شوف تشوف

الرأي

الإشاعة أصدق من الوقائع

دب الهلع في أوساط تجار وأباطرة مخدرات، الأنباء التي تتسرب من غرفة التحقيقات الأمنية شحيحة، لكنها تعرض إلى أسماء وقصص منتقاة من هذا العالم الذي يتحرك بمنطق أن كل شيء مستباح، وسرعان ما يتوقف أمام خطوط تقول إن كل شيء فيه محظور. وما يحذر كثيره فقليله ممنوع.
كذلك هي تجارة المخدرات. لولا وجود مستهلكين، لما كان للمروجين أن يغامروا في ابتكار أساليب إيصال البضاعة إلى حيث يجب أن تكون في متناول اليد التي تقذف بها إلى العقل. ولولا وجود مزارعين وأراض لا تتنفس من غير خياشيم هذه النبتة العجيبة، لما نشأت حولها أسواق وعادات، ترجمها البعض إلى منافع، وأبقى كثيرون على سمومها الضارة. وما بين المنفعة والمضرة شبر يصبح مساحات ومسافات.
تتواتر الأخبار عبر أبواق الشائعات، وعندما تغيب المعطيات تنشط بورصتها، تهوي أسهم البعض وترتفع أخرى، وبين الصعود والهبوط تتباين الاستقراءات. الكل في حاجة إلى معرفة المزيد، لكن اعترافات أحد المتهمين وحدها تصنع الحدث.. تردد أنه أقر بأسماء شركائه المحتملين والمتورطين، وعلق البعض: من أين جاء هذا المتهم الذي قلب الطاولة بمن عليها؟
ليس من أعراف المتهمين المقبوض عليهم أن يفضحوا أسرار الشبكات، وإن فعل بعضهم، فمن خلال نزر قليل لا يقتل الذئب ولا يفني الغنم. ومنذ كانت المحظورات التي أقرتها القوانين والأعراف والبديهيات، وهناك نوافذ صغيرة لا تراها العين المجردة دائما، يتسلل منها المتواطئون الذين لم يتركوا مجالا نقيا، بما في ذلك أسئلة الامتحانات.
الأمر الجديد أن الاعترافات التي تسربت عنوة، كانت أقرب إلى عصا مجنونة تضرب في كل الاتجاه. وقديما قيل «عيب البحيرة فتفتيشها» وزاد عليه آخرون بأن «التحياح» يخرج الأرانب والطرائد من مخابئها. لذلك كانت الاعترافات أقرب إلى «تحياح» موجه ضد أسماء ووجوه متنفذة في عالم تجارة المخدرات.. ما أثار السؤال إن كانت وراء ذلك تصفية حسابات أم ماذا؟
من بعض فصول حملة التطهير لعام 1996، اكتشف المغاربة «أبطالا جددا» من غير نجوم المسلسلات والأفلام البوليسية. كان تاجر مخدرات يدعى «الديب» أبرزهم. وحين نشرت صورته مدثرا بجلباب قصير وهو يحاول إخفاء رأسه، بدا أن أباطرة المخدرات في المغرب ليسوا في مثل أناقة وطقوس رجال المافيا الذين يحركون الأحداث من خلف. حتى الممارسات الخارجة عن القانون تختلف من بيئة لأخرى. وقبل أن يظهر جيل جديد من عشاق هذه المغامرات، كان كبار التجار يتصرفون في شكلهم على الأقل كمواطنين وزارعين بسطاء.
لا علاقة للحكاية بتلك الوقائع، غير أنه كما تطلبت الاستعانة بخبراء في القانون وفي منهجيات ملاحقة المطلوبين إلى العدالة، ممن تمكنوا من الفرار خارج البلاد والمتابعة القضائية التي لا مجال هنا لتقويم مسارها..، سينبري شابان من المنطقة الشمالية في اتجاه صنع الحدث، وإليكم بقية القصة:
سئم شابان يافعان من إكراهات البطالة وشظف العيش، فيما كانا يعاينان مفعول النبتة السحرية التي تنقل الأغنياء إلى مراتب الثراء والجاه والنفوذ. فكرا في وسيلة للنفاذ إلى هذا العالم الذي تسيجه أعراف و«تعاقدات» غير مكتوبة. ولاح لهما بعد التدبر أن يجربا حظهما في مغامرة محدودة، تهم تهريب كمية من الحشيش. اقترضا مبلغا من المال واقتنيا ما يلزم من الوسائل، إضافة إلى أول شحنة من البضاعة التي سيجري تهريبها. والبقية تركت لنفوذ الإشاعة التي تتناسل في حالات كهاته.
ولأنهما عديما التجربة، فقد سقط أحدهما في فخ الاعتقال منذ الوهلة الأولى، كان يعرف مآله، واتفق وشريكه على أن تبدأ الحكاية بمجرد اعتقاله. وبينما كان الشاب المتهم يواجه أسئلة المحققين، كان رفيقه يتجول في المقاهي والأماكن التي تلتقط الأنفاس، وكان في كل مرة يروج اسما لتاجر مخدرات من نوع الأسماك الكبيرة، على أساس أنه شريك رفيقه في تجارة المخدرات.
يبدأ البحث مباشرة في كيفية تطويق تناسل الأحداث والأسماء، ولأن الشبهات على أمثالها تقع، يأتي مقربون إلى هذا التاجر أو ذاك يستقصون الوقائع، يسر لهم الصديق الذي لم يعتقل بأن رفيقه قد يتراجع عن اعترافاته مقابل صفقة مالية. بدت القصة مغرية، وتقاطر عليه تجار كثر.
في كل حالة كان ينسج قصة، ويزعم دائما أن في إمكانه أن يفرض على رفيقه معاودة النظر في اعترافاته. وكلما طال أمد التحقيق تزايدت الفرص في إسقاط ضحايا جدد. ففي النهاية هناك مخاوف من المبتدئين الذين تنقصهم التجارب، وليس من المحترفين الذين يصرحون على قدر ما تتطلبه الصفقات.
كان الشابان أعدا ما يلزم قبل الدخول في هذه المغامرة. جواز سفر وتأشيرة، أما التفاصيل فستكون على قدر وجهتهما القادمة. وعندما انقضت فترة محكومية الشاب الأول، غادر السجن وفي رصيده ورفيقه إخفاق ما كانا يتصورانه من تجارة المخدرات. فقد تاجرا بشيء آخر يكاد يكون محظورا في عالم الاتجار بالمخدرات، ألا وهو الإفصاح عن أسماء الرؤوس الكبيرة.
في جزئيات القصة أن الشابين غادرا المنطقة والمغرب إلى وجهة مجهولة، أقله بالنسبة لأولئك التجار الذين سقطوا في فخ آخر، لا علاقة له بالحواجز وحملات التطهير ضد هذه الآفة. غير أن الابتكار لا حدود له، كلما زادت شدة الرقابة اتسعت سبل التفكير في الاحتيال عليها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى