إعداد وتقديم: سعيد الباز
(لوحة سفينة الحمقى/ جيروم بوش)
إنّ علاقة الترابط بين الإبداع الفني والأدبي والشخصية الإنسانية، في الجانبين الشعوري واللاشعوري، يدفع بالتأكيد إلى طرح مسألة الحدود الشائكة بين النبوغ الإبداعي والجنون ونقطة التماس الخفية بينهما. ورغم أنّ شواهد كثيرة ومختلفة لمبدعين وفنانين لامسوا الحدود الفارقة بين الإبداع والجنون أو الاختلال العقلي والنفسي، تبرز لنا أهمية هذه الظاهرة في تفسير العمل الإبداعي في أعماقه الخفية، إلا أن حضور هذه الظاهرة يتخذ أشكالا متعددة ومستويات مختلفة، منها الاستناد إلى التجربة الشخصية في تناولها من هذه الزاوية في التعبير عنها، كما هو الشأن مع الكاتب الأمريكي وليام ستايرون William Styron في كتابه «ظلام مرئي، مذكرات الجنون»، أو الكاتب المغربي محمد أسليم «كتاب الفقدان، مذكرات شيزوفريني» أو محمد شكري في «ورد ورماد»..، أو الكتابة عن هذه الظاهرة من زاوية تحليلها تاريخيا أو نفسيا، مثل الفرنسي ميشيل فوكو في «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» أو المصري شاكر عبد الحميد في كتابه «الدخان واللهب». هناك، أيضا، من تطرق إلى ظاهرة الجنون أو الحماقة دفاعا عنها وإبرازا لجوانب أخرى منها، مثل الكاتب السوري ممدوح عدوان في «دفاعا عن الجنون» أو الفيلسوف والمربّي الهولندي إراسموس في كتابه الشهير «في مديح الحماقة». وأخيرا تشكيليا من خلال نموذجي المغربي عباس صلادي والنرويجي إدفارد مونش.
وليام ستايرون.. مذكرات الجنون
… سيكون مفيدا أن أسجّل بعضا من تجاربي الخاصّة مع المرض، وربّما أمكنني خلال ذلك أن أضع إطارا مرجعيا يمكن الخروج من خلاله ببعض الخلاصات القيّمة. ولابدّ من التشديد على أنّ هذه الخلاصات يجب أن تظلّ مستندة إلى الوقائع التي جرت مع فرد واحد. ولستُ أنوي خلال تسجيلي هذه التأملات أن أقدم تجربتي القاسية باعتبارها تمثيلا لما يحدث أو قد يحدث مع الآخرين، فالاكتئاب مرض شديد التعقيد في أسبابه وأعراضه وعلاجه، ويتعذّر معه الخروج بخلاصات قاطعة استنادا إلى تجربة فرد واحد. وعلى الرغم من أن الاكتئاب كمرض يحمل بعض الخصائص الثابتة التي لا تتغيّر من شخص إلى آخر، فإنّه يسمح أيضا بوجود الكثير من السمات الخاصة. وقد اندهشتُ لبعض الظواهر الغريبة، التي لم يبلّغ عنها مرضى آخرون، التي أحدثها الاكتئاب في تلافيف متاهة ذهني.
إنّ الاكتئاب يصيب ملايين الأشخاص بشكل مباشر، ويصيب أيضا ملايين آخرين من أقارب هؤلاء الضحايا أو أصدقائهم… لذلك يكفي أن نقول إنّ قلة قليلة من الناس هم من يفلتون من براثن المرض ولا يكونون من ضحاياه، ولو في شكله الأكثر اعتدالا على الأقل. وعلى الرغم من انتشار الاكتئاب على نطاق واسع، فقد بات هناك اقتناع كبير بأنّ الأشخاص ذوي الميول الفنية والأدبية (سيما الشعراء منهم) هم الأكثر عرضة للإصابة بهذا الاضطراب، الذي تدفع أعراضُه الحادّة والأشدّ خطورة عشرين بالمائة من ضحاياه لإنهاء حياتهم انتحارا. ويمكن لقلة فقط من الأدباء والفنانين الذين قضوا منتحرين، وجميعهم ينتمون إلى العصر الحديث، أن يُشكّلوا قائمة محزنة ومرصّعة بأسماء مشاهير، مثل: «هارت كرين» و«فينسنت فان غوخ» و«فيرجينيا ولف» و«أرشيلي غوركي» و«سيزاري بافيزي» و«رومان جاري»… و«سيلفيا بلاث» و«هنري دومونترلان»… و«جاك لندن» و«إرنست همنغواي»… و«بول سيلان» و«سيرغي إيسنين» و«فلاديمير ماياكوفسكي» والقائمة تطول. وكان الشاعر الروسي ماياكوفسكي قد وجّه انتقادات لاذعة لأحد معاصريه العظام وهو إيسنين بعد انتحار الأخير قبل عدة سنوات، وهو ما ينبغي أن يكون بمثابة جرس إنذار لكل من يُصدرون أحكاما أخلاقية تُدين هؤلاء الذين يقدمون على إهلاك أنفسهم. وحينما يُفكّر المرء في هؤلاء الرجال والنساء ممن قضوا منتحرين وكانوا من كبار المبدعين، يجد نفسه مشدودا نحو تأمّل سنوات الطفولة التي عاشها هؤلاء المنتحرون، والتي ربما تمدّ بذور المرض جذورها القوية. فهل كان بوسع أيّ منهم أن يلمح، حينذاك، قابلية نفسه للهلاك وهشاشتها الشديدة؟ ولماذا أقدموا على هلاك أنفسهم، فيما هناك آخرون ممن أصابهم المرض مثلهم، ولكنّهم قاوموه حتّى النهاية؟
… حينما أدركت للمرة الأولى أنّ المرض تمكّن منّي وأنهكني، شعرتُ أنّه يتعيّن عليّ، من بين أمور أخرى، أن أسجل احتجاجا قويا على كلمة اكتئاب (depression) كان اضطراب الاكتئاب، حسبما يعرف معظم الناس، يسمى سابقا «ملانخوليا» ومازالت كلمة «ملانخوليا» تبدو هي الأنسب والأصدق تعبيرا عن أشدّ أشكال المرض قتامة…
شاكر عبد الحميد.. الدخان واللهب
… احتار الأطباء في تشخيص حالة فان غوغ فوصفوه تقريبا بكل مرض نفسي أو عصبي أو جسدي معروف فعلا. لقد شُخّص على أنه مريض بالفصام، وبالصرع وبالتسمم الكحولي… وبأمراض أخرى كثيرة.
… جدير بالذكر أنّه، في بداية ظهور الأعراض المرضية لدى فانسان فان غوغ، بشكل عنيف، وبسبب وجود تداخل كذلك بين مرض الهوس-الاكتئاب ونوبات الصرع الناتج عن مشكلات في الفصّ (الصدغي في المخ)، فإنّ مصحة سان- ريمي صنفت حالة فان غوغ على أنّه يعاني من الفصام وكذلك من هوس حاد مصحوب بهلاوس بصرية وسمعية ومع ذلك ظلت هناك مشكلات كثيرة، ربّما حتّى الآن، في تشخيص حالته.
إنّ ما هو معروف حول تاريخ أعمال فان غوغ وإنتاجاته الإبداعية التي بلغت آلاف اللوحات الزيتية والمائية والرسومات التي تباين عددها واختلف كمّا وكيفا، من شهر إلى آخر، يكشف عن عدد من النتائج المهمة هنا، والتي لعلّ من بينها، تمثيلا لا حصرا، أنّ فصل الصيف كان هو الفصل الذي يمثل الذروة في عمليات الإنتاج الإبداعي لديه، مقارنة بباقي فصول السنة، وقد وصف هو نفسه حالته المزاجية الهائجة، المندفعة، وطاقته المتدفقة المتواصلة، خلال شهور الصيف، وحيث يكون اليوم لديه «طويلا، والجو أكثر دفئا وجفافا بشكل عام»، أمّا بالنسبة للشتاء فقد كتب عنه لأخيه تيو يقول إنه تكون لديه «نوبات خالصة من الاكتئاب خلال شهري نوفمبر وفبراير ونوبات مختلطة بين الحزن والفرح، والطاقة وهبوطها خلال شهري ديسمبر ويناير». وقد نتج عن تلك الاستثارة الخاصة بهذه الحالات المزيج ربما نوع من الطاقة المرتفعة والدافعية الشديدة للرسم لديه. هكذا كان فصل الصيف فصل العمل المتواصل، وفصل الشتاء فصل التأرجح الشديد ما بين الهوس والكآبة.
في خطاب كتبه إلى أخيه تيو قال فان غوغ، معبرا عن هذه الدورية المزاجية: «إذا حدث ذات مرة وكانت الانفعالات قوية بحيث يمكن للمرء أن يعمل، دون أن يعرف أنه يعمل، بخاصة عندما تكون ضربات الفرشاة في حالة مستمرة ومتوافقة، كما هو حال الكلمات في حديث ما أو خطاب. فإنه هنا لابد للمرء أن يتذكر أن الأمر لم يكن دائما كذلك، وإنّه تأتي أوقات أحيانا، وتأتي معها ثانية تلك الأيام الصعبة كلها، تأتي معها كلّ تلك الأيام الخالية من الإلهام… وهكذا فإنّه ينبغي على المرء أن يضرب على الحديد وهو ساخن، وأن يضع كذلك قضبان الحديد، التي تمّ تشكيلها من قبل، جانبا».
… كان فان غوغ شديد التدين وعلّم نفسه الفن، كان طفلا هادئا، تصارعت بداخله الحماسة القوية والاكتئاب العنيف، واتّسم بالتحفظ الشديد والعناد وعدم الميل إلى الاختلاط بالناس وعُرف كذلك بالشراهة في التدخين، وقد كان مميزا بشعره الأحمر وبالتشبث بالرأي والتقلب المزاجي ومحبّا للتنقل من مكان إلى آخر. وقد كانت حياته حافلة بمحاولاته العديدة لتشويه جسده، فقد وضع يده في اللهب المشتعل ذات مرة عندما فشل في الحب، وتحدث كذلك عن محاولات عديدة للانتحار…
إراسموس.. في مديح الحماقة
… إنّ لكثرة ما يسعد الإنسان أن يكون ما يريد فلا يخجل من طريقة تفكيره أو من عقليته ولا من بيته ولا من أهله ولا شكله ولا من سلوكه ولا من بلده ولا أيّ شيء من الواقع الذي يعيشه. أي أنّ الهندي لا يريد أن يكون إيطاليا ولا الأمريكي يريد أن يكون بريطانيا. فمع تنوع الأشياء إلّا أنّها كلّها سواء، فإنّ عطايا الطبيعة تختلف وهي التي تعطيك حبّك لنفسك وعليّ أن أعترف أنّي أتحدث بحماقة لكن هذه الحماقة هي أفضل عطاياها حيث لا يوجد أمر عظيم أو تافه لا تدخل فيه الحماقة ولا يحدث أيّ عمل دون مشاركتي. أليست حرب التجارة هي أساس كلّ شركة معروفة؟ وما أحمق من أن يعلم الطرفان أنّه سيخسر في هذه الصفقة ومع هذا يستمر فيها؟
ودعني أتحدث عن رجاحة العقل فإن كانت رجاحة العقل تعتمد على الخبرة، لذا فإنّ الرجل الحكيم الذي لم يحاول أن يفعل شيئا ليس لديه رجاحة العقل لأنّه ينعزل عن الناس ولا يحاول أن يشارك الناس حياتهم. أمّا الأحمق الذي لا يبالي بشيء ولا يوجد ما يمنعه عن فعل ما يريد ويحاول ويجرّب يصبح أعلم بالحياة وأدرى بالأمور من هذا الحكيم الذي لا يريد أن ينال شرف المحاولة. ولذا فمن يراهم الناس حمقى هم أكثر تعقلا وأكثر رجاحة عقل من هؤلاء الحكماء العاجزين عن الأفعال. إنّ الرجل الحكيم العاكف على قراءة الكتب لا يأخذ سوى الكلمات أمّا الأحمق الذي يغامر في الحياة إذا لم يخطئ فهذا هو الذكاء الحقيقي وهذه هي رجاحة العقل، فعلى الرغم من أنّه أهوج إلّا أنّه قادر على الأفعال وكما يقول البعض (إنّ الطفل المحروق أخاف النار) لأنّه مع حماقته إلّا أنّه حاول فعل شيء. ولكن إن أردت أن تسمّي رجاحة العقل الأشياء هي الأخذ بالأشياء المحكوم عليها من قبل الغير، فهذا ما يكون بعيدا كلّ البعد عن رجاحة العقل، والدليل على هذا أنّ بعض ما يتركه الناس ولا يفعلونه لأنّه قبيح يكون سبب نجاح الآخرين وتميّزهم…
لقد مات إحساس الإنسان بالطبيعة وأصبح كالصخرة متحجرة المشاعر، ويعتبر نفسه بلا أخطاء لكنّه يملك الشعور والإحساس وعنده شعور خاطئ تجاه الآخرين فهو يقيس الأمور على خط مستقيم ولا يسامح أحدا. إنّه يشعر أنّه هو الذي يسعد نفسه، هو الحكيم الوحيد، والغني الوحيد، والملك الوحيد، لا يبحث عن صديق. إنّه يرى أنّه هو كلّ شيء ولا يهتم بأيّ شخص ويسخر من أفعالنا كلّها وهذا الوحشي هو من يسمّيه الناس بالرجل الحكيم… إنّه لا يملك نوعا واحدا من الحماقة، بل يملك كلّ أنواع الحماقة.
… أنا الحماقة، لذا فإنّ هذا المدح يرجع لي… ذلك لأنّ الأحمق يخرج ما في قلبه، وفي أفعاله دون أيّ رقابة من العقل وينعكس إحساسه على أفعاله وتعبيراته ومظهره الخارجي، ومن ثم ينطق به في حديثه مباشرة ودون تجمّل في الحديث. أمّا حديث الحكماء فدائما ما يحمل معنيين فهم يخافون وهذا الخوف يجعلهم يجمّلون الكلام ويزينونه. فهم لا يقولون الحقيقة بوضوح، لأنّ كلامهم رمادي لا هو أبيض ولا أسود. أمّا الحمقى كلامهم إمّا أسود أو أبيض، فهم لا يتلونون. فالحكماء يستطيعون أن يكونوا متحاملين عليك ومتملقين لك في آن واحد، فإذا كان هناك خلاف يستخدمون كلمات ذات معنى مزدوج…
محمد أسليم.. كتاب الفقدان مذكرات شيزوفريني
من أين كانت البداية؟ لم أدر بالضبط أيّ شيء طرأ على مجرى حياتي فجرفني إلى قعر البئر التي أقبع فيها الآن. لكن يسُودني اعتقاد شبه يقيني بأنّ كل شيء قد انطلق يوم أحالني طبيب على طبيب آخر مختص في الأمراض العقلية، وذلك عبر طلب فحص كتب فيه ما يلي: «اسمحوا لي أن أحيل إليكم هذا المريض الذي يبدو، من خلال المقابلة التي أجريتها معه، أنّه يحمل أعراضا شيزوفرينية»، ثم ختمه بتوقيعه الشخصي وطابع المؤسسة.
لم تفاجئني كلمة «شيزوفرينيا» فمن قبل طالما خامرني الإحساس بأني كنت مصابا بهذا المرض بالضبط. لكن ما فاجأني هي الطريقة التي كان يعاملني بها الطبيب. لماذا كان يكلمني بالكيفية التي يُكلّم بها عادة الصبيان والأطفال؟ عفوا!! لماذا زرت الطبيب؟ بل أأنا الذي زرته أم أنّ شخصا ما هو الذي زوّرني إياه؟
لكي أختبر صحة ما قاله الطبيب بخصوص «مرضي» وأرى بنفسي أين تضعني صنافة الأعطاب العقلية والنفسية أمسكت معجما لمفردات التحليل النفسي، وأخذت أتفحص المصطلحات واحدا واحدا صحبة نصوص الشروح المرافقة لها. وكلما أنهيت قراءة مصطلح وفهمه شرعت مباشرة في البحث عمّا يمكن أن يقابله من وقائع في ركام أحداث حياتي. لكن، أيّ شيء عثرت عليه! بل ماذا أقول؟ يا لغبني أم يا لغباوتي؟ ! فأنا لم أجد كلّ أسماء الأمراض والعقد النفسية تنطبق عليّ فحسب، بل وجدتني معجما يسع سائر مصطلحات الأمراض النفسية، ووجدت المعجم «الحقيقي» مجرّد نص يتضمن مفردات مبهمة يتعين على كل من رام شرحها أن يعود إليّ كي أقصّ عليه مجموع وقائع حياتي!
… لقد صار عقلي صورة مكسّرة للعالم وأصبح الناس يتظاهرون من حولي بمظهر مومياءات محنطة. فما من كلمة أفوه بها إلا وتثير الإحساس بالغرابة لدى الآخرين. في أقصى حالات التأدّب والمجاملة يعيرونني آذانهم، وفي حالات دنيا من التأدب يعرضون عن الاستماع مختلقين لذلك أعذارا أو مواعد يزعمون أنها في غاية الأهمية. وفي كلتا الحالتين لا أحظى بأيّ كلمة منهم. لا تعليق، ولا نقاش، ولا استفهام، ولا استفسار، ولا اعتراض… كأنني أحدثهم بلغة نزلت من كوكب آخر، علما بأنني أطرح وأناقش قضايا منهم وإليهم. قضايا لصيقة بأنوفهم وعيونهم، وإن كانت تبدو في حجم الكون. نعم، كثيرا ما يسخرون مني بطرق بارعة في المراوغات الذكية، لكن لي اليقين بأني أؤزمهم بالقدر الذي يؤزمونني به. كلانا أزمة للآخر ! عقولهم علب مغلقة وعقلي هواء طلق. معرفتهم محجمة بأحجام وموزونة بموازين، وأنا درجة صفر في المعرفة. لذلك لم يقبلوا أن أطرح عليهم أسئلة كثيرة، ورفضوا التعاون معي لفكّ قضايا نظرية عسيرة…
ميشيل فوكو.. «سفينة الحمقى»
… وسفينة الحمقى، من بين الأساطيل الروائية أو الهجائية، هي التي كان لها وجود حقيقي. فالسفن التي كانت تنقل حمولتها الجنونية من مدينة إلى أخرى وجدت حقا. ولهذا، فإنّ الحمقى كانوا يعيشون حياة التيه. لقد كانت المدن تطردهم من جنباتها، ليلتحقوا بالبراري حيث يتيهون على وجوههم، هذا في الحالة التي لا يشحنون فيها مع بضائع تجار أو قافلة حجاج. وهذه ممارسة كانت سائدة خاصة في ألمانيا. فقد تمّ في نورينبورغ، في النصف الأول من القرن الخامس عشر، إحصاء 62 مجنونا، 31 منهم تمّ طردهم من المدينة. وفي النصف الثاني من هذا القرن، تمّ تسجيل 21 حالة رحيل قسري، والأمر لا يتعلّق سوى بالمجانين الذين تمّ إحصاؤهم من طرف السلطات البلدية. وقد يحدث أن يُعهد بهم إلى بعض العاملين في السفن: ففي فرانكفورت في 1399 كان يُكلف بعض البحارة بتخليص المدينة من أحمق يتجول عاريا في شوارعها. وفي السنوات الأولى في القرن الخامس عشر تمّ التخلّص من أحمق مجرم بنفس الطريقة، وأرسل إلى مايانس. وأحيانا كان البحارة يلقون بالحمقى خارج السفينة قبل نقطة الوصول، والشاهد على ذلك حالة الحدّاد المنحدر من فرانكفورت الذي ذهب مرتين وعاد مرتين قبل أن يُطرد نهائيا من المدينة إلى كريزناش. وكثيرا ما شهدت أوروبا تلك السفن وهي تعبر الأنهار، وعلى ظهرها عدد كبير من الحمقى.
وليس من السهل تحديد المعنى الدقيق لهذا الإجراء. قد يعتقد البعض أنّ الأمر يتعلّق بإجراء عام للطرد تقوم به السلطات البلدية تجاه هؤلاء الحمقى المتشردين. ولكنّها فرضية لا يمكن أن تفسّر وحدها مجمل الوقائع المرتبطة بهذه الظاهرة، ذلك أنّه حدث لبعض الحمقى أن أُدخلوا المستشفيات وعُولجوا قبل أن يُشرع في بناء المنازل الخاصة بهم. ففي مستشفى ديو في باريس كان لهم فراشهم وعنبر خاص بهم. زد على ذلك أنّ المجانين في أوروبا بأكملها كان لهم في القرون الوسطى وعصر النهضة مكان للحجز خاص بالذين يشكون من خلل في العقل، وكمثال على ذلك شالي مولون Chalet de Melun أو البرج الشهير الخاص بالحمقى في مدينة كان. وهي أيضا ما تمثله «بوابات الحمقى» المنتشرة في ألمانيا مثل بوابة لوبيك أو جانغفر هامبورغ.
والخلاصة أنّ الحمقى لم يكونوا يطردون باستمرار. ونفترض أن الطرد يطول فقط المجانين الغرباء عن المدينة، فكلّ مدينة كانت لا تعتني سوى بحمقاها، ألم يكن هناك في حسابات بعض المدن إشارة إلى دعم وهبات خاصة بالحمقى؟ والواقع أنّ المشكل ليس بهذه البساطة: لقد كانت هناك تجمعات لم يكن الحمقى، وعددهم كثير، من أهل المدينة… وقد تكون سفينة الحمقى التي سكنت مخيلة الناس في المراحل الأولى من عصر النهضة سفنا خاصة بالحجيج، سفنا بالغة الرمزية لحمقى يبحثون عن عقولهم: البعض يهبط أنهار ريناني في اتجاه بلجيكا وغيل، والبعض يصعد في اتجاه جورا وبيزونسون.
(ميشيل فوكو- تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي/ ص30-31)
ترجمة: سعيد بنكراد
ممدوح عدوان.. دفاعا عن الجنون
نحن أمّة خالية من المجانين الحقيقيين، وهذا أكبر عيوبنا. كلّ منّا يريد أن يظهر قويا وعاقلا وحكيما ومتفهما. يدخل الجميع حالة من الافتعال والبلادة وانعدام الحسّ تحت تلك الأقنعة فيتحوّل الجميع إلى نسخ متشابهة مكرورة… ومملة.
نحن في حاجة إلى الجرأة على الجنون والجرأة على الاعتراف بالجنون. صار علينا أن نكفّ عن اعتبار الجنون عيبا واعتبار المجنون عاهة اجتماعية. في حياتنا شيء يجنن، وحين لا يجنّ أحد فهذا يعني أنّ أحاسيسنا متبلدة وأنّ فجائعنا لا تهزّنا. فالجنون عند بعض منّا دلالة صحية على شعب معافى لا يتحمّل إهانة… ودلالة على أنّ الأصحاء لم يحتفظوا بعقولهم لأنّهم لا يحسون بل احتفظوا بعقولهم لأنهم يعملون، أو لأنّهم سوف يعملون، على غسل الإهانة. نحن في حاجة إلى الجنون لكشف زيف التعقل والجبن واللامبالاة، فالجميع راضخون: ينفعلون بالمقاييس المتاحة… ويفرحون بالمقاييس المتاحة… يضحكون بالمقاييس المتاحة… ويبكون ويغضبون بالمقاييس المتاحة… ولذلك ينهزمون… بالمقاييس كلّها، ولا ينتصرون أبدا.
بغتة يجنّ شخص، يخرج عن هذا المألوف الخانق فيفضح حجم إذعاننا وقبولنا وتثلم أحاسيسنا، يظهر لنا كم هو عالم مرفوض ومقيت وخانق… وكم نحن خائفون وخانعون وقابلون. جنون كهذا شبيه بصرخة الطفل في أسطورة الملك العاري. أمر الملك العاري أن يروه مرتديا ثيابه فرأوه. وأمر أن يبدوا آراءهم في ثيابه فامتدحوها وأطنبوا وحين خرج إلى جماهيره فاجأه صراخ طفل لم يدجن بعد: «لكنّه عارٍ… عارٍ تماما» لو كان هذا الطفل أكبر قليلا لاتّهم بالجنون. ولكن لأنّ فيه تلك البراءة الواضحة العفوية الصارخة… صرخة الطفل مثل جنون الفنان، يفضح كم الناس منافقون ومراؤون وخائفون إلى درجة تجاهل حقيقة يومية بسيطة يستطيع الطفل أن يشير بأصبعه إليها ويعلن عنها. فهو يرى الحياة على حقيقتها دون رتوش ودون تلوين بالمطامع ودون مكياج بالتبريرات. وفي أعماق كلّ فنان طفل صادق بهذا المقدار، طفل لا يحتمل ما تعودنا، على احتماله، طفل يبكي حين يتأمل ويصرخ حين يجوع ويغضب حين يهان ويجنّ حين يجبر على أن يحيا حياة الحيوان.
عبّاس صلادي.. بين التشكيل والطب النفسي
صاحب أغلى لوحة تشكيلية مغربية التي تحمل عنوان «الهدية» عباس صلادي ولد في مراكش بالمدينة القديمة، يتيما منذ سن الرابعة من عمره ما جعل أمّه تعهد به إلى خاله الذي كان يشتغل في أحد المقاهي بالدار البيضاء. منذ صغره كان عباس ولدا هادئا وخجولا لا يكفّ عن إنجاز رسومات أينما اتفق وطوال الوقت. في سن العشرين وبعد حصوله على الباكلوريا غادر الدار البيضاء متّجها إلى الرباط لدراسة الفلسفة في جامعة محمد الخامس. في السنة الثانية من الدراسة انتابته نوبة نفسية حادّة أدخل بسببها إلى مستشفى الأمراض العقلية حيث لاحظ الطبيب المعالج الطيب الشكيلي أهمية رسوماته الاستثنائية والمتقنة على حدّ سواء فجلب إليه الأدوات والمستلزمات الخاصّة بالرسم، لتنطلق رحلة صلادي مع الأصباغ وكائناته الخرافية وعوالمه العجائبية بكلّ هوس ودون توقف حتّى وفاته المبكّرة. عانى صلادي من وضعية اجتماعية مزرية وحالة مرضية نفسية اضطرته إلى بيع لوحاته في ساحة جامع الفنا في مراكش، لكن الاهتمام ما لبث أن دق أبوابه، فبدأت مرحلة إقامته لمعارض لفتت الانتباه إليه. كان عصيّا تصنيف تجربة صلادي فهو ليس سورياليا أو منتميا لأيّ مدرسة تشكيلية محددة، نحن أمام كائنات آدمية برؤوس حيوانية ذات أنوف حادة تتجه إلى السماء تحيط بها دوما قباب وأرضية من الزليج المغربي، والمشهد بأكمله مهيب وصاعق منذ النظرة الأولى. كان لصلادي الدور الكبير في إثارة سؤال العلاقة بين التشكيل والطبّ النفسي، وقضية تمظهرات المرض النفسي تشكيليا ودوره في العلاج. العلاقة الثانية ربطها صلادي مع الشعر من خلال ديوان «تفاحة المثلث» للشاعر عبد الله زريقة الذي ضمّ رسوماته رفقة قصائد الديوان، هذا الأخير فسّر آلية اشتغال الرسام وعلاقته بشخوصه بقوله: «كان لا يرسم شخوصه فقط، وإنّما يعايشهم في كلّ كبيرة وصغيرة…كان يعيش عالمه الآخر ويؤمن بأنّ الإبداع لم يخلق هكذا عبثا وإنّما للحياة فيه ومن أجله، حتّى كبر عالمه الآخر هذا أمام عينيه، فغلب على عالمه الأوّل».
محمد شكري.. سأعيش عاقلا وأموت مجنونا
مستشفى الأمراض العصبية 21-12-1977
(الجناح الجديد) مايوركا
تطوان
الساعة الآن خمس دقائق نحو العاشرة. استيقظت في المستشفى في الخامسة صباحا، أكلت برتقالتين ودخنت أوّل سيجارة ثم رحت أقرأ «زمن الصمت» عندي أيضا Love Story ريك سيغال. معظم الوقت أقضيه متمشيا في المستشفى متفرسا وجوه المرضى وأستمع إلى أقوالهم وهذيانهم. أشرب كثيرا من القهوة السوداء داخل المستشفى وخارجه. رغبتي في تناول الكحول لم تعد توترني. عناية الدكتور محمد الجعيدي ما زالت فائقة.
…
محمد شكري
مستشفى الأمراض العصبية 24-12-1977
(الجناح الجديد) مايوركا
تطوان
العزيز محمد.
أكتب اليوم من مقهى مانيلا Manila، هذا المقهى أكثر هدوءا من Nipon ثم إنّ الأخ محمد الجعيدي يتردد على مانيلا لأنّه قرب منزله. أحيانا نتحدث عن بعض التيارات الفكرية، إنّه ليس مجرّد طبيب نفساني، إنّه إنسان مثقف يهتمّ بالأدب والفن عموما، وبالمذاهب السياسية والفكرية.
أنت ترى أنّ علاقاتي محدودة، ومع أناس لا يزعجونني ولا أزعجهم. هذا سابع عشر يوم لي في المستشفى. استيقظت كالعادة في الخامسة وبضع دقائق حسب ساعة جاري النائم الذي أتجسس على ساعته. أكلت برتقالة ودخنت أوّل سيجارة ثم الثانية وبدأت أقرأ «زمن الصمت» الذي أقرأه ببطء. إنّه كتاب جيّد، ولكن ليس رواية عظيمة. الكاتب يهتمّ بالتفاصيل التي تُجوزت في الرواية الحديثة.
الشاب المريض، الذي تحدثت لك عنه في رسالة من رسائلي المستشفائية، أتيت له بالجلباب الأبيض من طنجة. أخذ حماما باردا وألبسته له في حضور بعض الرفاق الذين جمعتهم في حجرتي لكي نحتفل بالجلباب الذي سيلبسه عبد الكريم (اسم الشاب المريض). لكنه هذا الصباح جاءني وجلبابه ممزق عند الكتف، قال لي بأنّ شخصا حسودا من الكافرين تخاصم معه… أعطيته إبرة وخيطا وراح يرتّق جلبابه وعيناه دامعتان. واسيته في مصابه… ضحك وقال: «كنت سأحررهم عندما أخرج من هنا، لكنّي الآن قررت أن أتركهم هنا عبيدا، إنّهم «كفار»، ثمّ أضاف جملة من القرآن كنت قد حفظته إياها (يقرأ بالفرنسية والعربية) فرنسيته جيدة، لكنه يستطيع أن يقرأ بالعربية ناصبا الفاعل رافعا المفعول به. استمعت أمس إلى كثير من الموسيقى كلاسيكية وحديثة.
… سأبقى هنا حتّى آخر هذا الشهر ثم أعود إلى طنجة لاستئناف عملي مغيّرا نمط حياتي. بعد اليوم سأعيش عاقلا وأموت مجنونا. أمّا دون كيخوتي فقد عاش مجنونا ومات عاقلا.
محمد شكري
مستشفى الأمراض العصبية 27-12-1977
(الجناح الجديد) مايوركا
تطوان
حسب ساعة النادل، الآن خمس دقائق نحو العاشرة. أكتب لك من مقهى مانيلا. هذا هو الحادي والعشرون يوما لي في المستشفى. ما زلت أحافظ على بكارة علاجي. في كلّ يوم أقول لخلايا جسمي: «تجددي». كالعادة أفقت بل أفاقني صياح ديك المسيح.
قلت لك في إحدى رسائلي بأنّ هناك أناسا ينتمون إلى كلّ العصور المختلفة (أي أنّ كلّ واحد ينتمي إلى عصر ما) أمّا أنا فلا أنتمي إلّا إلى عصري. أنا جلدي منسلخ من كلّ العصور. قد أعجب بعصر ما لكنّي لا أتناسخ فيه. كما أنّي لست أرواحيا Animiste… بعد يومين أو ثلاثة سأعود إلى طنجة.
البارحة تعاركت مع مريض. لم أكن قد تناولت بعد فطوري وطلب منّي سيجارة حين لم أعطها له شتمني، تلاكمنا وتراكلنا. هذا جزء من حياتي في المستشفى.
الراضي عن نفسه: محمد شكري
(ورد ورماد/ رسائل محمد شكري ومحمد برادة)
إدفارد مونش.. الصرخة
إدفارد مونش (1863-1944)Edvard Munch رسام نرويجي تعتبر لوحته «الصرخة» أشهر لوحة بعد الموناليزا لليوناردو دافنتشي، كان ينتمي إلى المدرسة التعبيرية وكانت جلّ أعماله تتمحور حول التعبير عن الحالة النفسية للإنسان، غير أنّ لوحته الصرخة حازت على الشهرة وفاقت بكثير معظم أعماله، وتعد لحدّ الآن من بين أغلى اللوحات في العالم. تعكس اللوحة بشكل واضح مشاعر رجل امتلأ وجهه بالرعب المنبعث من إحساس حاد بالقلق يقف على جسر ممسكا رأسه بيديه ومطلقا صرخة مدوية، في الخلفية ثمّة رجلان يكادان لا يلمحان ويصاحب الصرخة تماوج لونيّ يتخذ أشكالا دائرية متدرجا بين اللون الأحمر الصارخ والألوان القاتمة مما يخلق شعورا بالخوف والقلق أشبه بعاصفة جامحة. يصف إدفارد مونش الظروف التي أحاطت برسمه لهذه اللوحة: «كنت أمشي في الطريق بصحبة صديقين وكانت الشمس تميل نحو الغروب، عندما غمرني شعور مباغت بالحزن والكآبة وفجأة تحولت السماء إلى لون أحمر بلون الدم توقفت وأسندت ظهري إلى القضبان الحديدية من فرط إحساسي بالإنهاك والتعب واصل الصديقان مشيهما ووقفت هناك أرتجف من شدة الخوف الذي لا أدري سببه أو مصدره وفجأة سمعت صوت صرخة عظيمة تردد صداها طويلاً عبر الطبيعة المجاورة». من المعلوم أنّ لوحة الصرخة تحولت إلى أيقونة دالة على الخوف والقلق في الحياة المعاصرة وكثيرا ما تمّ ربطها بالعديد من الظواهر النفسية المرضية مثل الشيزوفرينيا والعصاب أو الذهان. أصبحت لوحة الصرخة أكبر رمز في العالم لحالة الاكتئاب والشعور بالقلق الوجودي المفضي إلى الجنون وفقدان الوعي بالذات والتوازن النفسي… فإدفارد مونش نفسه كان يعاني من الاكتئاب والقلق الدائم الذي أجبره على اتخاذ العزلة أسلوبا لحياته، ومن المعلوم أنّ العبارة المكتوبة على قماش اللوحة ثبت أنها خُطّت بيده ومضمونها: «لا يمكن إلّا لرجل مجنون رسمها». الحقيقة أنّ إدفارد لم يكن مجنونا فقد عقله تماما، لكن أطياف الجنون كانت تحوم حوله طيلة حياته. كان شعوره الملازم له هو الخوف من فقدان العقل والإحساس الدائم بانعدام توازنه النفسي، لذلك كان مضطرا إلى الذهاب إلى المصحات النفسية بين الحين والآخر لاستعادة هذا التوازن المفقود. لذلك كانت جلّ لوحاته تعبيرا عن هذه المعاناة من جهة وبحثا عن الخلاص من جهة أخرى.