التنوير والأخلاق العقلانية والسياسة
مهما يكن دور الدولة كأداة للقوة السياسية والقانونية، فإن الأخلاق العقلانية تحمي السياسة من القراصنة، واللصوص، والأشرار. وتحررها أيضا من الهيمنة والأوهام، هكذا يتم القضاء على خيبة الأمل، والمساهمة في انبثاق حرقة الشغف بالتقدم والسعادة، لأنه من المستحيل الحديث عن التقدم الاقتصادي بدون التفكير في إسعاد المواطنين سياسيا، من خلال الحق في الحرية والمساواة، هكذا نكون على مقربة من المعنى، الذي لا يجد معناه خارج العيش معا في هذا العالم، ذلك «أن انهيار سعادة الابتهاج، هو حقيقة ماكرة مخادعة قاتلة… لأن السياسة أصبحت تنتج أساطيرها في العقلانية الأداتية والتقنية التي تسمح لها بالسيطرة والهيمنة».
من أجل فهم الهيمنة السياسية عند فيبر، لابد من اختراق بنية السلوك السياسي الذي يتأسس على مفهوم السيطرة: الأوامر والطاعة، ولعل قراءة سياسة السيطرة بواسطة جدلية العبد والسيد كما تركها هيجل قادرة على تعرية هذه الهيمنة، ذلك أن الغاية من الصراع السياسي هي الاعتراف، فالسيد يفرض قوته على العبد ليعترف به ويبايعه، ليظل العبد عبدا، وهذا تكريس لعبوديته في الواقع، فبالوعي السياسي يتوجه العبد نحو المطالبة بكرامته والاعتراف به كمواطن، وإذا اعترف به السيد رغما عنه فإنه يقوم بتحريره من العبودية.
فالجدل لا يقوم إلا بين الأضداد، ذلك أن كل ضد يريد أن يثبت هويته انطلاقا من هدمه للآخر، بمجرد ما يشعر وأنه في بيته ممتلكا وعيه الذاتي: «لأن الروح لا تكون روحا حتى تتعرف على نفسها في التاريخ». هكذا تحقق عظمتها في الانتشار خارج ذاتها، وبإمكانها الضياع في عمقها، ولذلك فإنها تحقق كمالها في هذا الضياع، لأنه لحظة الوعي الذاتي الذي يخلصها من الانكماش في الوعي الشقي، أو بالأحرى وعي العبيد. لأن الصراع بين الأضداد يتحد في الرغبة المشتركة في الاعتراف، وهذا بالذات ما يشكل ماهية السياسة، لأنها مجرد وعي ذاتي يخترق الواقع، ويحركه نحو العقل. هكذا تصبح سياسة عقلانية تنويرية تربط بين التقدم والحقيقة، وبين التاريخ والحرية، وبين التنوير والإنسانية، وهذا بالذات ما يجعلها سياسة مدنية تفتح المجال أمام النقد الذي يحرر الإنسان من الهيمنة والسيطرة التي يمارسها بعض الأشخاص بواسطة السلطة المطلقة. وبما أن العيش معا في الحاضر يتطلب المصارعة والمقاومة، فإن هذا الحاضر ينبغي أن يكون مختلفا عن الماضي، والنقد هو السلطة التي يتم التمييز بين الجوانب السلبية والإيجابية. ومن المفروض أن نتحرك في فضاءات التنوير باعتبارنا كائنات تاريخية. تسعى إلى التحرر من الإخضاع، لأن النقد يتجه نحو إطلاق العمل اللانهائي للحرية، هذا المشروع الذي يقوم بغرس شجرة التنوير في الحاضر. بغية هدم سياسة الماضي، والخلاصة في مظهرها البرهاني تقتضي الاعتراف بأننا نتحرك ضمن ميراث التنوير، مما يحكم علينا بعبادة الماضي، أو بالسلفية الفكرية، بيد أن إجهاض مشروع التنوير في هذا الفضاء الخرافي، أخر كثيرا عملية إعادة الولادة، وربما أنها ستكون ولادة جديدة لفكر عتيق نال حظه عند بعض الشعوب العقلانية، ووجد مقاومة تيولوجية عد بعض الشعوب الأسطورية ومن سوء حظنا أننا ننتمي إلى هذه الأخيرة بالرغم من قتالنا اليومي، من أجل بناء النقد الفكري الذي نعتبره منطلقا أساسيا في بناء النهضة الفكرية ثم استقبال عصر التنوير، وإلا سنلقي بهذه الأمة في الضياع، فما هو إذن المبرر التي تقدمه السلطة الوسطوية للحفاظ على الهيمنة السياسية؟ هل يتعلق بعدم اكتمال نضج المجتمع المدني؟ أم بغياب الفكر النقدي المقاوم؟ وما الذي يجعلنا ندعو إلى هذه الثورة النقدية في مجتمع تقليدي؟
والحال أن الأنطولوجيا السياسية العربية تستمد قوتها من التصورات الدينية الشعبية، حيث تمكن السلطة القهرية من فرض سيطرتها على الأرواح من خلال الخطباء، هكذا يتحول الفضاء الديني إلى فضاء للاستقطاب، والشاهد على ذلك أن التوجه إلى الاقتراع الكوني قد منح للأحزاب الدينية المرتبة الأولى، لأنه إذا كان اللاوعي الجماعي يتشكل انطلاقا من التربية والآراء الشائعة بين الجماعات، فإن الطبقات الميسورة تسعى إلى تبرير هيمنتها السياسية والاقتصادية عن طريق العناية الإلهية، والطبقات الفقيرة تفسر وضعها الشقي انطلاقا من الدين، وبخاصة وأن المهندسين للأرواح هم الفقهاء الذين يتم توظيفهم من قبل الطبقة الحاكمة. وكأن الأمر يتعلق بتقسيم إلهي للثروات والامتيازات السياسية: «فالطبقات الغنية ترغب في التأكيد أن لها الحق في أن تسيطر، لأن لها قدرات إلهية خارقة، أما الفقراء فلا يتمتعون بهذا الحق لأنهم ارتكبوا أخطاء أو قاموا بأعمال مخالفة للدين». فالشرعية السياسية هي مجرد إيمان أعمى بالسلطة المطلقة للطاغية، ولذلك لا يجب تبرير الهيمنة السياسية انطلاقا من الصراع الطبقي، بل من الصراع الايديولوجي، ما دام أن العامل الديني يتدخل بعنف.
ثمة إذن إيقاعاً مستمرا في الشرعية السياسية للهيمنة، منذ إشكالية الخلافة، حيث أن الصراع على السلطة يستمد مرجعيته من هذه الإشكالية. هكذا قام الفكر السياسي العربي بترك الساحة فارغة امام الفكر الديني، الذي قام باغتيال التاريخ، والمساهمة في التأخر، وتأجيل عصر التنوير، وتهجير الفلسفة والعلم إلى الضفة الأخرى، وإحداث الفتنة في المجتمع، والحكم على الأمة بالاستبداد السياسي، وخلق من الشعب مجرد مواطن في السماء، وعبد في الأرض، ذلك أن السلطة المسيطرة لا تكتفي بالدوافع التي تحث الإنسان على الطاعة، بل تسعى إلى الشرعية الدينية، هكذا نجد أن كل الطغاة يدعون انتسابهم إلى شجرة النبوة. بغية إثبات أحقية سيطرتهم، فالحاكم الكاريزمي يتوفر على قدرات فوق طبيعية وإنسانية، ولذلك فإن الخضوع لسلطته يكون مقدسا، ولعل أساس هذه السلطة يصبح عاطفيا لا عقلانيا، مما يحكم على النقد بالإعدام، لأن الكل يخضع بالقوة والإيديولوجية. وهذه الشرعية المطلقة تجعل: «الاعتراف يكون مطلقا والخضوع مطلقا، والثقة عمياء ومتعصبة في غياب كل مراقبة وكل نقد». وسيرا وراء هذا التفكيك النقدي لشخصية الحاكم، يتضح أن السلطة عندنا هي توهيم وخداع للشعب لتحقيق أهداف وغايات لا يعرفها الجمهور، والحقيقة السياسية تقول أنه ينبغي أن تكون هناك جدلية بين الحاكم والمحكوم، تؤسس طاعة الأفراد على مصلحتهم، وتمنح للشرعية ميثاقها الاجتماعي، الذي ينبثق عن العقد الاجتماعي، بيد أن هذا الوجه البريء للشرعية الدينية، يتم نهشه بالتدخل البشع للشرعية الدينية مما يحكم على المجتمعات العربية بإقامة أبدية في القرون الوسطى.
والحال إننا ننتظر بشغف هذا الأفول في شفق الأصيل لهذه الشخصيات الكاريزمية التي حكمت على المجتمعات بالقهر السياسي، والسلطة المطلقة: «وبالنظر إلى تاريخ الكاريزمية، يتأكد أنها تتوجه نحو الأفول لتبدأ نهاية السلطة». لأن القوة الشديدة تتحول إلى ضعف شديد حسب منطق التاريخ. كما أن السلطة تكون تقليدية بالتوارث، وعقلانية بالتناوب، والمؤسسات القانونية للدولة.