البقاء للأصلع
«البقاء للأصلح»، شعارٌ ترفعه مجتمعاتٌ وتُنزّله على الأرض، إذ تُطبّقه في كل مجالات الحياة من سياسة وتعليم واقتصاد وثقافة وفن، وترفعه مجتمعاتٌ وتحرص على عدم تنزيله على الأرض، إذ تتركه معلقا في السماء.
والنتيجة أنك تلاحظ اختلافا حادا في التفكير وفي السلوك بين هذين النمطين من المجتمعات؛ ففي مجتمعات النمط الأول يندُر أن تجد في حافلاتها ومقاهيها وأماكنها العمومية، شخصا يتحدث في هاتفه بصوت مرتفع يثقُب طبلة أذنك اليمنى، وإذا طلبت منه بكل لباقة أن يخفض صوته رحمة بأذنك اليسرى، ينفجر في وجهك بكل عدوانية بكلام من نوع «ماشي شغلك أبنادم» فتُوثر سلامتك وتبتعد. ويندر أن تجد في طرقهم سائقين يتقاتلون والدماء تتطاير من أنوفهم تماما كما تتطاير الكلمات الفاحشة من أفواههم، تلك الكلمات الفاحشة التي تتوعد عورة الأم والأخت بالوطء والثبور. ويندر أن ترى أفراد عائلة محترمة جدا يرمون قذاراتهم وأزبالهم من النافذة إلى الشارع.. ويستهجنون في مجالسهم عدم وضع الأزبال في حاويات القمامة.. يا لقذارتهم!
أتعرف ما هو الشعار الذي ترفعه مجتمعات النمط الثاني وتُفعِّله في الواقع؟ إنه شعار «البقاء للأصلع». شعار ينص على أن من يتبوؤون أهم المناصب ويتصدّرون المشهد العام ينبغي أن يتوفروا على ميزة أساسية هي الصّلَع.. فهنيئا لك إذا كنت أصلع وإذا كنت تعاني من كثافة الشعر في رأسك فما عليك إلا التوجه إلى أقرب حلاق وتطلب منه أن يقصّ جذور شعرك من الأعماق.. لذلك كن ابن من شئت واكتسب صلعةً تفتح لك الأقفال الصدئة. والبقاء للأصلع شعارٌ يُقصد به الرجل الأصلع (والمرأة الصلعاء) من الكفاءة والموهبة والمروءة والشرف والمخيلة الإبداعية والغيرة الوطنية.. وأعرف شخصا يعرفه جاري حمودة، تم تعيينه بإحدى الإدارات، وظيفته هي إعداد تقارير باللغة الفرنسية عن سير عمل الإدارة وهو لا يعرف كوعه من بوعه، ليس في الفرنسية فقط بل في الحياة عامة. وأعرف مديرا فاسدا لمؤسسة اقتصادية لا يعرف أبجديات التدبير الاقتصادي.. وأعرف «مخرجا سينمائيا» كل معرفته بالإخراج هي وضع الكاميرا في أي مكان ودفع الممثلين للنطق بأي كلام.. وهو يعرف جيدا كيفية تقطيع اللحم أكثر مما يعرف كيفية تقطيع اللقطات.
ولا عجب أن الصُّلْع يتكاثرون باستمرار.. إنهم الفشلة الفسدة الذين يقررون مصيرك ومصيري.. وأنت تعرف جيدا أن أحاديث فشلهم وفسادهم صارت بذكرها الرُّكبان وجرائمهم شابَ لهولها الولدان والبنتان.. هؤلاء وُجدوا لهدف واحد هو زرع الأشواك في طريقك وإقامة السدود لمنعك من الوصول، وحقنك بجرعات زائدة من سُم اليأس وتحويل حياتك إلى جحيم ودفعك إلى التخفف من أخلاقك ومبادئك والالتحاق أخيرا بحزبهم، الذي يضع شروطا أساسية لكل من يرغب في الانخراط؛ وأول شرط أن تتوفر على فائض من الوقاحة والبجاحة ومشتقاتهما.
وثاني شرط أن يُسجل لديك نقص حاد في هرمون الرجولة، أي أن تكون خاليا من كولسترول الشهامة والمروءة.
وثالث شرط أن تعادي الناجحين وتبخَس نجاحاتهم بمناسبة وبدونها..
ورابع شرط- إذا أصبحت مشرفا على قطاع حيوي ما- هو أن تُفرمل كل مبادرات التنمية والتقدم والتغيير إلى الأفضل وأن تُجفّف ينابيع الموهبة والكفاءة والعطاء داخل مؤسستك، فلا تُبقي إلا على صنف محدد من الكائنات: (الجهلة والفشلة والنعاج والوشاة والقوادون والمهمِلون ومتعهدو سهرات السبت والمتكالبون على فتات الموائد وذوو الوجوه «القاسحة».. أي جماعة الأمر بالإفساد والنهي عن الإصلاح).
هؤلاء الصُّلْع هم الخطر الذي يهدد مستقبل الأجيال.. فأين تكمن خطورتهم؟ في وفي وفي…
في تزايد عدد اليائسين الحاقدين الذين انتُزعت منهم فرصتهم لتحقيق ذواتهم في وطن سقوْه حلاوة عرقهم ودموعهم فسَقاهم مرارة الإقصاء بيد الصُّلْع.
وفي ارتفاع عدد المتعلمين الأميين في المدارس، الذين يكرهون المدرسة بمن فيها لأنها فتحت لهم باب الضياع على مصراعيه.
وفي ارتفاع عدد المتسولين، المباشرين وغير المباشرين، الذين بدّدوا تماما رصيدهم من الكرامة ولم يعد ينتابهم أي شعور بالمهانة..
وقد تُصادف أحدهم يخبرك بأن له دَزينة أولاد ناموا ليلة البارحة على لحم بطونهم، فلا تملك إلا أن تنفحه ما تيسر.. أما أنا فلا أفعل، لأنني مؤمن بتلك الفكرة التي قالها رجل كثيف الشعر، وهي أن من يعطي نقودا للمتسولين يؤخر الثورة لسنوات طوال.. ومع ذلك لا تأخذ كلامي على محمل الجد بل خذه على محمل الهزل، فشعاري دائما وأبدا هو: «البقاء للأصلع.. وعاش الصُّلْع.. عاش الصُّلْع».