شوف تشوف

الرأي

التاريخ لا يرحم أحدا

يونس جنوحي

في الأسبوع الأول من يوليوز الماضي أعفي عامل مقاطعات الدار البيضاء من منصبه، بسبب «سوء تدبيره لملف المحافظة على التراث التاريخي والمعماري» للمدينة.
وقبل يوم واحد من عيد الأضحى، وقف شباب طنجة وشيوخها الغيورون على تاريخها، احتجاجا على طريقة ترميم النافورة التاريخية برياض الإنجليز. وهي «خصة» تاريخية أندلسية ضاربة في القدم، وكتب عنها دبلوماسيون وسفراء أجانب أعجبوا بها وبرمزيتها التاريخية. وكادت هذه النافورة المسقفة بقرمود تاريخي أن تهدم بسبب الإهمال، لولا أن سكان المدينة القديمة احتجوا لكي يتم تدارك الوضع.
وفي مدينة القنيطرة، دائما في يوليوز، كاد بعض المسؤولين أن يرتكبوا جناية في حق صف من النخيل المنتصب هناك منذ الاستقلال، ولولا وقوف المواطنين في وجه الجرافات وتوثيقهم للاحتجاج بالصوت والصورة، ليصل إلى المسؤولين ويأمروا مباشرة بوقف عملية الاجتثاث غير القانونية، لوقعت كارثة.
وقس على بقية المدن التي توجد بها مقرات سابقة لمحاكم عرفية ومساجد مغلقة ودور وقصور لباشوات وقياد. منها ما أصبح خرابا منذ حصول المغرب على الاستقلال، ومنها ما زال في ملكية عائلات مغربية هاجر أفرادها إلى الخارج، وبقيت تلك العقارات تسيل لعاب وحوش العقار، الذين حولهم الحجر الصحي بالمناسبة إلى كائنات ضارية تتربص بالعقارات المهجورة، وحاولوا استصدار رخص هدمها قبل أن يُسمح للناس بالخروج إلى الشارع. وهذا بالضبط ما وقع في شارع آنفا، عندما هدمت واحدة من البنايات التاريخية التي تعكس جمالية معمار الدار البيضاء، في فترة الحماية الفرنسية.
كلما أثير موضوع معمار الدار البيضاء، أتذكر رحلة ماراثونية في قلب المدينة القديمة سنة 2013، حيث كنت أشتغل على توثيق لسلسلة من الفنادق المصنفة، التي ذكرت في الدليل السياحي لمدينة الدار البيضاء، والذي يعود تاريخه إلى سنة 1924. الملفت أن هناك لائحة طويلة بأسماء فنادق في مركز الدار البيضاء، وتملكني الفضول للوقوف على حالها اليوم.
هناك فنادق هدمت رغم أنها كانت من فئة أربع نجوم، وأخرى أصبحت غرفا تُكترى بالليلة بثمن لا يتعدى 50 درهما، وسوف تحتاج إلى شجاعة كبيرة لصعود الدرج المكسو بكل أشكال القذارات التي يمكن تخيلها. ولن أحتاج طبعا إلى وصف الروائح التي تزكم الأنوف في تلك البنايات، التي كانت في القرن الماضي فنادق مصنفة تُصدر سلسلة من الأغراض تحمل شعار الفندق. كل تلك الصحون والشوك والسكاكين اختفت، وانمحت معالم تلك الفنادق وكأنها لم تكن.
وأخطر من هذا كله أن الذين عاصروا فترتها الذهبية رحلوا إلى دار البقاء، ولم تعد هناك إمكانية للتوثيق للموضوع، بحكم أن هؤلاء كانوا يشتغلون بوابين وحراسا لتلك الفنادق.
يكفي فقط أن تعرفوا مثلا أن عددا من تلك الفنادق القديمة بعد أن تهدمت ورممت عشوائيا، أصبحت تكترى بما يعرف بين المياومين الذين يعملون في أوراش البناء، أو الباعة المتجولين بـ«السداري». أي إنهم يكترون مكانا للنوم لشخص واحد بثمن زهيد، ويستيقظون في الصباح للخروج إلى معركة الحياة دون أن يعرفوا ربما أنهم قضوا ليلتهم في غرفة فندق، نام فيها قبلهم وزراء من الحكومة الفرنسية وفنانون ومشاهير السينما العالمية.
تخيلوا لو أن المسؤولين بعد الاستقلال حرصوا على أن تتم صيانة ذاكرة المدينة القديمة في الدار البيضاء، واهتموا بتاريخ هذه الفنادق وروجوا لها سياحيا. هناك «مخبولون» في كل أطراف العالم مستعدون لدفع الملايين، لكي يناموا ليلة فقط في غرفة نام فيها نجم سينمائي في ثلاثينيات القرن الماضي. حتى أن سياحة من هذا النوع، صارت لديها اليوم وكالات سخية تبحث في تاريخ الشعوب، لتجد قصصا من هذا النوع. وإذا حلوا في المدينة القديمة بالدار البيضاء لن يجدوا سوى «السكاكين» و«بلارج» يحرس ما تبقى من أطلال جدران الفنادق المصنفة. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى