الإحاطة في أخبار غرناطة
ارتكب فيصل رشيد العرايشي، الرئيس المدير العام للقطب الإعلامي، زلة كبيرة في حق صديقه وزير الاتصال مصطفى الخلفي، عندما قام ببث طلبات «الإحاطة علما» على قناة الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة ضدا على حكم القضاء، والتي سبق أن اعتبرها الخلفي غير قانونية، فيما اعتبرها زميله الشوباني ريعا رقابيا غير مشروع.
وإذا كانت شركة دار البريهي تسمى سابقا إذاعة والتلفزة المغربية (إ.ت.م)، فإنه من كثرة آثامها في حق مشاهديها الكرام، تكرموا عليها بتسمية «إثم»، غير أن الإثم الذي ارتكبه المدير العام لشركتي «دار البريهي» بالرباط و»عين السبع» بالدار البيضاء، ليس هو تركه لبث فقرات «الإحاطة علما» تنساب بسلاسة عبر قنواته المصابة عادة بالتكلس والاختناق، بل في مخالفته الإرادية أو العفوية لحكم قضائي استعجالي صادر باسم الملك وطبقا للقانون. وهكذا سيكشف لنا أن إدارة القناة مثقلة بالمسؤوليات لدرجة لا تستطيع معها أن تواكب الأحداث القادمة من المحكمة الإدارية التي تقع على بعد 500 متر منها، وهي التي ينتظر منه أن تزود مشاهديها بالأخبار من أقصى بقاع العالم، وأن تنافس في ذلك «الصحافي» المحروق لسان الدين ابن الخطيب صاحب «الإحاطة في أخبار غرناطة».
ولعل انشغالات العرايشي الكثيرة على مستوى الجامعة الملكية المغربية للتنس، وعلى رأس قطبين إعلاميين متجمدين، وعلى رأس الشركة ذات المسؤولية المحدودة بشريك وحيد المسماة «مدرسة الحكامة والاقتصاد بالرباط»، والتي تعتبر مدرسة للعلوم السياسية أسسها العرايشي والباكوري، وأسندا إدارتها «للناقد الدستوري» محمد الطوزي، كلها كانت السبب في عجزه عن ممارسة الحكامة على مستوى المؤسسات التي يديرها، والتفاعل بسرعة مع الأحداث السياسية خاصة إذا كانت أحداثا وطنية، وذلك لدرجة أن قرارات القضاء نفسها لم تعد تجد طريقها إلى التنفيذ، قبل أن تتم مراجعتها من طرف المديرية القانونية، وهذا ما يمكن أن يعطي لبنكيران صورة واضحة عن مشاكل تنفيذ الأحكام ضد الإدارة عموما، بعدما اكتوى بنارها، وتوضح له معاناة المواطنين العاديين مع تلك المديريات القانونية التي تعتبر نفسها بمثابة محاكم «نقض وإبرام».
وإذا كان مسؤولو القناة قد برروا سبب بثهم لفقرات الإحاطة التي أوقفها القضاء بتوصلهم بالحكم بلحظات قليلة قبل انطلاق البث، وبالتالي «كان من الصعب جدا بالنسبة لهم التراجع عن البث في اللحظة الأخيرة»، فإنه يكفينا أن نذكرهم بتلك المهزلة التي شاهدها العالم على القناة الثانية، والتي لا تزال منشورة على صفحات التواصل الاجتماعي واليوتوب لمن أراد أن يتألم، حين اضطر مقدم الأخبار خلال نشرة الظهيرة إلى القفز في آخر لحظة على خبر اعتصام سيدة مسنة أمام المحكمة الابتدائية بتيزنيت، بعد أن تدخل مقص الرقابة ليمنعه من الاستمرار في سرد الخبر، إذ بمجرد ما تحدث مقدم الأخبار عن صرخة امرأة مسنة من أمام المحكمة الابتدائية حتى «لقفوه» في الاستوديو بشكل مفضوح، وأشاروا له بمنع إذاعة الخبر، ليظهر الارتباك الشديد عليه وهو يتحول مباشرة إلى الحديث عن عمل فني للفنان الكوميدي حسن الفد، لأن مسؤولي قنواتنا العمومية لا يريدون إزعاجنا في وقت الغداء بأخبار البؤساء، ولا أن يحيطونا علما بمآسيهم التي لا تنتهي.
وكان السيد الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، الباكوري، شريك العرايشي في مؤسسة تعليم العلوم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، قد وجه شكاية مؤرخة في 31 يناير 2014 إلى المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري، حول وقف البث المباشر لفقرة الإحاطات علما للجلسات الأسبوعية بمجلس المستشارين، ابتداء من جلسة يوم الثلاثاء 7 يناير 2014، فقام المجلس بالتصدي التلقائي للشكاية، وطلب توضيحات من الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، التي أفادت في معرض جوابها أنها أقدمت على التغيير المذكور، منذ توصلها بإرسالية موقعة من طرف السيد وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة، تطلب التوقف عن بث فقرة «الإحاطات علما»، وذلك دون الإشارة إلى أي اتفاق من قبيل ما هو منصوص عليه في المادة 25 المشار من دفتر تحملات الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، مما شكل معه في تقدير «الهاكا» تغييرا في توقيت ومدة نقل جلسة الأسئلة الشفوية الأسبوعية لـ 7 يناير 2014 وخرقا لمقتضيات تلك المادة.
ولأن الهاكا «ما مسوقاش» للحكومة، فهي لم تسمح لها بالدفاع عن نفسها، في مواجهة اتهامات الأصالة والمعاصرة، لذلك لجأ رئيسها بنكيران إلى المحكمة الإدارية بالرباط من أجل التظلم من قرارها المتسم بالشطط في استعمال السلطة في حق حكومته، مع طلب إيقاف تنفيذه، فصدر حكم بوقف تنفيذ القرار، إلى حين بت المحكمة الإدارية في موضوع الطعن، فما كان من شركة دار البريهي إلا أن أحالت هذا الحكم بعدما بلغت به، على مديريتها في الشؤون القانونية من أجل تحليله وتقييمه، وربما ترجمته قبل ذلك إلى الفرنسية لفهم مضامينه جيدا، مما أدى إلى تمرير كرة «الإحاطة علما» من بين رجلي مصطفى الخلفي وتسجيل إصابة مشكوك في شرعيتها في مرمى الحكومة المغلوبة على أمرها.
وليست هذه هي المرة الأولى، ولا الأخيرة، التي تقلي فيه «الهاكا» السم لبنكيران، فقد سبق لها بتاريخ 4 فبراير 2014 أن منحت لخصمه اللدود حميد شباط حق الرد على تصريحات تلفزيونية لبنكيران بنسبة مضاعفة، أي «ضوبل روشارج» عندما أمرت كلا من شركة دار البريهي وشركة عين السبع بأن تمنحا لشباط فترتين بمقدار 13 دقيقة لكل واحدة منهما، للرد على تصريحات بنكيران ضد غريمه التقليدي قدرت في 13 دقيقة، قبل أن يأتي قرار المجلس الدستوري في 18 فبراير 2014 ليطيب خاطر بنكيران بإلغاء مقعد حزب الاستقلال بدائرة مولاي يعقوب، وهو القرار الذي أسس بدوره على عيوب وأعطاب الخطاب السياسي لحملة حزب الاستقلال، ولا يزال الصراع محتدما بين الغريمين بنفس الدائرة التي يرتقب أن تعرف انتخابات جزئية يوم 24 أبريل الجاري، وكسب الرهان حول من منهما سيستعيد المقعد بعدما انسحبت كل الأحزاب الأخرى من حلبة المنافسة وتركت الحاج محمد يوسف ينازل حسن الشهبي الملقب ب»بوسنة» في صراع ينذر بمشاهد «تشرميل سياسي» لا مثيل له.
ويبدو أن الصراعات السياسية بالمغرب لم تعد تحسم في الساحة السياسية كمكان طبيعي لها، أو عبر صناديق الاقتراع كما هو الشأن في الدول الديمقراطية، بل إنها أصبحت تنتقل إلى ردهات المحاكم، لتتحول شيئا فشيئا إلى دعاوى ومساطر مطولة، تنافس في حجمها ومردوديتها مساطر الجنحي تلبسي ونزاعات الشغل وقضايا التطليق للشقاق، وترهن القرار السياسي بمواقف قضائية قابلة للاستئناف والنقض، بشكل يعطل عملها ويشل حركتها.
حتى أننا لن نستغرب يوما أن يتم تخصيص غرفة خاصة بالنزاعات السياسية في محاكم المملكة، على غرار غرفة «قضايا الصحافة» التي أنشئت على عهد الراحل الناصري.