شهدت بريطانيا أسبوعا قاسيا، ليس فقط بسبب الإضرابات الواسعة مطالبة بزيادة الأجور لمواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة. بل تزامن ذلك مع تقديرات جديدة لصندوق النقد الدولي، تتوقع أن يكون أداء الاقتصاد البريطاني الأسوأ بين اقتصادات الدول الكبرى، حتى أسوأ من أداء الاقتصاد الروسي المتضرر من حرب أوكرانيا والعقوبات الغربية على موسكو.
وكانت التوقعات السابقة للصندوق أن يكون الاقتصاد البريطاني الأسوأ بين دول مجموعة العشرين، باستثناء روسيا.
لكن الأهم في تصوري هو ما أثاره التقرير الحصري الذي بثته «سكاي نيوز»، عن وضع القوات المسلحة البريطانية، وكيف أنها «غير قادرة على حماية بريطانيا أو حلفائها» في حلف شمال الأطلسي (الناتو). واعتمد التقرير على ما قاله جنرال أمريكي لوزير الدفاع البريطاني، قبل فترة، من إن بريطانيا «لم يعد ينظر إليها كقوة قتالية من الطراز الأول».
ليس ما قاله الجنرال الأمريكي بجديد حقا، لكن تسريبه علنا لوسائل الإعلام هو الجديد. فأغلب القيادات العسكرية في بريطانيا وغيرها مدركة لتراجع القدرات العسكرية البريطانية، خاصة منذ تسعينيات القرن الماضي. بل إن هذا التراجع بدأ بالفعل ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولجوء الحكومات إلى ميزانيات «وقت السلم»، التي لا تجعل الإنفاق العسكري أولوية لصالح الإنفاق على بنود أخرى وعلى تمويل خدمة الدين الحكومي.
وتكرر خفض الأعداد في القوات المسلحة حتى أصبح قوامها حاليا حوالى 75 ألفا، في كل الأسلحة والقطاعات. وذلك تقريبا محو نصف حجم الجيش البريطاني، مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
ولا يقتصر التراجع على حجم الجيش، بل على تسليحه وجاهزيته التي تراجعت بشدة في العقود القليلة الأخيرة.
ورغم أن حكومة بوريس جونسون السابقة زادت ميزانية وزارة الدفاع بأكبر قدر منذ الحرب العالمية الأولى، بإضافة 16 مليار جنيه للميزانية، إلا أن ذلك لم يحدث أي فارق في تسليح الجيش وتطوير معداته. ينسحب ذلك على القوات البرية والأسطول البحري الملكي والقوات الجوية الملكية.
ومنذ بدأت الحرب بأوكرانيا، كانت بريطانيا من أكثر الدول الغربية عملا على مساعدة كييف وتقديم الدعم العسكري لها. حتى أنه، في الخريف الماضي، تحدثت مصادر في وزارة الدفاع للصحف البريطانية عن أن مخزون الذخيرة في مستودعات الجيش نفدت مع إرسال القذائف إلى أوكرانيا، خاصة قذائف المدفعية 155 مليمترا.
ولأن طلبيات وتصنيع وتوريد الذخيرة من شركات التصنيع العسكري التي يتعاقد معها الجيش أصبحت العسكرية البريطانية غير قادرة على الدخول إلى حرب إلا لبضعة أيام، ثم تنفد ذخيرتها تماما.
أضف إلى ذلك أن الدبابات والمدرعات البريطانية عمرها ما بين 30 و60 سنة تقريبا، لذلك تتفوق دبابات «ليوبارد» الألمانية و«ليكليرك» الفرنسية و«أبرامز» الأمريكية بشدة على الدبابات البريطانية من طراز «تشالنجر». وينسحب ذلك على بقية أسلحة القوات البحرية والجوية. حتى نظام الردع النووي «ترايدنت» لم تستطع الحكومة الاتفاق على تطويره منذ حكومة ديفيد كاميرون، قبل أكثر من عقد من الزمن.
لم يتبق الكثير من أدوات قوة الإمبراطورية التي كانت «لا تغرب عنها الشمس»، قبل نحو قرن من الزمان. ذلك على الرغم من أن بريطانيا عضو دائم في مجلس الأمن الدولي ضمن الخمسة الكبار، وعضو في مجموعة الدول السبع الكبرى وعضو في مجموعة العشرين لأكبر اقتصادات في العالم. لكنها كل يوم تتقهقر إلى ذيل قائمة تلك التجمعات حتى تكاد تسقط منها.
أتصور أن التسريب الأخير جاء ربما في سياق ضغط وزارة الدفاع على حكومة ريشي سوناك لتزيد ميزانية الدفاع بنحو 3 مليارات جنيه سنويا، وهو ما يرفضه سوناك ووزير خزانته، جيريمي هنت، في ظل سياسة التقشف الحكومية لاستعادة ثقة الأسواق المفقودة في الاقتصاد البريطاني.
إنما المشكلة ليست في زيادة الأموال، فالإنفاق الدفاعي البريطاني ليس قليلا بمقاييس عدة. فمثلا ميزانية الدفاع البريطانية هي الأكبر بين دول الناتو الأوروبية وتصل إلى 50 مليار دولار. الأزمة الحقيقية هي لدى المسؤولين عن تعاقدات التوريد في وزارة الدفاع مع شركات التصنيع العسكري. فما زال الجنرالات يعملون بطريقة ما قبل نصف قرن، ويرفضون التحديث والتطوير ويلجؤون دوما إلى الأسلحة والمعدات المكلفة جدا، والتي قد ينتهي الأمر بإلغاء مشروعاتها بسبب الكلفة، وذلك بعد إهدار المليارات.
وذلك ما جعل بريطانيا تهبط من «المرتبة الأولى» عسكريا، والتي تضم أمريكا والصين وروسيا وفرنسا وغيرها، كما قال الجنرال الأمريكي، حسب ما نقلت «سكاي نيوز».
بل إن الأمريكيين يرون أن بريطانيا «بالكاد» ضمن «المرتبة الثانية»، التي تضم دولا مثل إيطاليا وتكاد تهبط منها أيضا.
لذلك، حتى لو أتى الضغط على الحكومة أكله، وزادت ميزانية الدفاع ببضعة مليارات، فإن ذلك قد لا يعني تحسنا قريبا في القدرات العسكرية البريطانية.
وربما يحتاج الأمر إلى عشر سنوات أو أكثر، قبل أن تستعيد الإمبراطورية التي كانت بعضا من مكانتها العسكرية. على سبيل المثال، فإن تكوين وحدات قتالية ذات جاهزية عالية قوامها ما بين خمسة وعشرين ألفا، يحتاج إلى عشر سنوات على الأقل.
أحمد مصطفى