السعيد الصديقي يتحدث عن حكومة عبد الله إبراهيم
يرفض الكاتب السعيد الصديقي الحديث مباشرة في المسائل السياسية. وإذا كان لابد من إثارة موقف أو استظهار قضية، يستعين بمنهجية اللعب بالكلمات. فيخرج سالما لا هو قال ولا المستمع سمع. أما التأويل فحجته على من زعم. ومع أنه لم يمتهن العمل الدبلوماسي على قيد حياته، يترك الانطباع بأنه يقول كل شيء، من أجل ألا يقول إلا ما يرغب في الإدلاء به.
استدرجته مرة إلى جوار طاولته في مقهى قبالة المركز الثقافي السوفياتي في الرباط، قبل أن تهوي عليه آلة الاستهلاك، ويصبح مطعم أكلات خفيفة شهيرة: إن كان يحتفظ بذكريات لا تنسى عن مروره بديوان وزير الشغل في حكومة الوزير الأول عبد الله إبراهيم، فرد قائلا: أي نعم.
برقت عيناه دلالة على انشراحه، وأي شيء أقرب إلى استنطاق الذاكرة، إذ تصادف من يبحر معها إلى عيون الماضي، في زيارات عابرة رفقة الأصدقاء والمعارك. قال صاحب «مدينة النحاس» إن الأمثال تتحدث عن الذهب الذي يختفي النحاس بين أحشائه. متسائلا عن الرابط بين النحاس الذي يُعمر والنحس الذي يأتي ويذهب.
حكى كيف أنه ترك معطفه معلقا في مكتبه، وغادر الوزارة إلى غير رجعة.. بعد أن تسلم راتب الأشهر الثلاثة الأولى التي قضاها في العمل، متنقلا بين الدار البيضاء والرباط. فقد صعب عليه استئناس العيش في العاصمة. ولم يكن يغويه تنفس هواء آخر، في غير مدينة الكاريان سانطرال التي كانت تسكن بين جلده وعظمه. بل إنه كان فوضوي الطبع، لا يحلو له النظام إلا في قول الشعر والرباعيات الموزونة.
لم يتغن مطرب بأزجاله، لأنها تفيض حسرة وألما وحِكما. لذلك أدمجها في مسرحيات ونشر أجزاء منها في الصحف. بعضها يرثي رفاق الطريق وبعضها يغوص في صوفية مشرفة، ومن ذلك ما كتبه عن رحيل صديقه في النقابة والمسرح عبد الصمد الكنفاوي الذي قال عنه:
«كنت نجمة دازت فسمانا
غير ضوات وطفات
وما طولات».
روى أيضا أنه كان ينفر من الإدارة التي تستنزف القدرات في الشكليات والمبالغات وتنازع الاختصاصات أحيانا. ولم يكن يطيق أن عملا يقوم به شخص واحد في وقت محدد، يمكن أن يستغرق زمنا أطول حين يوزع على أشخاص عديدين، يتوهم كل واحد منهم أن الفضل يعود إليه وحده في إنجاز ذاك العمل. وعندما بدا له أن وجوده في الإدارة من عدمه سيان، اختار أن يخلص لنزواته. لم يودع أحدا، ولم ينتظر إقامة حفل شاي لتكريمه، بل تسلل في حالة شرود إلى خارج مكتبه باحثا عن إعطاء معنى لعمله الآخر الذي وجد من أجله، أي الإبداع ولا شيء غير الإبداع الذي كان سبيله نحو ذلك المعنى الملتبس فلسفيا وواقعيا.
هكذا وجد نفسه يمشي خطوات نحو ملاقاة «سيدي عبد الرحمن المجذوب» في حكمه، و«سيدي ياسين في الطريق» الذي انتصب ضريحه لا مبال بدوار الطريق السيار بين الرباط والدار البيضاء. كما اختار عنوان «مومو بوخرصة» بديلا عن «في انتظار غودو» لصمويل بيكيت، وكل ذلك دونما الحاجة إلى إشهاد على بصماته التي كان يفرقها شقيقه المبدع الكبير الطيب الصديقي في أبحاث لا تنتهي عن الغرابة والإبهار.
كنت معنيا أكثر باستقراء طرائفه السياسية والنقابية، باعتباره من أبرز نقابيي المرحلة سخر قلمه باللغتين العربية والفرنسية لكتابة الافتتاحيات النارية لصحيفة «الطليعة». وألححت عليه في اختزال فترة حكومة عبد الله إبراهيم، التي عاش بعضا من هوامشها، إذ كانت تربطه علاقات احترام وتقدير مع بعض مكوناتها، وخصوصا الزعيم عبد الله إبراهيم الذي ظل ينظر إليه بإعجاب كمفكر وكاتب وصاحب مواقف لا يتزحزح عنها.
أجاب السعيد الصديقي بأسلوبه الذي يمزج بين الجدل والهزل: «إن حكومة يوجد فيها وزير اسمه المذبوح، إما أن يذبحها أو تذبحه». كان يشير إلى تولي رئيس الحرس الملكي آنذاك الجنرال محمد المذبوح، وزارة البريد التي انضاف إليها التلفون والتلغراف. وكان أول عسكري يشغل منصب وزير في حكومة مدنية.
لم يشأ التأكيد أو النفي إن كانت تلك الحكومة حملت بوادر تصدعها في طبعة وظرفية تشكيلها. لكنها في أي حال واجهت معارضة مزدوجة من الداخل والخارج، كونها انبثقت في الهزيع الأخير لما قبل تصدع حزب الاستقلال وحدوث الانفصال بين جناحيه المحافظ واليساري الذي سيقود إلى تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، إضافة إلى إحداث القلاقل في منطقة الريف، واحتدام الصراع على ضفاف مواقع السلطة.
علق السعيد على طريقته بأنه أمام استعصاء التعايش وتحقيق أهداف مشتركة، تضاربت المفاهيم بين الحكم والحكومة، وكان لا مناص من أن يلجأ أحدهما إلى أبغض الحلال عند الله، أي الطلاق، من دون إشهاد العدول. قال أيضا إن الحكومة مصدرها الحكامة والحكم أصله الحكمة، إذا التقت الحكامة والحكمة سلمت الطرقات وتبددت الخلافات وإذا وقع الإخلال بأحد الشرطين، لا بأس من العودة إلى نقطة الصفر.
أدركت وقتها أن العلاقة بين السعيد وشقيقه الطيب كانت أكثر انصهارا، بين رجلين أحدهما يختبئ وراء الظل والآخر ينشد الواجهة. وتذكرت كيف أن فكرة الذبح هيمنت على مسرحية حملت عنوان «ما حدها تقاقي» ختمها الطيب الصديقي بالإيعاز إلى البطل بذبح ديك والرمي به في اتجاه الجمهور. من يدري ربما اقتبسها من مقولة شقيقه حول نهاية حكومة الراحل عبد الله إبراهيم.