زار قرية «جاجوكا» المطلة على المحيط نواحي القصر الكبير، واكتشف موسيقاها المحلية واستلهمها في تأليف أغاني المجموعة الأشهر عالميا في وقت لاحق، كان يدخن الكيف المغربي بشراهة هو وأفراد المجموعة.
آلاف الشبان والشابات البريطانيات شدوا الرحال إلى المغرب عبر مضيق جبل طارق، وحاولوا الحصول على نصيبهم من المتعة التي حققها «رولينغ ستون» في المغرب، خصوصا أن مجلات كثيرة تحدثت عن مغامرات المجموعة ونشروا لهم وهم يحملون لفافات محلية يدخنونها بشراهة. كما أن لفافات الحشيش التي كانت تلازمهم في كل جولاتهم حول العالم، جعلت المجموعة من أكبر مروجي «الكيف» حيث كان المعجبون يذهبون إلى شمال المغرب للحصول على النبتة من المزارعين المحليين ويحصلون على كميات استهلاك شخصية ويشدون الرحال عائدين من حيث أتوا.
مثل هذه القصص جعلت مكانة الكيف المغربي ترتفع في بورصة الاستهلاك الشبابي خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث وقتها كان هؤلاء السياح يأتون لاقتفاء آثار المشاهير العالميين الذين وصلوا قمة مجدهم في ذلك الوقت. ولم يكن سهلا محاولة إبعاد الشبان في مختلف دول أوربا وأمريكا عن تلك الموضة التي اكتسحت العالم، خصوصا أن أسطوانات هؤلاء الذين أحبوا المغرب وزاروه كانت تكتسح العالم حرفيا.
«الكيف» والانتخابات.. قصص عن استحقاقات 1963
منذ سنة 1962، ومناطق الريف المنسية تتلقى وعودا انتخابية بالسماح للمزارعين بزراعة القنب الهندي الذي كان ولا يزال مصدر دخلهم الوحيد في منطقة زراعية لا تساعدها الجغرافيا والمناخ على إنتاج الحبوب والزراعات الاستهلاكية، حيث إن سكان هذه المناطق، كما سنرى في هذا الملف، كانوا يلجؤون إلى مناطق محيطة بهم للحصول على مؤونتهم السنوية من الحبوب، ويقايضونها بمادة الكيف التي كانت تنمو عندهم بسخاء وتكتسح الأراضي الزراعية الموزعة فوق الهضاب وعند سفوح الجبال المطلة على البحر الأبيض المتوسط.
كان بعض أعيان المنطقة، الذين فتحوا أعينهم في كنف أسر محلية في الريف تمثل سلطة المخزن في المنطقة، صمام الأمان الذي يضمن استمرار المزارعين في زراعة القنب الهندي بعيدا عن ظهير 1919 الذي صدر تحت ضغط فرنسي أيام حكم المولى يوسف بن الحسن. وهكذا فقد كان إنتاج النبتة رهين بالاستقرار السياسي.
ومع الاستقلال سنة 1956 أصبح الواقع الجديد في تلك القرى ثابتا ومستقرا خصوصا أن الجهات الحكومية في المغرب المستقل لم تقترب من ملف زراعة القنب الهندي.
إلا أن أول موعد للانتخابات في المغرب بعد دستور 1962، عرف منافسة بين حزب «الفديك» الذي تزعمه وزير الداخلية المغربي أحمد رضا اكديرة، وحزب الاستقلال الذي كان يكابد من أجل الاحتفاظ بعائلات الأعيان الذين كانوا منخرطين في صفوفه، حتى لا ينصرفوا إلى حزب المهدي بن بركة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
حدث كل هذا في وقت كان المحجوبي أحرضان في الحركة الشعبية رفقة آخرين يسعى إلى الفوز بنفوذ سياسي في تلك المناطق معتمدا على ثقل قبائلي رغم أنه من ولماس ولم يكن لديه أي تمثيلية سياسية في الريف.
إلا أن هؤلاء جميعا وجدوا أن ملف «الكيف» كان هو معيار الشعبية الانتخابية، وهكذا حاول المرشحون المحليون من أبناء المنطقة وأعيانها، اللعب على هذا الموضوع وقدموا وعودا للفلاحين باستمرار زراعة القنب الهندي بضمانات مفتوحة.
إلا أن الدولة ضيقت في سنوات لاحقة، خصوصا خلال التسعينيات، عندما عرف ملف «الكيف» تحولا خطيرا نحو التهريب غير القانوني على طريقة العصابات، وهو ما أضر بالفلاحين المحليين من ناحيتين. الأولى سياسيا لأن الدولة ضغطت لإيقاف الزراعة دون تقديم أي بديل للسكان. ومن ناحية ثانية أضر بهم أمنيا لأن حيازة المحاصيل الزراعية لم تكن قانونية وهو ما عرضهم لمشاكل مع السلطات.
وهكذا، فقد كان المرشحون أيام داخلية إدريس البصري، أشهر وزير داخلية في المغرب الحديث، يربطون نجاحهم في الانتخابات باستمرار زراعة الفلاحين البسطاء لنبتة القنب الهندي.
ورغم أن أصواتا أجنبية تنبأت بمستقبل واعد للمنطقة إن هي ذهبت في اتجاه تقنين زراعة القنب الهندي واستعماله طبيا في صناعة الأدوية التي تدخل مواد مستخلصة من النبتة في صلب صناعتها، فإن من شأن حياة سكان الأرياف المنتجة لها أن تتغير تماما.
الشاي و»الكيف».. كلاهما حُرّم في البداية
كان جيل العالم المغربي مولاي الطيب العلوي، الذين عاصروا بداية دخول الفرنسيين إلى المغرب وأسسوا لاحقا النواة «الفكرية» للحركة الوطنية خلال بداية عشرينيات القرن الماضي، من أوائل من اعتبروا أن زراعة القنب الهندي في مناطق معينة من المغرب، خصوصا في منطقة الريف، مخططا استعماريا برعاية إسبانية الهدف منه تقويض القبائل التي كانت تجاهد ضد الاحتلال الإسباني للشمال المغربي.
لكن سرعان ما تراجعت حملات العلماء لتصبح زراعة القنب الهندي واقعا يفرض نفسه في المغرب. فمنذ سنة 1919، عندما أصدرت الإقامة العامة الفرنسية قانونا ينظم هذه الزراعة، أصبحت الأخيرة أكثر نشاطا، خصوصا أن تلك المناطق الفقيرة في صنهاجة الريف وجد الأهالي فيها بديلا عن الكساد الزراعي الذي كانوا يعيشونه لقرون بسبب آفة البرد الشديد الذي يتلف المحاصيل الزراعية.
كما أن صعوبة المسالك والتضاريس، كانت أكبر عائق أمام سكان هذه المناطق حتى لا يحترفوا فلاحة الحبوب، إذ كان مستحيلا بالنسبة لهم حصاد المحاصيل حتى وإن نجت من موجة برد الشتاء القاتل.
أما نبتة الكيف، فقد كانت تتأقلم مع الطقس القاسي في الريف المغربي، وهو ما انتبه إليه المزارعون الإسبان الأوائل الذين حاولوا الوصول إلى أجود الأراضي في الشمال واستغلالها تماما كما فعلت فرنسا في منطقة سوس.
لكن الفرق، أن الإسبان فكروا في جلب نبتة «الكيف» من أمريكا اللاتينية، وبعض الروايات تقول إنهم جربوا زراعتها في الجنوب الإسباني لكن العملية لم تنجح، فاختاروا تجربتها في منطقة الريف في الخط بين الحسيمة والجبال المقابلة لجبل طارق، لتسهيل نقلها بحرا.
العلماء المغاربة وقتها كان لهم رأي آخر، خصوصا أنهم رأوا كيف أن زراعة تلك النبتة ازدهرت ولقيت نجاحا كبيرا، واعتبروا أن نشاط الزراعة سيشجع الناس على الاستهلاك. أما السجائر، حسب ما راج في بعض المصادر التاريخية المحلية، فلم تحرم إلا بعد دخول الحماية الفرنسية إلى المغرب وجلب علب السجائر وتعرف المغاربة عليها من الفرنسيين. وهو ما جعل علماء الحركة الوطنية يحرمونها ليس فقط اقتداء بالشرق حيث حرم جامع الأزهر تدخين السجائر نظرا لأضرارها الصحية، ولكن أيضا لتكريس معارضة المنتجات الفرنسية، حتى أن هؤلاء العلماء عندما حرموا الكيف على المغاربة، لمعارضة الخطة الإسبانية في الريف، قفز بعض المتنطعين وحاولوا تذكير هؤلاء العلماء بأنهم سبق لهم خلال القرن 19 تحريم الشاي أيضا فقط لأنه جاء من وراء البحر، قبل أن يتأقلم المغاربة مع هذا المشروب ويصبح الأكثر شعبية في البلاد. لكن «الكيف» موضوع آخر أحاطت به إكراهات أخرى جعلت التأقلم الفقهي معه مستحيلا، لأن تأثيره على العقل رسخ فرضية تحريمه من طرف العلماء حتى بعد خروج إسبانيا من الشمال.
إعجاب السلك الدبلوماسي البريطاني بجودة «الكيف» بالشمال سنة 1910
رغم اختلاف المصادر التاريخية التي تُؤصل لبداية زراعة القنب الهندي في شمال المغرب وبداية استهلاكه من طرف المغاربة، إلا أن بداياته الأولى يرجح أن تكون ما بعد سنة 1894. إذ أن علماء القرويين في هذا التاريخ كانوا يخططون لبداية ثورتهم ضد الاستعمار حيث أصدروا فتاوى دينية صارمة تحرم التعامل مع الأجانب، وبسببها انقلبوا على السلطان وطالبوا بسلطان جديد لا يجلس مع «النصارى» إلى طاولة واحدة.
هؤلاء العلماء أنفسهم، هم الذين أفتوا بتحريم زراعة القنب الهندي واستهلاكه لأنه صنيعة أجنبية.
ورغم أن مصادر كثيرة ذكرت أن الإسبان هم من شجعوا على هذه الزراعة لأنهم لاحظوا أن مناخ الريف المغربي وتربته مناسبان جدا لهذه الزراعة، إلا أن هناك إشارات وردت في الصحافة الإسبانية التي كانت تصل إلى الريف تؤكد أن وقوف إسبانيا وراء تلك الزراعة لم يكن رسميا بالمرة.
ورغم أن الإسبان نفوا الرسمية في الموضوع إلا أنهم لم ينكروا وقوف إسبانيين وراء تشجيع تلك الزراعة وانتشارها في الشمال.
وهو ما جعل فرنسا تصدر قانونا ينظم الزراعة ويؤطرها سنة 1919، رغم أنها كانت تتم في أراض لا تتبع عمليا لنفوذ الحماية الفرنسية في المغرب.
البريطانيون تحدثوا بدورهم عن هذه الزراعة سنة 1910، أي قبل أن تفكر فرنسا في تأطيرها بقوة القانون رغم أنها فازت بسوق السجائر قبل تأسيس «الشركة المغربية للتبغ»، والتي كانت نسخة عن الفرع الفرنسي في البداية، خصوصا مع تزايد إقبال الفرنسيين الذين رحلوا إلى المغرب على السجائر الفرنسية.
أما «الكيف» فقد احتفظ بخصوصيته المغربية، رغم أن الفرنسيين لم يكونوا من مستهلكيه في البداية، وهو ما يفسر ابتعادهم عن تأسيس شركة لتنظيمه.
حسب أرشيف المفوضية البريطانية في المغرب فإن المفوض البريطاني رفع تقارير إلى لندن سنة 1910 تحدث فيها عن انتشار زراعة القنب الهندي في الشمال، وذكر أن انتشار النبتة يتم بصورة نشيطة جدا وأن المغاربة لا يعرفون تأثيراتها بعدُ، لكن المزارعين يواصلون زراعتها في أراضيهم لأنها بديل ممتاز عن المزروعات الأخرى التي تراجعت كثيرا عندهم وتسببت سابقا في مجاعات كبرى بسبب صعوبة الأراضي التي يستقرون بها.
حتى أن بعض الفلاحين، حسب التقرير دائما، فضلوا أن يبيعوا محصولهم من «الكيف» بدون شروط مقابل الحصول على مثيله من الحبوب من سوق تازة وفاس، خصوصا في السنوات التي كان برد الشتاء خلالها قاسيا وجافا، إذ تلف محصول الحبوب عندهم في نفس الوقت الذي ازدهر محصول نبتة القنب الهندي.
أشارت تقارير المفوض البريطاني في صيف تلك السنة إلى أن الفلاحين المغاربة في الريف كانوا يملكون في منازلهم كميات كبيرة مجففة من النبتة، بحيث كانت الكميات تفوق بكثير الطلب المحلي على الاستهلاك، وهو ما جعل الكيف يصل إلى كافة ربوع المغرب تقريبا ويبدأ المغاربة في التآلف معه رغم تحذيرات «المخزن» من عقوبات استهلاكه وتحريم الفقهاء لتعاطيه لما له من تأثيرات على الوعي.
إلا أن الطريف في الأمر، أن المفوض البريطاني حذر لندن من التغاضي عن الموضوع، خصوصا أن بريطانيا في تلك السنة، أي 1910، كانت لا تزال تطمح في السيطرة على فاس بعد طنجة، وضم المغرب إلى مستعمراتها قبل أن تقطع عليها فرنسا هذا الطريق عسكريا من خلال العمليات التي نفذتها في الدار البيضاء.
مستقبل نبتة «الكيف» المغربي بدأ في تلك الفترة بالذات، وبدا واضحا أن ذلك الكم من الإنتاج لن يؤثر إيجابا على حياة الفلاحين البسطاء الذين كانوا يزرعون أراضيهم التي ورثوها عن آبائهم بتلك النبتة التي تنمو بسخاء ويأتي الراغبون في تجربتها من أوربا وأمريكا إلى المغرب لاستهلاكها بأسعار رمزية جدا.
أمريكي دعا قبل قرن لزيارة المغرب ومغامرة تدخين النبتة
سجل الكثيرون إعجابهم بنبتة «الكيف» المغربية. حتى أن مواطنا أمريكيا حل في طنجة سنة 1903، سجل إعجابه الكبير بها واعترف أنها أجود الأنواع التي دخنها طيلة حياته. اسمه فيكتور ساسونا، وأصوله مكسيكية كما يقول. صدرت مذكراته في كتيب صغير نُشر محليا في الجنوب الأمريكي سنة 1914 واختار له عنوانا اسمه «رحلتي إلى شمال إفريقيا». يقول متحدثا في الصفحة العشرين عن تجربته مع تدخين الحشيش في طنجة: «في الأسبوع الأول لوصولي إلى طنجة، لاحظت أن الناس يستهلكون نوعا ممتازا من الحشيش، وقد أخبروني أنه محلي الصنع، بل وألح علي أحد الشبان أن أرافقه إلى منطقة قريبة يزرعون فيها نبتة «الكيف»، ووعدني أن يساعدني على شراء الكمية التي أرغب بها واعترف لي أن هناك من يشتري مؤونة السنة كلها ويدخنها بكل سعادة.
توجهنا إلى السوق الشعبي، والذي يقع في قلب المدينة، وقصدنا أحد الباعة الذين يفترشون الأرض وحصلنا منه على «سبسي» من نوعية خشبية ممتازة. صنع محليا بطبيعة الحال، ومن أغصان الأشجار المنتشرة في كل مكان.
النَّفس الأول الذي سحبته من الأداة الخشبية الرائعة، كان مميزا. كان مذاقه طريا جدا، ولم أستطع مقاومته في ما بعد. كان أصعب شيء بعد رحيلي من طنجة التي لم أمكث بها إلا شهرا لتستمر الرحلة، هو افتقاد تدخين العشبة المحلية لتلك المنطقة. لاحظت أن الكثيرين فقدوا أسنانهم بسبب الاستهلاك المفرط للحشيش، لكنهم لم يفكروا أبدا في الإقلاع عنه. وعليّ أن أعترف أنه كان من نوعية ممتازة للغاية».
مثل هذه الشذرات من مذكرات المغامرين الأمريكيين، جعلت آخرين يشدون الرحال إلى المغرب لتجربة تدخين الكيف المغربي «عالي الجودة» كما كانوا يسمونه. وبناء على هذه الكتابات قطع الكثيرون البحر في اتجاه المغرب ونزلوا في ميناء طنجة القديم على الخصوص، ليذهبوا في اتجاه نواحي وزان أو شفشاون ليتبعوا مزارع وحقول الكيف ويعيشوا ما تخيلوه تماما بعد قراءة تلك المغامرات التي ازداد الإقبال عليها من طرف دور النشر الأمريكية خصوصا خلال فترة 1920.
ليأتي عهد آخر مع ظهور «الهبيين» والمجموعات الغنائية العالمية، والذين جربوا «الكيف» المغربي وأصبحت زيارة المغرب شرطا لتدخينه.
جنود بالقواعد العسكرية الأمريكية تنبؤوا بالفوائد الطبية للقنب الهندي
عندما تأسست القواعد الأمريكية في المغرب سنة 1943 بعد الإنزال الشهير في شواطئ الدار البيضاء والجديدة للتوجه رأسا إلى أوربا ومساندة الحلفاء في حربهم ضد النازية في ألمانيا، كانت فرق من الجيش الأمريكي من طيارين ومشاة، يؤسسون الحجر الأساس للقواعد العسكرية الأمريكية نواحي القنيطرة وبوقنادل.
هؤلاء الأمريكيون كانوا يستكشفون ربوع المغرب وكانوا مندفعين لتجربة كل ما هو غريب عنهم. أما الكيف ولفافات الحشيش فلم تكن غريبة عنهم بالمرة، إذ سبق لأعداد من المجندين الأمريكيين بعد حرب فيتنام في الستينيات أن أعلنوا للإعلام الأمريكي أنهم جربوا تدخين الحشيش في المغرب، ومارس رؤساؤهم تهريب الخمور وبيعها في السوق السوداء بالمغرب.
كان هناك دائما جانب مظلم لأنشطة القواعد الأمريكية عبر العالم، باعتراف الأمريكيين أنفسهم. لكن المميز في تجربة «الكيف» المغربي أن بعض الجنود الأمريكيين تحدثوا عن جودة هذه النبتة، وكان بعضهم بخلفيات علمية من أبناء الجامعات الأمريكية، وذكروا أن النبتة تُنتج بكميات كبيرة وبجودة ممتازة جدا تصلح لكي تصنع منها العقاقير الطبية وليس فقط التدخين.
هذه المعلومات استقيناها من سلسلة علمية. كان الرقم 137 منها الصادر في أكتوبر سنة 1968. وتضمن العدد مقالة مطولة جاءت تحمل عنوان «3 سنوات في مراكش». هذه الإحالة على مراكش كانت فقط بهدف لفت انتباه القراء، كما اعترف صاحباها «ويليام فريمان» و»جي. بي. جوناثان». إذ أن الأمر يتعلق بالمساحات الخضراء في المناطق التي زارها هذان العالمان اللذان قضيا فترة تجنيد في القواعد الأمريكية في المغرب وعبرا في فرق المشاة إلى الجزائر ثم تونس، حيث كان الجيش الأمريكي يؤازر فرنسا في حربها ضد الألمان والإيطاليين في البحر الأبيض المتوسط.
ذكر هذان الباحثان أنهما أخذا معهما عينات من نبتة الكيف المغربية التي سمعا عنها الكثير قبل مجيئهما إلى المغرب وبعد فحصها تأكد لهما أنها غنية بالمستخلصات التي تصلح لشركات الأدوية لكي يطوروا منها عقاقير مهدئة خصوصا في مجال أمراض الأعصاب والدماغ.
لكن تدخينها أمر مختلف تماما، خصوصا أن تلك الفترة، أي ستينيات القرن الماضي، كانت شعبية «الكيف المغربي» خلالها في أوجها.
مغامرات تدخين الكيف المغربي صرفت النظر عن الأصوات الأولى التي تنبأت بالمستقبل الطبي للنبتة، قبل أن يثار موضوع تقنين الزراعة بعقود طويلة. وهكذا كان دخانه الكثيف وبالا على الجو العام. إذ أن المزارعين البسطاء الذين كانوا يزرعون النبتة كانوا يبيعونها بأسعار منخفضة جدا، قبل أن يأتي زمن أباطرة المخدرات الكبار الذين تولوا مهمة تسويقها على نطاق واسع في السوق الأوربية على وجه الخصوص.
كان الإنتاج المغربي، في ظل غياب أرقام دقيقة، موجها خلال ستينيات القرن الماضي للاستهلاك المحلي والسياحي، لكن مع نهاية الثمانينيات وتنامي ظاهرة الهجرة السرية نحو إسبانيا، أصبح التهريب حكرا على عصابات بعينها، وسرعان ما ظهر أباطرة مغاربة وأجانب سيطروا على السوق الأوربية.
ورغم ذلك فقد كان السياح الأوربيون يأتون إلى المغرب رغم ترويج الكيف والحشيش بوفرة في أوربا، لكنهم كانوا يرغبون في تدخين النبتة بالطريقة التقليدية قرب الحقول.
الدورية العلمية الأمريكية التي أوردت هذه المقالة جاء فيها أن المستكشفان الأمريكيان ذكرا أن مستقبل النبتة رهين بتطوير زراعتها وطرق استهلاكها، وتنبآ منذ سنة 1968 بأن زراعة «الكيف» إن لم يتم توجيهها للاستهلاك الطبي فلن يستفيد منها المزارعون المغاربة أي شيء. بل وتنبؤوا أيضا بأن يسيطر على الزراعة «خارجون عن القانون» وبالتالي سوف يضيعون على مستقبل البحث العلمي سنوات أخرى.
لكن واقع الحال، حسب إحصاءات سنة 2012 التي قامت بها جمعية صنهاجة الريف في الحسيمة، أكدت أن عائدات زراعة القنب الهندي سوف تفيد الفلاحين المحليين أكثر في حالة توجيه محاصيلهم نحو شركات صناعة الدواء والمعدات الطبية والصناعية.
إذ أن أباطرة المخدرات بمختلف جنسياتهم، والذين يسيطرون على السوق السوداء والتهريب يحصلون على النبتة الخام من المزارعين مباشرة بأسعار منخفضة للغاية، بالكاد يسددون بها ديونهم المحلية سنويا، في حين أن الأباطرة الكبار الذين يصنعون منها الحشيش عالي الجودة ويصدرونه إلى مختلف أنحاء العالم جاهزا للاستهلاك، هم المستفيد الأكبر.