استطاع العلم الحديث تتبع موجات الهجرة الإنسانية إلى أوروبا، فقد مشت في موجتين، قديمة قبل الطوفان وصلت منطقة البلقان بدون تقنية الزراعة، ثم حدث تحول خطير عام 5300 قبل الميلاد، حينما ظهرت مجموعات بشرية على نحو مفاجئ في حوض (الكرابات)، ومعها تقنيات جديدة اجتاحت بها مجموعات أوروبا ونشرت فن الزراعة في كل القارة الأوروبية.
إن تحول المناخ وآثاره كان لهما الدور الحاسم في حركة الإنسان، فلقد مرت على الأرض فترات من الجفاف الموجع كانت تقضي على البشر دوما وتحدد أعدادهم؛ فقبل 18 ألف سنة بلغ العصر الجليدي ذروته وكانت نصف مساحة أوروبا في حكم الميتة، ووصلت كثافة المدرعة الجليدية فيها إلى ألفي متر (كيلومتران).
وعاش الإنسان لفترة مائة ألف سنة (عصر البلايستوسين) في حالة يائسة، وهرب من كل منطقة التجمد الشمالية، ثم ذاب الجليد بالتدريج، وارتفع منسوب المياه وتضاعف بحر قزوين أربعة أضعاف. وقد يتعجب المرء من دقة هذه المعلومات، ولكن التقدم العلمي يقرأ الأرض في رق منشور غير قابل للتزوير وبأدوات مسح مذهلة.
ومع فترة ذوبان الجليد الأولى التي تمت قبل 18 ألف سنة حصل تحول في مناخ أوروبا والبحر الأبيض المتوسط، وظهرت واحات خضراء في الشمال الإفريقي (كما في فيلم «المريض الإنجليزي» الذي أظهر بقايا تلك الحقبة)، وتناثرت البحيرات في أوروبا.
وقبل 10500 سنة بدأت فترة الجفاف الأولى، وبقي الجو لفترة ألف سنة باردا بدون أمطار، وانكمشت بحيرة كانت في منطقة البحر الأسود الحالي؛ يفصلها عن بحر مرمرة والمتوسط ممر صخري يشكل سدا للحماية ومعبرا بين أوروبا وآسيا.
وبين عامي 6200 و5800 قبل الميلاد عادت فترة جفاف جديدة وتناقص عدد البشر بسرعة. وعند عام 5500 قبل الميلاد، كان العالم على مشارف انقلاب جيولوجي وأنثروبولوجي وعلى عتبة تاريخية من انقلاب المناخ. وعاصر هذا وصول الإنسان إلى الوضع الثقافي فأصبح حضريا يمارس الزراعة، ولم تكن الأهرامات قد بنيت في مصر بعد.
وهذه الفترة هي التي يسميها علماء الأنثروبولوجيا (ثورة العصر الحجري)، ولم يعرف حتى الآن السبب الذي أدخل الإنسان مرحلة الثورة الزراعية، وإن كانت الأبحاث تشير إلى أن المرأة هي التي وضعت يدها على سر (الزراعة)، وأهم ما في هذا الانقلاب أنه مكن الإنسان لأول مرة في تاريخه من التخلص من ضغط الجوع، وأن لا يقضي نحبه في المسغبة، ومع توافر غلال القمح التي توفر الكفاية من السعرات الحرارية، بدأت أعداد البشر في التزايد، وحصل كما تصفه الأنثروبولوجيا (بالانفجار السكاني)، حيث تكاثرت أعداد الناس حول (البحيرة السوداء) التي كانت في موضع البحر الأسود الحالي إلى عشرين ضعفا في فترة قصيرة، ونمت القرى على نحو كثيف، بحيث كانت لا تغيب الواحدة عن الأخرى سوى أربعة كيلومترات في قرى ظاهرة. كما وصف القرآن أهل سبأ (وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين)، حتى جاءهم السيل العرم فمزقهم كل ممزق.
إن هجرة البشر كان خلفها دافعان أساسيان الجوع والمغامرة لاكتشاف أرض جديدة تنعم برزق وفير، ولكن قصة الطوفان التي تكررت في القرآن أخذت بعدا نبويا، وتضيف عنصرا ثالثا لا يستهان به في ذلك الوقت الغارق في الزمن، ويعرف الجيولوجيون أن الكوارث كثيرة الحدوث في تاريخ الأرض، فقبل ستة ملايين من السنين لم يكن الإنسان قد ظهر بعد، جف البحر المتوسط، وتحولت الأرض إلى مسافات لا نهاية لها من الصحاري، تنبت في واحات فقيرة، فيها بقايا من أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل. كما أن التاريخ الإنساني حافل بكوارث كونية مخيفة، وقصة الطوفان كانت من حجم كوني، حينما اندلقت مياه المحيط إلى البحيرة السوداء، التي كان مستوى المياه فيها دون أقل بـ120 مترا عما هو عليه البحر الأسود حاليا، بعد أن حطمت عتبة البوسفور فوصلت البحر الأسود بالمتوسط، بعد أن ارتفع مستوى المياه في البحيرة ليتشكل البحر الأسود، ولكن تم هذا مع غرق شعوب كاملة تعيش على ضفاف البحيرة في المنطقة فاجأتها أمواج كالجبال.
ونحن نعرف أن سكان حضارة سومر في (أور) (أوروك) قاسوا الكثير من الفيضانات، ومن أشهرها ما حدث عام 3200 قبل الميلاد، حينما غرقت مدينة أور في وحل دجلة بارتفاع مترين ونصف المتر، ولذا كانوا أسرع الناس في تخليد قصة الطوفان كتابة.
إن تقديرات الأنثروبولوجيين أنه لا يقل عن 200 ألف من السكان على حواف البحيرة السوداء (البحر الأسود الحالي = قره دينيز كما يسميه الأتراك)، والذين كانوا يمتلكون تقنية الزراعة وصوامع حبوب العصر القديم أصبحوا بغير مأوى وتفرقوا أيادي سبأ، وأما الذين فاجأهم الطوفان في السهول فلم تكتب لهم النجاة. وتظهر قصة نوح من كل هذا الضباب التاريخي لولادة عصر جديد أفضل وبعلاقات إنسانية أكثر تقدمية وأرحم في تحرير الإنسان من الاستغلال؛ فكل مشاكل الظلم الاجتماعي جاءت من الملكية والثورة الزراعية، كما يحرر ذلك الشيوعيون، ثم إنه ليس مثل المحن والتشرد ما يجمع قلوب الناس.
ويرى «دوغلاس بايلي DOUGLAS BAILY»، من جامعة «كارديف» في بريطانيا، أن هذا النزوح الجماعي حمل في تضاعيفه نشر تقنية الثورة الزراعية في الأرض، أي أن هذه المحنة الكونية كانت خيرا من وجه آخر. وبهذا يكون طوفان نوح ليس دمارا للبشرية؛ بل هو إيقاد لزناد التقدم الإنساني. ولكن مع النخبة الجديدة مع نوح، التي ولدت نظاما اجتماعيا خاليا من العسف والظلم وسوء توزيع الثروة.
رحلة البحث لم تنته بعد وما جاء في الكتب المقدسة لم يتطابق تماما مع الكشف الجديد، ولا يشترط أن يكون هذا الطوفان هو طوفان نوح تحديدا، ولن يغير قناعتنا حوله، ولكنه إن وصل إلى نتائج قطعية، فسوف يكون حدثا مثيرا. وقد اتفق بالارد الآن مع معهد التكنولوجيا في ماساشوست «MASSACHUSETTS INSTITUTE OF TECHNOLOGY» لتطوير الغواصة «ROV»، وهي تعمل بالريموت كونترول (REMOTLEY OPERATED VEHICLES)، وفيها قدرة النبش والحفر والتنقيب والتحرك إلى قدر أنملة، والتقاط الأشياء المشبوهة، والتصوير الملون بقدرة فائقة، كما فعلت عربة السوجرنير على ظهر المريخ. وصاحبنا «بالارد» متفائل أنه سيضرب ضربته في كشف النقاب عن أكثر فصول التاريخ القديم إثارة؛ بالكشف عن سفينة نوح (ولتعلمن نبأه بعد حين).
خالص جلبي