بدأت الرواية المغربية بداية تشبه ضوءاً ضئيلاً صادراً من مكان عميق. وها قد امتدّ تاريخها القصير اليوم وأنتج رصيداً زاخراً وضوءاً مبهراً. إنه تاريخ قصير بالمقارنة مع الرواية العربية، خصوصاً في مصر ولبنان، أختها التي تكبرها بأكثر من نصف قرن. بدأ فجر الرواية المغربية مع «الزاوية» للتهامي الوزاني سنة 1942، وامتدّ مع «وزير غرناطة» لعبد الهادي بوطالب سنة 1950، وتابع شعاع الفجر انتشاره سنة 1957 مع «في الطفولة» لعبد المجيد بنجلون، واكتمل مع «دفنا الماضي» لعبد الكريم غلاب سنة 1966، و«جيل الظمأ» لعزيز الحبابي. وحين أطلت السبعينيات بسنة، كان النصّ الروائي المغربي راشداً يمشي على طريق طويل تظهر شموسه البراقة والمبهرة الضوء في الأفق الفسيح. وها هو هذا الأفق اليوم زاخر بما لا يحصى من النصوص والوعود.
محمود عبد الغني :
خصصنا هذا المحور، في هذا العدد من الملحق، لهذا النص الروائي الذي لم ينتظر أحد أن تزهر حديقته كما تزهر اليوم. وقد شارك فيه ثلة من خيرة النقاد والروائيين في المغرب، ولو فسحنا مجال إبداء الرأي لكان علينا تخصيص صفحات وصفحات، لأن هذه الرواية، كما بدأت ونشأت وامتدت وأزهرت، تنادي الجميع، روائيين ونقاداً، لأنها محبوبتهم جميعاً، بجماليتها وموضوعاتها وشكلها المتطور باستمرار، وقنواتها التي امتدت إلى باقي الجغرافيات العربية، واللغات الأخرى بفضل الترجمة.
حين لا تكون الإثنوغرافيا سُبّة
رشيد بنحدو
يحدث أحيانا أن تتسم العلاقة بين الكاتب المبدع والنقاد بكثير من التوتر، خاصة حين يكون مصدره سوءَ فهم شنيعا أو التحيزَ المسبقَ للقناعة الشخصية. ويعتبر أحمد الصفريوي (أديب مغربي يكتب بالفرنسية /1915/2004) مثالا دالا على هذا الوضع. فلقد انبرى معظم النقاد لشخصة الوديع باللوم والتأنيب بدعوى «هروبيته» و«استقالته من الواقع» و«الانشداه بالماضي»، ولمحكياته الجميلة بالقدح والتثريب بزعم أنها أدب «إثنوغرافي» و«فولكلوري» و«إغرابي»،
وبالبداهة، كان لهذا التأويل المغرض أثر الجرح في وجدان أحمد الصفريوي الذي أبى، مع ذلك، إلا أن يظل في نصوصه وفيّا لعقيدته الأدبية والجمالية، وهي أن ينتذر على نفسه بتفان وإخلاص تصوير المجتمع المغربي من جهة تشبثه خاصة بالتقاليد المحلية والطقوس الاحتفالية العريقة، وتعلقه بالقيم الأخلاقية السلفية. وهو ما يجعله في نظري منتميا لفصيلة أولئك الكُتّاب (الآيلين إلى الانقراض، هذا إذا لم يكونوا قد انقرضوا فعلا) ذوي النزعة الإنسية (humaniste) بالمعنى القوي للكلمة، أعني تلك التي تقوم على الاعتراف المبدئي والمطلق بإنسانية الإنسان، أي بما هو أصلي وأصيل فيه. فمحكياته كلها تتغنّى بقيم المودة والوفاء ونكران الذات ومحبة الآخر والتكافل والتسامح والكفاف والبساطة والتلقائية والإيمان بالقدر والتدين غير المتطرف والتفاؤل ورؤية جوانب الخير والجمال في الأشياء. وذلك على خلفية كل ما هو عتيق ونبيل وشاعري في مدينة فاس التاريخية، مسقط قلبه.
قلتُ له ذات زيارة له في بيته، بعد أن عبّر لي عن تبرمه من التلقي النقدي لنصوصه:
«– اتهمك النقاد ظلما بالرؤية الإثنوغرافية للواقع المغربي، والحال أننا لا نعدم روائيين مغاربة، يكتبون بالعربية وبالفرنسية، تناولوا في نصوصهم ما يتفرد به المجتمع الفاسي من عادات وتقاليد تتعلق بالشعائر الدينية، وبطقوس الولادة والختان والزواج والدفن، وبطرق الأكل واللباس، وبحكايات النساء الحميمة في سطوح المنازل وفي الحمّامات التقليدية الخ. ومع ذلك….
فقاطعني بنبرة استياء واحتجاج:
- ومع ذلك، لا توصف نصوصهم بالإثنوغرافية، بكل بساطة لأنها لا ترقى إلى مستوى هذه القيمة السامية. اسمع، إذا كانت الإثنوغرافية تعني تصوير عادات الناس البسطاء الطيبين، والاهتمام بالتقاليد الأهلية، وتأبيد آثار الماضي المشعة في الحاضر، فأنا أجهر بعقيدتي الإثنوغرافية، ولا أخجل إطلاقا من كون نصوصي إثنوغرافية».
أما أنا، فأقول إن أحمد الصفريوي يكفيه فخرا أنه أسهم في صيانة جزء من التاريخ المغربي ومن المخيال المحلي، وفي حفظ الذاكرة الشعبية من الامّحاء، حتى ولو كان فعل هذا بلغة أجنبية.
كم يغريني أن أشبّه كاتبنا بذلك الشاعر المتصوف الحكيم، المتشرد والملغز، الذي خصّه بحكاية جميلة تلمّح أكثر مما تصرّح. وفي ما يلي نص ترجمتها كما أنجزتها بمتعة فائقة.
القاضي والمتشرد
القاضي الحاج حمّاد يتذكر هذا جيدا: حين جاءت الخادمة عنده لتخبره بأن متشردا أشعث الشعر ورثيث الثياب ينتظره بالباب، كانت دادا مسعودة عاكفة على تحضير قصعة «العصيدة» احتفاء بذكرى مولد النبي.
كان اليوم إذن يوم عيد المولد. وكانت العادة في مثل هذا اليوم أن يفطر الناس في الصباح الباكر، فيحتسون «العصيدة» بواسطة ملاعق خشبية يغمسونها في صحن من الخزف الصيني يطفح بـ«السميدة» المخلوطة بعسل داكن عَطِرِ الرائحة.
ولقد خاطب الحاج حمّاد خادمته الزهرة قائلا لها إنه لا يعرف أي متشرد، ولا يرغب في معرفة واحد من فصيلة الناس هؤلاء. لكنها أجابته بأن من ينتظره بالباب لا شبه له إطلاقا بأولئك المتسولين المألوفين، وبأن النور يسطع من وجهه.
– لكِ خيال جياش، قال لها.
ثم توجه نحو الباب يحذوه على ذلك بعض الفضول وخاصة رغبته، في يوم العيد هذا، في عدم معاكسة خادمته الصغيرة التي كان يعاملها معاملة ابنته. فوجد الرجل واقفا مستندا إلى الحائط المبني بالآجر. كان طويل القامة، تشع عيناه بجمال فتان، وتوحي هيئته، على رغم أسماله وآثار التعب في وجهه، بعزة النفس والوقار. فإذا بالقاضي يتساءل مبهوتا هل هو في حضرة سلطان خرافي متنكر في هيئة متسول انبعث فجأة من أعماق زمان غابر، وأقبل إليه لينعم عليه بالمال والجاه.
وقبل أن يفتح المتشرد فمه، بادره الحاج حمّاد إلى القول:
– مولاي، الدار دارك، هلّا تفضلت بالدخول. ستأكل إذا كنت جوعان وستشرب إذا كنت عطشان. نزّلني منزلة أخيك ولا تتصرف في داري تصرف الغريب.
– إذا كنتُ طرقتُ بابك، فلأن يداً خيّرة اقتادتني إليك. أشعر بأن ما قلتَه قبل حين لا لياقة فيه ولا مجاملة. أجل، سأدخل أ الحاج حمّاد، هيّا بنا، قدّم لنا «العصيدة» بالعسل حتى نحتفل معا بالحدث الأعظم: مولد خير البشر وأجمل نور في الكون.
ثم اتجه الرجلان نحو قاعة الاستقبال وجلسا على أريكتين فاخرتين مكسوّتين بالحرير، وتبادلا، في أثناء الأكل، أطراف الحديث على ضوء نور خافت كرفيقين متوادّين عركتهما تصاريف الدهر وخبرا بني آدم وأفراحهم وأتراحهم. ولما أنهيا الأكل، اقترح القاضي على ضيفه بلين وتأدب أن يقيم في غرفة بمؤخر الحديقة، حيث يمكنه، بحرّية وبدون كلفة، أن يصلي أو يستريح، وهو ما وافقه عليه دونما اعتراض أو تحفظ.
في إثر ذلك، خرج الحاج حمّاد لملاقاة أصحابه وأصدقائه الاعتيادين. لكنه لم يخبرهم بما حدث. وفي المساء، وبعد صلاة العشاء، عاد إلى داره، حيث استفسر خدامه عن أحوال ضيفه، فأخبروه بأنه لم يغادر الغرفة طيلة اليوم ولم يطلب لا طعاما ولا شرابا. فظن الحاج حماد أن ضيفه ربما يكون آثر أن ينام ليستريح ويستعيد عافيته، فقصد غرفة الحديقة ليوقظه ويعرض عليه أن يشاركه طعام العشاء، عسى ذلك أن يخفف تعبه. فوجد الرجل متمددا فوق الفراش، متسربلا بقميص أبيض، طويل ومرقع، لكنه نظيف. فبادر في عتبة الباب إلى تحيته بما يقتضيه الأدب:
- السلام عليكم.
فرد عليه:
- وعليكم السلام: أنا عاجز عن القيام لاستقبالك أيها الأخ الكريم، فمعذرة. لقد مشيت مدة طويلة لأجل ملاقاتك. لكنني لم أكن أتصور أن موتي مقدّر عليّ في ضيافتك. أنا الآن موقن بذلك. أترجّاك إذن أن تلبي لي رغبة أخيرة: أحضِرْ لي أوراقا بيضاء ومدادا وريشات للكتابة. فأنا حريص على أن أترك لك تذكارا تعبيرا مني عن سعادتي بالتعرف عليك..
فقاطعه الحاج حمّاد:
- ماذا تقول يا مولاي، دعك من الكلام عن الموت، لعل برد الليالي، في أثناء ترحالك، قد جمد الدم في عروقك. وهذا يوجعك الآن. أو لعل جسدك في حاجة إلى الراحة وإلى أطعمة مقوية. سأطلب إحضار طبيب ليلطف آلامك.
- لا داعي لذلك أ الحاج حمّاد، فأنا لا أتألم. لست مريضا. كل ما في الأمر أن أجلي حان. أحْضِر لي الأوراق والمداد والريشات وستعرف سبب رحلتي إليك ومعناه والغاية منها. هيّا أ الحاج حمّاد، نفذ طلبي بسرعة. أحس أن لحظاتي محسوبة.
أرخى القاضي عينيه في استسلام ينظر إلى الأرض متنهدا، وقصد دولابا أخرج منه حزمة أوراق ودواة وريشات من قصب، ثم وضعها بين يدي الرجل المحتضر. وقبل أن ينصرف، سأله إن كان يريد أن يأكل أو يشرب، فأجابه بالرفض، راغبا فقط في كمية كبيرة من الشموع، وبعد أن زوده بها، ودعه والتحق بأهله.
وفي صباح الغد، زار الحاج حماد ضيفه باكرا، متمنيا له يوما سعيدا ومستفسرا عن حاله. وبكثير من الجهد، أجابه بطيف ابتسامة، مؤكدا له أن ما بقي له من قوة سيكفيه بعون الله لإنهاء ما تعاهد مع نفسه على إنجازه. كان مظهره يوحي بالدعة والهدوء وهو منهمك في الكتابة، رافعا ركبته، مسندا ظهره إلى مخدّات. وبجانبه كانت متراكمة أوراق كثيرة مكتوبة بخط أنيق. ومرة أخرى امتنع عن الأكل والشرب.
وفي المساء، عاد القاضي إلى زيارته. كانت الأوراق تتكدس فوق الأوراق من غير أن يبارح الرجل فراشه.
وفي اليوم الثالث، وقبل أن يلتحق الحاج حماد بأهله، عرّج جهة الحديقة، فكان أن لفت انتباهه استغراق الغرفة في ظلام مطبق. حيره الأمر. ثم بدأ ينادي مرة تلو الأخرى: مولاي! يا مولاي! لكن الصمت كان ما يجيبه. فأسرع لإحضار فانوس واقتحم الغرفة. كانت آخر شمعة قد انطفأت بعد أن انقضت ذبالتها في مشكاة نحاسية، وأكداس الأوراق متناثرة على الأرض، غير بعيد عن الفراش حيث كان الرجل مضطجعا على ظهره، فاغر العينين، مرتخية قسمات وجهه. فاقترب منه، وحقق النظر فيه مليّا قبل أن يطبق جفنيه بحركة في منتهى الرقة واللطف، ثم تربع مباشرة على الأرض، وشرع في تلاوة سورة من القرآن.»
-*-*-*-
– قل لنا أ الحاج حمّاد، ما اسم هذا الرجل؟ وما مصير مخطوطه؟ وهل هو صالح للنشر؟
– أبدأ لم أسأل ضيف الأيام الثلاثة عن اسمه، أما المخطوط، فمعظمه أضرمتُ فيه النار في لحظة تهوّر واستخفاف، حيث لم أحتفظ منه إلا بهذا النزر اليسير. هاؤم اقرأوا أوراق (ي) هْ.
أيا صِحابي.
أضع بين أيديكم عصارة تجربتي الطويلة والمؤلمة في الحياة. فلا تتخذنّها هزؤا. انظروا إليها نظرة رفق ورأفة. تعرفون كم أنا فقير، ومع ذلك أمنحكم الكثير. فهلاّ تتقبلون هبّة قلب بسيط رهيف، قلب مفعم بالمحبة والإخاء. فلا تُعرضوا عنه بابتسامة سخرية.
مأوايَ الطيني البارد يتسع لاستقبالكم، أدعوكم ليلا إلى الروابي لتشاركوني رؤاي وهلوساتي. تعالوا أنّى شئتم لنتسكع معا في دروبي العتيقة. ولا تنسوا أن تأخذوا ملء أيديكم باقات صور. إذا كنتم يائسين أو مكتئبين، فسأعلّمكم أناشيد تحبّب الحياة إليكم وتشيع البهجة في أنفسكم.
أصحابي.
نحن نتكلم نفس اللغة، أليس كذلك؟ فلننس أرذل العمر، ولنعد إلى لهونا ومرحنا. أوصيكم بإدمان الضحك. ليس في نيتي طبعا أن أعظكم. حسبي أني أستعذب مخاطبتكم. فما أحلى أن يتكلم المرء مع أصدقائه في أوقات الشدة والوحدة. قولوا عني إني ثرثار، قولوا عني إني كسلان، انعتوني بالبله أو بالهبل، فلن يهمني كل هذا. أما أنا، فلن أبدي فيكم أي رأي. لن أدينكم. أنا، كما أنتم، غير معصوم من التناقض والخطأ. خليط أنا من الغرور والأنانية … ألم يُخلق الإنسان ضعيفا؟ لكني، كما أنتم، أتطلع إلى الحقيقة، وأصبو كما أنتم إلى المحبة والتسامح. نحن جميعا مدعوّون إلى نفس الوليمة. لنأكل من نفس الصحن ولنشرب من نفس القدح. لا تبعدوني عنكم كما لو كنت مصابا بالطاعون.
إن من لا يخدم عشيرته لا يمكنه إلا أن يسيء إليها. لكن، مَن يخدم مَن؟ بل ما معنى أن تخدم أحدا؟ لماذا إكراه الشاعر على أن يهتم بعالم يرفضه؟ إن تمجيد الغباوة ليس أبدا ديدنه.
كثيرا ما تقولون عنا، نحن زمرة الشعراء: تكلموا بلغة نستطيع فهمها أو أمسكوا عن الكلام! أما أنا، فأقول لكم: مهما تحاولوا عن الكلام ردعي، فما أنا بصامت! افهموا بأنفسكم إن كنتم ترغبون في ذلك، وإلا فلديكم ما شاء الله من فقهاء اللغة والأساتذة والمنظّرين والجغرافيين والمؤرخين والعلماء ليساعدوكم على الفهم.
لا شيء عندي أعلّمكم إياه، أنا نفسي لا أعرف شيئا. تتحدثون عن الحرية ! كونوا معي أسخياء وامنحوني حرية أن أحلم وأن أغنّي في أوقات فراغي. امنحوني حرية أن أتدبر ذاتي كما أشاء لأكون كما أشاء. امنحوني باختصار حرية أن أحقق فرحي الأسمى.
لن أحكي لكم ما رأيته بأمّ عيني، وأنتم لم تبوحوا لي بأية أسرار. إن عالم الكلمات هو عالمي. فالكلمات أدوات عملي. إنها مواد حية، جواهر جوهرية. حاجتي ماسة إلى كلمات تطفح بالشمس والألوان. تارة أنا موسيقيّ وتارة رسام. لكن العالم الذي أترنم به وأرسمه ليس عالمكم، بحثت عنه في الواقع فوجدته في أحلامي.
كيف يمكن لي أن أسيء إلى عشيرتي؟ هي تملك السلطة… دمغتْ جسدي بالنار… قيدتْ اسمي في سجلاتها الكبيرة… أمرتني بالطاعة… فانبطحتُ أمام أعيانها من أجل قسط من الراحة. وكل يوم أقتل بعضا مني تلبية لنداء الواجب المقيت، فليكن. أنا راض بما يمليه عليّ قانون العشيرة. لا أتمرد ولا أصرخ. إذا كنت لا أستحق أن آكل من الكعكة، فلن أمد إليها يدي. وإذا كان ماء هذه العين محبسا على حلقوم ما محظوظ فلن يتطاول عليه فمي.
كلوا واشربوا يا أصحابي هنيئا مريئا، فخيرات الدنيا كلها ملككم. عندكم شعراء ليخلّدوا مناقبكم ويتغنوا بلوعات الشوق في قلوبكم ويُثنوا على آلهتكم. لديكم بهاليل ينسونكم ملل الاحتفالات الرسمية وقساوة الطقوس الدينية. تتفرجون على هرجهم الذي يستثير الضحك وعلى مرجهم الذي يستدرّ الشفقة.
أيا صِحابي.
نهبتموني ولما ينضب جشعكم. ماذا يهمني أن أكون فقيرا؟ دعوني أخفف أحزاني. دعوني أغنّ على مقام الألحان الذي يعجبني. اتركوا لي حرية أن أختار موضوعات قصائدي. لا تنصتوا إلى أهازيجي إن كانت لا تطربكم. وإذا شنفت إحداها آذانكم، فأنا أعرف ما ستقولونه، ستقولون: «إنه صوت شاعر آخر يدّعيه لنفسه». لا، صدقوني. فالصوت الذي تكونون قد استمعتم إليه هو ما حباني الله تعالى إياه، فشكرا على نعمه.
كنت أصبحت غصنا ميتا تذروه ريح الخريف، فشكرا لك يا مولاي على أن أرجعت لي غنائي. أحس برياح لواقح تسري في عروقي. يخيل إليّ أن براعم تنبت ببطء في جسدي وتوشك أن تتفتح عن أزاهير. ها قد عادت الشمس بعد طول انكساف عن كياني طوال سباتي. هي ذي أشعتها تنعشني، كالسهام تخترقني، الدفء تبثه في أعضائي، فترقص لها فرحا روحي. فيا لروعة الفتنة التي تنبعث من هذا الضياء.
إلاهي، كم يخيفني البرد والليل. ملكوتك يدعوني الآن إليه. لا وقت لي للحقد ولا اقتدار لي على الخصام.
-*-*-*-
– أخبِرنا أ الحاج حمّاد بما تلمّح إليه هذه الأوراق…
– لا أعرف، لا أعرف، ثم ماذا عساها أن تلمّح إليه من معان؟ حسْبُها أنها رسالة من صديق».
حوار مع الناقد حسن بحراوي:
الرواية المغربية تأخرت عن الرواية المشرقية بحوالي نصف قرن
يحاور الملحق الثقافي لجريدة «الأخبار» الأستاذ حسن بحراوي المتخصص في السرد المغربي الحديث خصوصاً، والأدب المغربي بصفة عامة. استضفنا في هذا الملف حول الرواية المغربية في مرحلة التأسيس مجموعة من الأقلام الأدبية المغربية للمساهمة والتأمل: رشيد بحدو، صدوق نور الدين وشعيب حليفي.
حاوره: محمود عبد الغني
– هناك خلاف بخصوص تاريخ ونشأة الرواية المغربية. أنت كمتخصص في دراسة هذه الرواية هل يمكنك التفضل بتقديم بعض الإضاءات؟
+ يقوم اختلاف يمتد لعقدين من الزمن بين الدارسين بشأن تاريخ ظهور الرواية المغربية، فمن قائل إن انطلاقتها كانت مع كتاب (الزاوية- 1942) للتهامي الوزاني، وقائل إن البداية سجلتها الرواية التاريخية (وزير غرناطة- 1950) لعبد الهادي بوطالب، ومؤكد بأن السبق كان لسيرة (في الطفولة- 1957) لعبد المجيد بنجلون.
غير أن الاتفاق حصل بعد ذلك على أن بداية الرواية بمعناها الأجناسي المتعارف عليه إنما كانت لصالح رواية (دفنا الماضي- 1966) التي نشرها في بيروت الكاتب والصحافي عبد الكريم غلاب، متبوعة برواية (جيل الظمأ- 1967) التي نشرت هي كذلك في بيروت من طرف الفيلسوف محمد عزيز الحبابي، قبل أن يتوالى صدور روايات مغربية أخرى ابتداء من مطلع السبعينات مثل رواية (الغربة- 1971) لعبد الله العروي، و(الطيبون-1972) لمبارك ربيع و(المرأة والوردة- 1972) لمحمد زفزاف..
إذا اعتمدنا الإثبات الأخير والأقرب إلى الدقة (1966 أي سنة صدور دفنا الماضي)، تكون الرواية المغربية قد تأخرت حوالي نصف قرن عن ظهور الرواية المصرية (زينب- 1914)، فهل كان ذلك التأخر ناتجا عن ميل المغاربة إلى التعبير الشعري (ديوان أحلام الفجر- 1936 لعبد القادر حسن) وفي ما بعد القصصي (وادي الدماء- 1947 لعبد المجيد بنجلون).. أم إلى تعثر وسائل النشر باللغة العربية في الحقبة الاستعمارية، أم أن ذائقة الكاتب المغربي في تلك الفترة لم تكن تسعفه على ارتياد عالم الرواية مع ما يفترض فيه من شساعة وتعقيد؟
– هل يمكن الانطلاق من بعض نصوص الرواية المغربية لاستخراج الخصائص الجمالية والموضوعاتية؟
+ بعد المرحلة الستينية التي يمكن اعتبارها (كلاسيكية) من الناحية الفنية حيث الشخوص والفضاءات مرسومة بطريقة نظامية أي مستوفية للشروط المألوفة من وصف وتقديم، ستعبر الرواية المغربية تدريجيا نحو مرحلة تعطي الاعتبار لمسائل البناء الجمالي وطرائق السرد الحكائي المتحرر نسبيا من القيود وتقترح بالتالي على القارئ محاولات شكلية على هذا القدر أو ذاك من الحداثة والتجريب، خاصة من حيث التعبير الشعري وبوليفونية الأصوات وتعدد الرواة وتشظي الأحداث وغير ذلك مما استفاده الكتاب الشباب أمثال محمد زفزاف وأحمد المديني ومحمد عز الدين التازي من قراءاتهم لمنجزات الرواية الغربية وانفتاحهم على المتن المشرقي الطليعي.
على الصعيد الموضوعاتي ستغادر الرواية المغربية تيمة (الأطروحة الوطنية) التي جرى تداولها بقوة لدى الكتاب الرواد كغلاب والعروي وربيع، وانصبت على تصوير ذيول الاستقلال السياسي للمغرب وما ترتب عليها من خيبات وانتكاسات أصابت المجتمع الذي كان يتطلع للعدالة والحرية، وتبرز للوجود شخصية الإنسان البسيط والموظف الصغير الذي يعاني من الضغط الاجتماعي والعوز الاقتصادي كما بلورها على الخصوص زفزاف في رواياته المتعاقبة، وحاول لفيف من الروائيين الآخرين ممارسة حداثة تجريبية كانت إعادة إنتاج لوعيهم الجمالي والفني أكثر منها تعبيرا عن الوعي السياسي أو التصوير الواقعي لمجتمع يعاني أفراده من فقدان الهوية وصعوبة الانتماء، ومال آخرون إلى استثمار الأساطير والرموز القديمة والجديدة للتعبير عن فكرة لم تكن دائما ذات قوة أو جاذبية بالنسبة للحاضر أو المستقبل.
ومع حلول الألفية الثالثة برزت إلى السطح محاولات أدارت ظهرها للهموم الروائية المشتركة وانساقت وراء متاهات تخييلية يأهلها التمرد والجنس والنزعة الفردانية، وأصبحنا معها على مبعدة منظورة من عوالم الفئات المهمشة اجتماعيا والمحبطة اقتصاديا والمقموعة سياسيا. والتي، وإن كانت قد واصلت الحضور (الخافت) في بعض الأعمال، فإنها صارت قطعة من ماضي الرواية المغربية التي لم تتجاوز عقدها السابع إلا بقليل.
– وماذا عن الرواية المغربية المعبرة بالفرنسية؟
+ لأمر ما، يصعب تناوله في هذه العجالة، كانت هذه الرواية أسبق في الظهور من شقيقتها المعبرة بالعربية، فمع أحمد الصفريوي في (سبحة العنبر-1949) وإدريس الشرايبي في (الماضي البسيط-1954) سنجد أنفسنا أمام كتابات ذات مرجعية مغربية حقاً ولكن بخلفية سياسية لها صلة بحقبة الحماية، لذلك سيسارع النقاد إلى اتهامها، عن غير صواب دائما، بالنزعة الفرانكوفونية والتصوير الإثنوغرافي.
سيتطور هذا الاتجاه في الكتابة بالفرنسية انطلاقا من السبعينات نحو آفاق رحيبة ومتميزة كما نسجلها مع الطاهر بنجلون (غونكور1987) وفؤاد العروي وعبد الحق سرحان وأمين يوسف العلمي وماحي بينبين ومحمد نضالي وآخرين..
وربما أمكننا ملاحظة أن أعمال هؤلاء لا تقل عن زملائهم المعبرين بالعربية من حيث تكريس الهوية الوطنية والإنسية المغربية عبر التركيز على العادات ومظاهر الحياة اليومية، ما يؤكد أن التعبير بلغة أجنبية لا يؤدي بالضرورة إلى الاغتراب والاستلاب أو ازدواجية الهوية الممقوت.
– وماذا عن علاقة الروائي بالتاريخي؟
+ مارس التاريخ على الدوام تأثيره على الروائي العربي منذ تجربة جورجي زيدان في مستهل القرن الماضي، وكانت التجارب الأولى في السرد المغربي الحديث قد جعلت من الشخصيات التاريخية مدخلها إلى التعبير الفني كما حصل مع عبد الهادي بوطالب في (وزير غرناطة- 1950) وأمينة اللوه في (الملكة خناثة-1954). وتواصل هذا الميل إلى الاستلهام التاريخي في الرواية مع الأجيال اللاحقة من الكتاب الذين كاد بعضهم أن يتخصص فيه مثل أحمد التوفيق (جارات أبي موسى-1997، السيل-1998 وغريبة الحسين-2000)، أو بنسالم حميش (مجنون الحكم-1990، العلامة-1997 وهذا الأندلسي-2007)، وسعيد بنسعيد العلوي (ثورة المريدين-2016، سبع ليال وثمانية أيام-2017 وحبس قارة-2021.
هذا دون الالتفات إلى الأعمال التي استثمرت وقائع التاريخ المغربي الحديث خلال حقبة الحماية وبداية الاستقلال مثلا، كما فعل بانتظام كتاب مثل غلاب والعروي وربيع وسواهم كثير.
إن أشكال الانكباب على التاريخ في الرواية المغربية يعتبر شيئا أكثر من ظاهرة عابرة، بل يوشك أن يمثل متلازمة رافقت هذه الرواية منذ نشأتها بكل التنوع والتعدد المتوقعين في هذا السياق، فهل يكون هذا الصنيع دليلا على انحياز الكاتب المغربي للوقائع المعاشة والملموسة التي يؤكدها التاريخ وبالتالي استبعادا للمتخيل المتاح أمام جميع الكتاب؟ أم أن الوقوع تحت طائلة التاريخ هو أحد الاختيارات التي اتخذها كتاب كانوا في معظمهم مؤرخين وفلاسفة قبل أن تستهويهم الرواية وتأخذ بجماع اهتمامهم؟
– الرواية بنت المدينة كما أصبح مؤكداً، كيف كانت علاقة الروائي المغربي بالمدينة؟
+ تشكل المدينة نوعا من الهوية المكانية للرواية في جميع بقاع الأرض، وهي تتبلور كمرجعية طوبوغرافية وخلفية جغرافية لهذا النمط من الكتابة على وجه التحديد (باريس عند بلزاك ودبلن عند جويس والقاهرة عند نجيب محفوظ..إلخ)، وأما في المغرب فنحن نسجل عدم ارتباط الروائي بالمدينة الواحدة وميله إلى تنويع الأماكن والمدارات التي تجري فيها الأحداث.. صحيح كتب غلاب والتازي عن فاس، وكتب شكري عن طنجة، وكتب المديني وربيع عن الدار البيضاء. غير أن مدنا عريقة مثل العاصمة الرباط ومراكش لم تجد من يتخذها فضاء لروايته. وهكذا يبدو توزيع الحضور الروائي للمدن المغربية غير عادل أو محكوما بمنطق المصادفة لا أكثر. فقد كتب زفزاف كثيرا عن الصويرة (الأفعى والبحر-1979- الثعلب الذي يظهر ويختفي-1985) مع أنه لا ينتسب إليها وإنما جاءها زائرا في حقبة الحركة الهيبية، وكتب محمد برادة عن طنجة زائرا كذلك (الضوء الهارب-1993)، ومثلهما فعل عز الدين التازي مع مدن الشمال كما في روايته (رحيل البحر-1983)، بل إن بعض الكتاب اختاروا لرواياتهم مدنا غير موجودة أصلا أطلقوا عليها أسماء رمزية مثل (الصديقية) في روايات العروي و(المنسية وعين الفرس) في روايات الميلودي شغموم…إلخ
– هل الارتباط بالمدينة المغربية في الرواية يؤكد هوية ما؟ بعبارة أخرى هل تشكل المدينة هوية مرجعية للرواية؟
إن حالة المغرب، بما هو بلد للهجرات المتواصلة، تؤكد عدم وجود علاقة استلزامية بين الانتماء لمدينة ما وضرورة الكتابة عنها، فكثير من الروائيين من أصول قروية لا يخفونها ولكنهم كتبوا دون عقد عن مدن أقاموا بها، فهذا مبارك ربيع من سيدي معاشو وكتب كثيرا عن الدار البيضاء ومثله فعل أحمد المديني وهو من برشيد، وزفزاف من سوق الأربعاء وكتب عن مدن مغربية شتى، وشكري من بني شيكر الريفية وتخصص في مدينة طنجة.. إلخ
– كيف تنظر إلى مآل الرواية المغربية؟
في الحقيقة يجوز الحديث عن عدة مآلات لهذه الرواية التي ظلت منذ نشأتها مفتوحة على جميع الاحتمالات، فقد التحق بموكبها مؤرخون وفلاسفة كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وانضاف إليهم شعراء بارزون أمثال بنسالم حميش ومحمد الأشعري وحسن نجمي.. وبالفرنسية شعراء مثل محمد خير الدين والطاهر بنجلون وعبد الكبير الخطيبي..إلخ ومن المسرح كتب الرواية عبد القادر السميحي ويوسف فاضل وإدريس كسيكس..
يمكن اعتبار هذه الهجرة إلى الرواية في المغرب ظاهرة صحية وتجربة إبداعية تغنيها وتغتني بها في جميع الأحوال، وأكثر من ذلك سبيلا إلى رفع الحدود المصطنعة بين الأجناس الأدبية ومعاملتها على قدر المساواة.
وبالرغم مما يقال عن الجوائز العربية من نخبوية وشروط إقصائية لم تعد تثير الاستغراب، فإن كتابا وكاتبات عديدين وعديدات تمكنوا من نيلها وفي أقل الأحوال المثول في قوائمها القصيرة أو الطويلة كما حصل مع الرواد مثل برادة وربيع وحميش.. أو من جاء بعدهم كيوسف فاضل والأشعري والجويطي واللائحة أبعد ما تكون عن الاستيفاء.
كل هذا يدلنا على أن الرواية المغربية لابد أنها تتميز بالتفوق الذي يجعلها تحظى بالتفاف لجان الجوائز كيفما كانت ميولها وحساسيتها. كما أن تكاثر وتعدد طبعات تلك الروايات وتداولها الكبير من طرف المتلقين المغاربة والعرب متزايدي العدد من شأنه أن يجعلنا نأمل لهذه الرواية في مستقبل واعد ومآل سعيد.
بين التأسيس والريادة
صدوق نورالدين
شكلت مرحلة السبعينيات تحديدا، _ وقل أن انتبه _ نقلة دالة عميقة على مستوى التأسيس للكتابة الروائية بالمغرب. إذ سيتحقق في هذه المرحلة ظهور نصوص روائية اختارت بناء رهان الكتابة على الإبدال المرتبط بالشكل أو الصيغة حسب ما درج القول النقدي، إلى طبيعة المادة المتناولة، علما بأن مرجعية التأسيس لم تكن مشرقية وحسب، وإنما انفتحت على مستجدات الرواية الغربية، وبالضبط متحققات الرواية الفرنسية وما تمت ترجمته عن لغات عالمية كالأنجليزية، الروسية والألمانية، دون الغفل عن كون التأثير شمل الرواية العربية ككل وليس المغربية وحسب. ونشير على سبيل التمثيل إلى الحضور القوي لنصوص مارسيل بروست، كافكا، فولكنر، جيمس جويس، هرمان هسه، توماس مان، وهو ما يفرض الاستجلاء في سياق النقد المقارن للوقوف على حدود التمثل والتقاطع.
على أن من التجارب التي طبعت المرحلة، تحق الإشارة إلى الروايات التالية: المرأة والوردة، الغربة، زمن بين الولادة والحلم، أبراج المدينة، الطيبون، علما بالتباين الذي يسمها من حيث مرجعياتها إلى المفهوم الذي يؤسس وفقه الروائي تصوره للكتابة الروائية، خاصة وأن من هذه التجارب من راهن مبدعوها على الاعتقاد بكون مكون اللغة في أقصى درجات شعريتها، الأساس الذي تنهض عليه الرواية، ونمثل بأحمد المديني ومحمد عزالدين في بداياتهما التي كانت واقعة تحت ضغط منجز الروائي إدوار الخراط سواء في مجموعته القصصية حيطان عالية بداية، أو رامة والتنين في ما بعد، مادام أنهما في التجارب الروائية اللاحقة لم يستمرا في نهج المسار ذاته، وإنما ركزا على الحكاية أيضا. ويمكن أن نضيف كون هؤلاء المبدعين قد انخرطوا في الكتابة من خلال أجناس أخرى الشعر والقصة والمسرحية (محمد زفزاف)، أو الشعر والقصة (أحمد المديني) والقصة فقط (محمد عز الدين التازي ومبارك ربيع)، مع الإشارة إلى كون الأستاذ عبد الله العروي لم يخض في كتابة القصة القصيرة، ولم تذكر من بين مؤلفاته مجموعة قصصية، وإنما حوار تلفزيوني تمثل في نص رجل الذكرى، وهو أول نص كتبه.
واختص بالتفرد في هذه المرحلة الراحل محمد زفزاف، إذ انطلاقا مما راكمه من آثار روائية، يعد المؤسس الفعلي للكتابة الروائية الحديثة في المغرب، الكتابة التي ناهضت الشكل التقليدي للإنجاز الروائي، واختطت المنحى المغاير الذي اقتضى التداول النقدي الموسع، ولئن تحقق تغليب النقد الإيديولوجي إلى نعوت من قبيل البورجوازية الصغيرة. ويعود ذلك لطبيعة المرحلة، وما هيمن من صراعات سياسية ألقت بظلالها على الظاهرة الأدبية، وهو ما بات يفرض إعادة قراءة الآثار الروائية لمحمد زفزاف وغيره ممن شملته الأحكام ذاتها، إذ عوض قراءة النص وفق ما أدعوه بالقراءة الثلاثية: أي في ذاته، وثانيا ضمن آثار المؤلف نفسه، وثالثا في سياق الإنتاجية الروائية مغربيا وعربيا، يلجأ إلى ربط النصوص بوقائع خارجية في نوع من المطابقة والإجهاز على جماليات الكتابة الروائية.
إن ترسيخ فعل التأسيس يلزمنا بضرورة الوقوف على الخاصات (الخاصيات) التي تميز بها المتن الروائي لمحمد زفزاف:
1/ الاستمرارية: وتتجسد في مواصلة الكتابة والإنتاج، حيث وازى الراحل بين إصدار مجموعة قصصية ونص روائي في السنة ذاتها تقريبا، ومثلت أفواه واسعة النص الروائي الأخير الذي يعتبر بمثابة بيان في كيفية الكتابة والتأليف الروائيين. أقول، جسدت الرد القاطع على من حرصوا على نقد منجزه الإبداعي وفق أساليب غير موضوعية.
2/ تكسير النوع: ويدل عليه الضم الأجناسي المتمثل في توظيف أنواع أدبية من خارج جنس الرواية كالشعر، الرسالة والحكاية، دون فقد الهوية الحقة للأثر الأدبي سواء أكان قصة قصيرة أو رواية.
3/ هيمنة الذات: وتعكسها الشخصية الرئيسة أو الأساس في النص، إذ تبدو من خلال أكثر من ملمح وكأني بها تطابق الروائي، وهو ما قاد الراحل إلى عدم إفراد سيرة ذاتية عن أو لحياته، وإنما آثر تصريف وقائع الذات ضمن الرواية أصلا، علما باعترافه الشهير لن أكتب سيرة ذاتية محض، لكني على استعداد لإملائها. ومن جانب آخر عد بعض النقاد روايات محمد زفزاف سيرة ذاتية كبرى توزعت على روايات متقطعة، إذ يمكن من خلال التقطع لملمة تفاصيل حياته، وعلى السواء صيغ الكتابة في ثباتها وتحولاتها.
4/ الجرأة: ويستدل عليها انطلاقا من ربط الرواية بالحرية، من منطلق مؤداه أن الكتابة الأدبية الإبداعية لا تعترف بالموانع والرقابات، وإنما ديدنها يكمن في التعرية والفضح والكشف. وأعتقد بأن الروائي محمد زفزاف، أقول الروائي، مثل أجرأ كاتب مغربي يعي تمام الوعي لحظة تثبيت مواقفه والدفاع عنها.
5/ الحس الساخر: ويتضح انطلاقا من مكون اللغة، حيث امتلك محمد زفزاف كفاءة نحت اللغة الملائمة للحكاية التي يعمل على بنائها. فإيقاعات هذا المكون تتراوح بين الشعري الذي يحيل على المشهد الموصوف، وثم تبرز صورة الشاعر، والتكرار الذي يوسع الفكرة من دون إعادتها. وأحيانا كان يبرع في خلق لغة وسطى بين الفصحى والدارجة مع هوامش في أسفل الصفحة تؤكد تدخل الروائي في عمله، وهو ما يستوقفنا في رائعته بيضة الديك.
يبقى القول، في ختام هذه الكلمة، أن المطلب الرئيس يتحدد في قيمة وأهمية إعادة قراءة الآثار الروائية للراحل من منظور مغاير، وهو الذي جمع بين التأسيس والريادة لفن الرواية بالمغرب.
الروائية الفرنسية ناج سينّو تفوز بجائزة «غونكور» لطلاب المدارس الثانوية
فازت الروائية الفرنسية ناج سينّو بجائزة «غونكور» لطلاب المدارس الثانوية، في نسختها السادسة والثلاثين لسنة 2023، عن روايتها «النمر الحزين» (288 صفحة). في هذه الرواية، التي نشرت لدى «بول»، وهي روايتها الثالثة، تعود الكاتبة إلى الوراء لتستعيد وتتأمل عمليات الاغتصاب التي كانت تتعرض لها من قبل زوج والدتها عندما كانت طفلة. وبذلك فقد فازت كما تفوز جميع الروايات التي تتسم بخصائص أدبية ومعالجة جريئة لموضوع حساس.
وصرّحت الطالبة القارئة في السنة النهائية ورئيسة لجنة التحكيم، ميلين ديبايلول، للصحافة الفرنسية، منوهة بالجهد المبذول في كتابة الرواية وبموضوعها الحساس. وردّت الروائية ناج سينّو بالقول: «من أعماق قلبي أشكر طلاب المدارس الثانوية الذين قرأوا روايتي ووثقوا في جرأتها. إن القراءات التي تقوم بها عندما تكون صغيرا، مهمة للغاية. إنها قراءات تغيرنا ويسعدني أن أعرف أنه ربما ينتج هذا النص شيئا في مستقبل الشخص، إنه رائع، يجعلني سعيدة جدا جدا».
وثمنت الصحافة الثقافية في فرنسا تتويج هذه الرواية، مثنية على أسلوبها الحيوي، وعلى موضوعها الذي أخذ من آلام المغتصبة عدة عقود من التفكير والبحث، لتروي عمليات الاغتصاب المتكررة التي فرضها عليها زوج والدتها عندما كانت طفلة، والعواقب على حياتها والأسئلة التي أثارتها هذه الجرائم التي أدين بها المغتصب. تحكي ناج سنو عن منطق المغتصب، وكيف أنها، بعد فترة طويلة من التردّد، حسمت موقفها وتقدمت بشكوى ضدّه.
اتحاد كتاب المغرب يؤكد حضوره ومشاركته في اجتماع الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب
الأخبار
أكد المكتب التنفيذي لاتحاد كتاب المغرب، سفر ممثلين عن الاتحاد (الرئيس عبد الرحيم العلام والمستشار عبد المجيد شكير) إلى نواكشوط، على إثر الإقصاء غير المبرر الذي تعرض له الاتحاد، لأزيد من خمس سنوات، باستبعاده من حضور مؤتمرات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب واجتماعات مجلسه.
وأضاف بلاغ رسمي أن مُمَثّلي اتحاد كتاب المغرب بادرا، في اليومين الأولين من تواجدهما بنواكشوط، إلى الاستقصاء حول أسباب عدم دعوة الاتحاد من لدن الأمانة العامة للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، على مدى دورات خلت، لحضور مختلف الفعاليات سالفة الذكر والمشاركة فيها، مشيرا إلى أنه بعدما تم التحري في الموضوع، داخل لجنة مغاربية، وعلى مستوى اجتماع مجلس الاتحاد العام، قرر المجلس ورسميا في بيانه الختامي عودة اتحاد كتاب المغرب إلى الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب.
وأكد البلاغ ذاته مشاركة اتحاد كتاب المغرب في جلسة ختامية خاصة بالمنتدى العربي الإفريقي للآداب والثقافة، الذي تم تأسيسه بنواكشوط، بحضور ممثلي اتحادات وروابط وجمعيات وأسر ومجالس الكتاب العرب وممثلي بعض الهيئات الثقافية الإفريقية. وأوضح البلاغ أن اتحاد كتاب المغرب تقدم، خلال هذا الاجتماع، ببعض مقترحاته لتطوير عمل المنتدى، وهي الاقتراحات التي حظيت بترحيب كبير من لدن ممثلي مختلف الهيئات المشاركة في الاجتماع.
وحضر اتحاد كتاب المغرب، كذلك، الجلسة الختامية لأشغال مجلس الاتحاد العام، والتي تمت خلالها تلاوة البيانات الصادرة عن اجتماع مجلس الاتحاد العام، بما فيها البيان الختامي الذي تضمن تأكيد عضوية اتحاد كتاب المغرب ومشاركته، إلى جانب باقي الهيئات العربية الأخرى، في الدورة الحالية لمجلس الاتحاد العام.
وتم تشريف اتحاد كتاب المغرب، وذلك بتكريم ممثليه، بتسليم كل منهما درع اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين، بمثل ما تم تشريف رئيس الاتحاد بتسليم إحدى جوائز المسابقة الأدبية، للفائز بها من الشقيقة موريتانيا، في حفل كبير وبهيج، حضرته شخصيات رفيعة، على رأسها وزير التهذيب الوطني وإصلاح النظام التعليمي الموريتاني، والأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، وعدد من ممثلي هيئات الكتاب والأدباء بالعالم العربي وإفريقيا.
إلى ذلك، يؤكد اتحاد كتاب المغرب، في بلاغ له، على أن عودة المنظمة إلى حاضنتها الثقافية العربية «تعود بالأساس إلى:
– استحضار السادة رؤساء وممثلي اتحادات وروابط وجمعيات وأسر ومجالس الكتاب والأدباء العرب، للمصالح العليا لأسرة الثقافة والإبداع في العالم العربي وللم الشمل، في انتصارهم جميعا للشرعية وللمقتضيات القانونية المنظمة.
-التفاف أعضاء اتحاد كتاب المغرب حول منظمتهم وأجهزتها الشرعية، رغم كل المصاعب والمؤامرات المشبوهة التي تحاك ضدها، وتشبثهم بالشرعية القانونية والالتزام بقرارات ومبادرات الأجهزة التنظيمية الشرعية، باعتبارهما السبيل الوحيد لتجاوز أي تعثر مفتعل، في أفق عقد مؤتمر وطني ديمقراطي حقيقي، يشكل فرصة للتداول الديمقراطي المسؤول، ورسم آفاق جديدة لهذه المنظمة الوطنية العتيدة، في ظل مغرب ثقافي متغير».